- السراج الأرثوذكسي - https://www.alsiraj.org/blog -

كنائس الشرق الاوسط (الجزء الثالث) الشماس اسبيرو جبور

اسبيرو جبّور

كنائس الشرق الأوسط

الجزء الثالث

الذكرى 1550 لمجمع خلقيدونيا

الطبعة المجدّدة والمنقّحة

الكورة (لبنان 2010)

 

-5   المسيحيـّـــة واللغـــة اليونانيـّـــــة

أسَّس الروح القدس الكنيسة في أورشليم يوم العنصرة المجيدة. فبشّر بها الرسل أوّلاً في أورشليم يهوداً من أقطار المتوسط والشرق الأوسط. ثم تابعوا المسيرة في اليهوديّة، فانتقلوا إلى السامرة وسائر فلسطين وسوريا وقبرص وحوض المتوسط حتى إسبانيا ضمناً. وقيل إنّ مرقس الإنجيلي بشّر مصر. فتكون المسيحيّة قد انتشرت في عهد الرسل انتشاراً واسعاً. يُقال إن توما الرسول وصل الهند وإندراوس وصل القسطنطينيّة وبلاد القرم على البحر الأسود. وكان عرب يهود في أورشليم يوم العنصرة. وبولس الرسول هرب من دمشق إلى “العربية”. و“العربية” هنا في اللغة العربيّة تعني دولة الأنباط. عاصمتها البتراء الواقعة على حوالي 80 كيلومتراً إلى الجنوب الشرقي من البحر الميت. كانت دمشق وسيناء تابعتين لها(10).

ربما كان عرب العنصرة منها. فسيناء ما كانت في عهد المسيح تابعة لمصر. ثم انتقلت عاصمة العربية إلى بصرى الشام(11).

قاوم اليهود في فلسطين المسيحية، ثم كافحوها في كل مكان. نشطوا ضدّ قطبها بولس الرسول. فانتقل مركز الثقل إلى أنطاكيا وأفسس وسالونيك وكورنثوس وروما. في أعمال الرسل والرسائل ورؤيا يوحنا تبدو أنطاكيا ومنطقة أفسس حتى البحر الأسود، وبلاد اليونان وروما مسارح ثقل البشارة المسيحية. ولذلك نرى العهد الجديد مدوَّناً باليونانية حتى رسالة يعقوب الرسول أول أساقفة أورشليم مكتوبة باليونانيّة. وهي رسائل موجّهة إلى مدن ومناطق وشعوب حفظتها لنا.

في القرن الأول للميلاد، العهد الجديد يوناني والعهد القديم يوناني. يرى البعض ان كتاب “تعليم الرسل” صدر في القرن الأول باليونانيّة. واستمرّ الأمر هكذا في القرن الثاني وما تلاه. ونمت المسيحيّة على أساس يوناني اللغة. ولمعت سريعاً مدرستا الإسكندريّة وأنطاكيا اليونانيّتان، وتنازعتا الزعامة. وظهرت كبادوكيا. القرن الرابع هو العصر الذهبي للاهوت المسيحي. أبطاله العظام أثناسيوس الإسكندري والكبادوكيون الثلاثة وكيرللس الأورشليمي ويوحنا فم الذهب[1] [1]. أمبروسيوس ميلانو تلميذ لهم. وأوغوسطينوس تليمذه. وإيرونيموس (جيروم) معجب أكبر بغريرغوريوس اللاهوتي. افرام نصيبين شاعر زاهد أكثر منه لاهوتي. المعلّمون الكبار المذكورون كتبوا باليونانيّة. وكتب أمبروسيوس وإيرونيموس وأوغسطينوس باللاتينيّة. الأوّلان متضلّعان من اليونانية. كتب افرام بالسريانيّة. انعقد المجمع الأول (325) في نيقية برئاسة أسقف أنطاكيا (ثيئوذوريتوس ودوشين وفليش) والثاني (381) في القسطنطينية برئاسة أسقفنا. صاغا لنا دستور الإيمان باليونانيّة لغة المجامع السبعة جميعاً. حتى رسالة البابا القدّيس أغاثون ومجمعه إلى المجمع السادس (680) موجودة في مجموعة مانسي باليونانيّة
(المجلّد 11) – وهي لاهوتيّة آبائيّة مطوّلة يعتقد النقّاد اليوم أن مكسيموس المعترف (662) هو غالباً الذي جمع نصوصها الآبائيّة.

وبسبب الهجمات البربريّة على روما والغرب بقي الغرب مرتبطاً باللاهوت اليوناني. لم يستطع شارلمان (مجمع فرنكفورت 794) أن يفصل الكنيسة، إنما فصلها هنري الثاني الألماني في 1022 على يد بابا سياسي ليس فيه وفي أخيه خليفته شيء من الدين، وذلك في رأي بطرس دميانوس وسواه من الغربيّين(12).

ولمّا قابل بطريرك القسطنطينية في 1054 الكردينال المشؤوم بالمثل، كتب إليه بطرس أنطاكيا ليطيل أناته على إخوتنا اللاتين البربر. لفظة بربر هنا وردت بالمعنى الثقافي لأن اللاتين كانوا آنذاك متخلّفين ثقافيّاً.

ذهب اللاهوتي الأرثوذكسي المعاصر جورج فلوروفسكي إلى وجود هلِّينيّة وثنيّة وهلَّينيّة مسيحيّة(13). والمعروف في عصرنا أن أكبر اللاهوتيّين الروس متيوننون: ميرالوت بورودين ولوسكي وفلوروفسكي وفيرخومسكوي ومايندورف. لاهوتهم يوناني. ديمتري ستانيلواي (رومانيا) متضلّع من اليونانيّة كما شهد له مايندورف(14). في القرن الماضي القديس ثينوفانيس الحبيس (1894) الروسي ازدرد الآباء الكاتيبن باليونانيّة أفضل ازدراد كما شهد له العلامة توما سبيدلك(15).

 

6-   اللاهوتيّون المصريّون

أسّس بندينوس مدرسة الإسكندريّة اللاهوتيّة. جميع كتبتها كتبوا باليونانيّة بما فيه ديوسقوروس وبطرس مونغوس وتيموثيئوس الهرّ وخلفاؤهم. وما زالت خدمة القداس الإلهي القبطيّة يونانيّة وحروف القبطيّة يونانيّة الأصل.

 

7-   اللاهوتيّون السوريّون

كتبوا باليونانيّة. حتى يوحنّا الدمشقي الذي كان يعرف العربيّة (وربّما السريانيّة) كتب باليونانيّة. وثيئوذوروس أبو قرّة خليفته في دير سابا وأسقف حران السورية (في تركيا الحالية) كتب بالعربية واليونانيّة (والسريانيّة كما سمعت). رقد في الرب في العام 825.

واستمرّت اللغة اليونانيّة لديهم، فنرى القديس بطرس الدمشقي يكتب في اليونانيّة في القرن الحادي عشر. ويذكر في كتابه أنه لا يملك كتباً إنما يستعيرها، الأمر الذي يدلّ على غنى دمشق في زمانه بالمكتبات اليونانيّة(16)، مع أنّ مركز البطريركيّة لم يكن بعد قد انتقل إليها.

ولكن في القرن السادس عرفت سوريا ثلاثة أحبار على مذهب غير الخلقيدونيّين هم أشهر مؤلّفيهم:

الأوّل هو فيلوكسينوس منبج (ييرابوليس). هو من عراق اليوم. درس في الرها. يجيد اليونانيّة. كان اسمه سريانياً. لما صار أسقفاً سمّي – كالعادة – إسماً يونانياً أي ترجم إسمه السرياني إلى اليونانيّة. سعى في ترجمة جديدة من اليونانية للعهد الجديد..

الثاني هو سويروس الأنطاكي. هذا يوناني من تركيا الحالية. درس في الإسكندرية وفي بيروت. تعمّد في طرابلس على المذهب غير الخلقيدوني. زار حمص لمّا ظهر فيها رأس يوحنا المعمدان (452). هو الذي صاغ صياغة معتدلة مذهب غير الخلقيدونيّة فنقّاه من شوائب المونوفيسيّة (الطبيعة الواحدة). هم بعده على مذهبه(17). أما بطرس القصّار فكان من خلقيدونيا بلد المجمع الرابع. كان راهباً فترك ديره وقدم أنطاكيا في صحبة قائد جيش الشرق زينون. إلى أي درجة هو على مذهب سويروس لاحقاً بدون الشوائب الأوطيخيّة؟ يعسر الجواب. هو الذي عيّن فيلوكسينوس على منبج العام 485، فأقاما الدنيا وأقعداها.

الثالث هو يعقوب البرادعي. أجاد اليونانيّة وكتب في السريانيّة.

هؤلاء العمالقة الثلاثة معروفون بمضاء العزيمة وقوّة الشكيمة. الأخير منهم هو الذي أقام كنيسة مستقلّة ورئاسة كهنوتيّة مستقلّة في العام 543 – 544. رسم عدداً كبيراً من رجال الدين والرهبان. مؤرّخو السريان يبالغون جداً فيجعلون عددهم مائة ألف وعدد الذين رسمهم يوحنا التلة مائة وخمسين ألفاً. معجم التاريخ المذكور يقول إنّ عدد سكّان سوريا الكبيرة قبل الإسلام كان خمسة ملايين نسمة. أرنيست شتاين يعتمد على لائحة أساقفة الكرسي الأنطاكي الأرثوذكسي في العام 570 ليقرّر أن الأرثوذكس كانوا هم الأكثريّة آنذاك. وكان في سوريا آنذاك نساطرة ويهود ومذاهب أخرى. فلا يُعقل أن يخرج من كل 30-50 نسمة من غير الخلقيدونيّين راهب أو إكليريكي.

يعقوب البرادعي على مذهب سويروس. كان النزاع قبله على المناصب. فصل الكنيسة، فاستقلّ غير الخلقيدونيّين عن الخلقيدونيّين. وكانت الطامة الكبرى، والتسابب. فدعا الأرثوذكس المونوفيسيت غير الخلقيدونيّين يعاقبة، ودعا هؤلاء الأرثوذكس ملكانيّين(18).

 

8-   مدرسـة بيروت الحقوقيّـة

مدرسة بيروت هي أشهر مدارس الحقوق الرومانيّة. كانت تخرّج الحقوقيّين اللامعين للإمبراطوريّة البيزنطيّة. الحمصي أولبيانوس والصوري بابيبيانوس هما أشهر الحقوقيين الرومان. كتب الأول أشهر كتبهم. كان أساتذة بيروت رؤساء اللجان لوضع القوانين للإمبراطور جوستنيانوس (527 – 565). كان أساتذة العاصمة القسطنطينية يعملون تحت أمرتهم. وأعاد الزمان الكرّة فأسّس الآباء اليسوعيّون مدرسة الحقوق الفرنسيّة في بيروت وذلك في العام 1913 (على ما أذكر) فخرّجوا للبنان جيشاً من الحقوقيّين الذين لم ينشروا الحقّ والعدالة والأخلاق إلاّ نادراً. إنما احْتَرمُ منهم القاضيين الكبيرين شكري قرداحي وآميل تَيَّان وأندادهما من النزهاء الشرفاء العلماء الأفاضل الأتقياء أصحاب الضمير الحيّ. فيليب حتّي يتّهم الرئيس بشارة الخوري بإفساد القضاء، وذلك في كتابه تاريخ لبنان”: في اللغات الأجنبية يعني ذلك إفساد كل شيء. في الواقع الحقوقيّون يتمتّعون بالحذق. إن لم يقيّد الضمير الحيّ حذقهم كانوا أبناء جهنّم. الشيطان أشدّ حذقاً من جميع البشر. الأخلاق هي الأساس. كتُب تاريخ الحقوق في كليّات الحقوق اللبنانيّة (8-9 والله أعلم). خصّت مدرسة بيروت القديمة بفصول ترفع الرأس بتلك المدرسة الهامّة. كانت تدرّس الحقوق باللغة اللاتينيّة(19)… فسكّان مشرقنا لامعون في تعلّم اللغات الأجنبيّة. أحد أساتذة مدرسة الأليانس الباريسيّة لتعليم الأجانب اللغة الفرنسيّة قال ليوناني: “ستافروس. دع فلاناً (العربي) يعلّمك النطق السليم بالفرنسيّة. ليس كالعرب شعب لإجادة النطق باللغات الأجنبيّة.”

قبل سنوات روى لي الأديب محمد الحاج حسين (طرطوس) أنه كتب مرة، مقالاً في جريدة “الوعي القومي” في اللاذقية. تُرجم إلى الفرنسيّة، فطالبه المندوب الفرنسي دي زيسار، فأعجب به، فقال: لم تعدْ من حاجة لوجود فرنسا في سوريا، ما دام فيها من يكتب هكذا.

فخلال 25-26 سنة من الإنتداب أجاد الناس في لبنان وسوريا الفرنسيّة بنسبة واسعة. كان في صَفّي بالفرير باللاذقيّة فرنسيّان. لمع بعضنا أكثر منهم. فخلال دهور أجاد السوريّون اليونانيّة. مات الإسكندر في العام 333 قبل الميلاد. استمرّت اللغة اليونانيّة فيها حتى بعد الفتح العربي في العام 636. ففي أيام عبد الملك ابن مروان (685 – 705) كانت الدواوين باللغة اليونانية. أمر بتعريبها، فما تمّ التعريب في أيام. وتعريب الدواوين لا يعني تعريب الفكر والثقافة والعوائد والآداب في شهور وسنين. فأديرة السريان كانت تعلّم اليونانيّة. وفي نهاية القرن الهجري الأول كان عدد المسلمين العرب في سوريا ربع مليون في تقدير الأب هنري لامِنس وفيليب حتّي ومحمد زكي النقّاش(20). وقد رأينا بطرس الدمشقي يكتب في القرن الحادي عشر باليونانيّة، فدخل كتابه النسكي الفيلوكاليا اليونانيّة. وفي القرن التاسع ترجم راهبان في دير مار سابا (غور الأردن) نسكيّات اسحق السرياني النينوي من السريانيّة إلى اليونانيّة[2] [2]. وفي القرن الثالث عشر كان علامة السريان ابن العبري الشهير (المتوفي في 1286) مطران حلب يجيد اليونانيّة. أين تعلّمها إلاّ في سوريا؟

فما انقطع تعلّمها من سوريا. فمراجع الأرثوذكس جميعاً تقريباً يونانية. وقد قاموا في القرون 9-17 بحركة ترجمة واسعة من اليونانيّة والسريانية إلى العربية. عبدالله ابن الفضل الأنطاكي (القرن الثاني عشر) فحل كبير. إنما المصيبة في كون لغة الترجمة عاميّة. قرأت قبل عشرات السنين صفحات من اسحق النينوي في لغة فصيحة. وأعلمني – قبل سنوات – الصديق المستشرق البلجيكي مرسال بيرار أن مخطوطة باريس منشأة باللغة الفصحى. أنشأ المستشرق الألماني جورج غراف مجلّدات عن الآداب المسيحيّة العربيّة. إنّما المخطوطات الجيّدة موجودة في أوروبا. لم أستطع الإهتمام إلا بيوحنا السلمي وبعض ميامر افرام، فكان تصحيحهما مشقّة.

واستمرّ الأرثوذكس يستعملون اللغتين اليونانية والسريانيّة. فمعجم التاريخ المذكور يؤكّد أن الرومان واليونان في سوريا كانوا إداريّين وعسكريّين. أي بقي الشعب سورياً ولو نطق باليونانية. ففي مطرانية اللاذقية مخطوطة تعود إلى العام 1732 منسوخة في معاد كسروان من أعمال طرابلس آنذاك. هي أفخولوجيون. قسم هام منه بالسريانيّة والباقي بالعربيّة. الخط جميل نسبياً. وأطلعني الأب اسبيريدون فياض على مخطوطة دفعها إليه الأستاذ الياس خوري (إبن خالي)، فيها كميّة سريانية كما أعلمني الأب فياض. عثرت فيها على تاريخ واحد هو 1793. التوقيع غير مقروء. يقول الكاتب إنها في الأساس لجدّهم الخوري ابراهيم الأنطاكي الأصل. مكان الحاشية هو “صهيون المعالقة” أي الحفة. ما هو تاريخ الترجمة والنسخ؟ لا أدري. وفي معلولا ما زال الناس ينطقون بالسريانيّة. في 1976 أطلعني كاهنها الأب الياس على مخطوطة صلوات أرثوذكسيّة بالسريانيّة. خطّا جميل رائع. كان في دير صيدنايا عدد من المخطوطات الأرثوذكسيّة السريانيّة.

باختصار اللغة اليونانيّة استمرّت في سوريا من 333 حتى الفتح العربي 636 (أي 969 عاماً). ثمّ استمرّت بكثافة أو نسبياً حتى قرون لاحقة. وفتح الخليفة العباسي المأمون الباب على مصراعيه أمام الفكر اليوناني.

ويعرف المستشرقون الكبار مديونيّة الفكر السرياني للفكر اليوناني. لما قلّد السريان العرب، فوضعوا الحركات على لغتهم، حرّكوها بالأحرف اليونانيّة. ورسم دوفال في كتابه “تاريخ الآداب السريانيّة” خريطة للنشاط الفكري السرياني في آسيا. نقلها عنه الأب جان سعادة. بخارى هي إحدى عواصمها. وفي القرنين العاشر والحادي عشر كان للأرثوذكس كاثوليكوس في نيسابور عاصمتها (رستم 126:2 – 127).

ففي امتداد الكرسي الأنطاكي إلى تلك الديار وجيورجيا احتلّ العنصر الديني المقام الأول وسط قارة من الأجناس واللغات والقوميّات. أصحاب هذا النشاط هم في الأساس مسيحيّو فارس[3] [3]. ذكرنا أن رئيس مذهبهم إنطاكي كتب باليونانية. فما نشروه، إذاً، هو المسيحية الأنطاكية الثيئوذوروسية.

وفي الملحق عن أبرشيات الكرسي الأنطاكي الأرثوذكسي يرى المرء رقعته الواسعة التي تضمّ أمماً عديدة. وكذلك المسيحيّة الفارسيّة. إذاً: ليس للكنيسة طابع قومي وإن كانت لغتها اليونانية أو السريانيّة في أصقاع دنيا الله الواسعة.

 

9-   سوريا في القرن الخامس

عمرت سوريا منذ القرن الرابع بالأديرة. رقد الذهبي الفم في العام 407. كان خلفاً في العام 398 لنكتاريوس على القسطنطينية. خلفه أخو نكتاريوس. هذان من كيليكيا السورية. في العام 428 خلفهم نسطوريوس السوري (من مرعش). خلفه بروكلوس تلميذ الذهبي. خلفه فلافيانوس السوري أيضاً (446 – 448). بين 381 و484 اعتلى عرش العاصمة خمسة أساقفة سوريين. ما كان ذلك ليسرّ أسقفي الإسكندريّة ثيئوفيلوس وابن أخته كيرللس المتوفي في 444. ازدياد نفوذ الأنطاكيين في العاصمة أثار غيرة المصريين. في المجمع الثاني (381) شنّ الأساقفة المصريون نقمة على رئيسه غريغوريوس اللاهوتي العظيم. كانت الإسكندرية تخشى أن تحتلّ العاصمة المرتبة الثانية بعد روما، فتتقدّم عليها. ثيئوفيلوس حكم على الذهبي في مجمع السنديانة. أقام الدنيا عليه. حالف الملكة خصم الذهبي، فتسبّب له بالنفي إلى أرمينيا حيث رقد. وديوسقوروس حالف الوزير النافذ وإمبراطوره لينصّب نفسه بطريركاً مسكونياً. وضراوة سلفه كيرللس ضدّ نسطوريوس واضحة، وإن كانت حرارة إيمانه قد انتصرت على النسطورية. مصر غيورة على زعامتها وسلطتها. السوريون متفرّقون متنابذون. كان أساقفة سوريون (حلب، جبله، قيصرية…) ألدّ أعداء الذهبي في صفّ ثيئوفيلوس المصري. إلاّ أن الحقوقي إيلبيديوس أسقف اللاذقية دافع عنه.

الكتّاب السوريون انحرفوا، فانتهوا إلى نسطوريوس. سقط هذا. إنما لمع منهم ثيئوذوريتوس الأنطاكي أسقف قورش الذي كان بطل الصلح مع كيرللس الإسكندري في العام 433. سيرد ذكره لاحقاً.

وإن صحّ أن مكاريوس المنحول صاحب المواعظ الروحية الرفيعة هو سوري (430) كنّا أُمَّ الصوفية الأرثوذكسية.

 

10- سوريا في القرن السادس

المؤرّخون متّفقون على أنّ القرن السادس هو قرن سوريا إقتصادياً وتجارياً ورهبانياً ولاهوتياً وعلمياً وفنياً وفلسفياً. ذكرتُ المصادر في كتابي “دمشق ولاهوت الأيقونة”. احتلّت سوريا العالم إقتصادياً، فكانت قلب الإمبراطوريّة الرومانيّة وسيّدة التجارة من الباسيفيك واليابان حتى أوروبا. وطريق الحرير من اليابان والصين والهند وأفغانستان إلى أنطاكيا مشهور، وذكرته وسائل الإعلام كثيراً في السنوات الأخيرة متوقّعة عودته إلى الحياة.

لاهوتياً لمع لدى المونوفيسيّة الفحول الثلاثة المذكورون أعلاه أي فيلوكسينوس وسويروس ويعقوب البرادعي.

لمع لدى الأرثوذكس أفرام الآمدي بطريرك إنطكيا ويوحنا النحوي الكيليكي ولاونديوس الأورشليمي وأنستاسيوس الأول بطريرك أنطاكيا. عقد هذا مجمعاً ضدّ الإمبراطور جوستنيانوس في العام 565 فحضره 154 أسقفاً. وهو العدد الذي جاء في لائحته المؤرّخة في العام 570، فنشرها البطريرك السرياني الأسبق مار افرام برصوم مقابلاً إياها بالترجمة السريانيّة. وهناك ديونيسيوس المنحول الذي كتب بين 500 و510. وهو شهير جداً. وأيضاً الإمبراطور جوستنيانوس مع بعض التحفّظ.

 

 

11- سوريا في القرن السابع

في القرن السابق ولد يوحنا موخوس وتلميذه صفرونيوس الدمشقي. صار الأخير بطريركاً على القدس في العام 734 – 11/3/638، فسلّمها إلى الخليفة عمر بن الخطّاب في 638. تلميذه مكسيموس المعترف هو في عصرنا أكثر آباء الكنيسة إثارة لاهتمام الباحثين. ما كُتِب عنه تقريباً يؤلّف مكتبة ولمّا يجفّ الحبر. أعيا الباحثين.أيّد لارشي قولي إنّه عسير. على فكره اللاهوتي قام المجمع السادس المسكوني بفضل تأثيره على البابا مرتينوس وكلّ خلفائه الذين أنهكوا خلفاء الملك هرقل، فخنع قسطنطين الرابع، ومدّ يده إلى روما، فاشترط عليه البابا اغاتون انعقاد المجمع السادس. فانعقد المجمع في 680 – 681 آخذاً بأقوال البابا أغاثون المكسيموسية الصنع غالباً.

توفّاه الله وهو ابن 82 عاماً في 662. كان Dalmais قد أخذ بمخطوطة مارونية تقول إنه مولود في خسفين الجولان السورية لا في القسطنطينية. ثمّ تراجع. في 2001 قولٌ إنه من خسفين. في جميع الأحوال لاهوت مكسيموس سوري. من تاريخ اللاهوت والعقائد نعرف أن فوتيوس (891) هو أول لاهوتي قسطنطيني كبير. تبنّى تراث أنطاكيا وعمّمه. يوحنّا الدمشقي أكبر تلاميذ مكسيموس البعيدين. لاهوت مكسيموس يحلّ مواضيع ساخنة في سوريا:

1-    تنازع القائلين بالطبيعة الواحدة والطبيعتين.

2-    التنازع الجديد بين الأرثوذكس وأصحاب المشيئة الواحدة وتفاهم الملك هرقل مع بطريرك السريان القائلين في النهاية بالمشيئة الواحدة والطبيعة الواحدة. مكسيموس يعتبر سويروس الأنطاكي أبا هرطقة المشيئة الواحدة. تاريخياً سرجيوس القسطنطينية السوري الذي ضلَّل الملك هرقل هو أصلاً سويروسي.

3-    الرد على رهبان أهل الطبيعة الواحدة في سوريا الذين كانوا يأخذون على الأرثوذكس – زُوراً – استحالة الإتحاد بالله إن كان في المسيح طبيعتان. فمكسيموس أوسع القدماء في الكلام عن التألّه المفقود لدى النساطرة، فقطع بذلك جذور اتهام السريان للأرثوذكس بالنسطوريّة. ولكن الأحقاد في سوريا أعمت الكل باستمرار. في العام  681 (في المجمع 6) وفي العام 692 (مجمع تروللو) وفي العام 787 (المجمع 7) كفّرت الأرثوذكسية نسطوريوس (الشرع الكنسي، ص 534 و801 – 802). ومع ذلك استمرّ السريان في اتهامنا بالنسطوريّة. وفي كتابي “معنا هو الله فانهزموا” تشريح دقيق لكفر النسطوريّة. ليست هرطقة بل كفراً وتهوّداً. أسأل الله أن يساعد ذلك غير الخلقيدونيين على الصحو الكامل بعد التشاتم باطلاً منذ القرن الخامس – السادس.

4-    حلَّ أفضل حلّ الصراع بين صفرونيوس الدمشقي معلّمه القائل بالمشيئتين والفعلين وسرجيوس سرمين (إدلب) المونوفيسيتي الأصل بطريرك القسطنطينية القائل بالفعل الواحد والمشيئة الواحدة. أوضح نهائياً عقيدة التجسّد الإلهي، فتبنّاه المجمع السادس المسكوني (680-681)؛ وكفّر مجمع تروللو الخامس -السادس (692) نسطوريوس؛ وتبنّاه يوحنا الدمشقي (749/750)، فتبنّى المجمع السابع يوحنّا هذا في عقيدة حلول النعمة في الإيقونات؛ وتبنّاه غريغوريوس بالاماس (1359) بخاصة في عقيدة النعمة المؤلّهة غير المخلوقة، فسقط فرع النسطوريّة الأخير: عدم امتلاء جسد يسوع بلاهوته. مكسيموس يقول بتألّه جسد يسوع الذي صار مصدر تألّه الإنسان.

الخلاصة: مكسيموس حلّ الخلاف بين مدرسة أنطاكيا الهرطوقيّة (نسطوريوس) ومدرسة اللاذقيّة المنوفيسيّة (أبوليناريوس وفرعه القسطنطيني أوطيخا وملابساته، وفرعه السوري سرجيوس سرمين). في زمن زعامة سوريا للأرثوذكسية والمونوفيسية والنسطورية لا يمكن أن يأتي الحلّ إلا من خلقيدوني أصيل تبنّى لاهوت لاونديوس الأورشليمي.

المؤرّخ خريسوستموس باباثوبولوس يرى أن يوحنا السلمي هو سوري. فقد ترهّب وهو ابن 16 سنة. توفّاه الله حوالي 649/650. كتابه هو الكتاب النسكي المركزي الأساسي (يوناني). اسحق النينوي مولود في قطر. صار أسقفاً على نينوى لمدة خمسة أشهر، ثم استقال، وترهّب في الأهواز. مات في النصف الثاني من القرن السابع.

 

 

 

12- سوريا في القرن الثامن

وهكذا انتقلت زعامة اللاهوت الأرثوذكسي إلى دمشق:

1-    إندراوس الدمشقي أسقف كريت (740) الرائع. خصّصته بكلمة في كتابي “في التوبة”. أناشيده الدينيّة زينة الكنيسة.

2-    يوحنا الدمشقي قاعدة اللاهوت الأرثوذكسي غرباً وشرقاً (749/750).

3-    رفيقه في السكن والدراسة كوزما أسقف ميُّوما مرفإ غزة (فلسطين) المرنم الكبير.

ما المجمع السابع المسكوني في 787؟ إنه إعلان رسمي لصحّة لاهوت الدمشقي.

 

13- سوريا والمجامع المسكونيّة

ثيئوذوريتوس يؤكد أنّ أفستاثيوس أسقف أنطاكيا كان رئيس المجمع المسكوني الأول في العام 325. وكان ملاتيوس رئيس المجمع الثاني (381). وكان ثيئوذوريتوس كاتب صيغة دستور الإتحاد لكيرللس الإسكندري (433)، وبطل لاهوت المجمع الرابع المسكوني (451). وسيطر لاهوت لاونديوس الأورشليمي على الإمبراطور جوستنيانوس والمجمع الخامس المسكوني (553). أما السادس فكرّس لاهوت مكسيموس، وإن ترأسه جيئورجيوس القسطنطينية. وسيطر لاهوت الدمشقي على المجمع السابع برئاسة طراسيوس بطريرك القسطنطينية (787). وجاء الدمشقي إكليلاً للجهود اللاهوتية السابقة، فصار إماماً للاهوت شرقاً وغرباً لدى الأرثوذكس حتى فصلنا الملك هنري الثاني الألماني في العام 1022 بزيادة ضمها في روما إلى دستور الإيمان، كان قد رفضها البابوات سابقاً.

وما برزت القسطنطينية إلا مع القديس ثيئوذوروس الستوديتي (826) السائر في ركاب الدمشقي، وفوتيوس الكبير (891) الذي تبنّى التراث الأنطاكي، فعبّره إلى العالم الأرثوذكسي غرباً وشرقاً: لاهوت، روحانية، رهبانية، أناشيد، صلوات، طقوس، موسيقى، فنون… فخدمة القداس الأرثوذكسي للذهبي الفم. الصلوات لاندراوس ويوحنا وكوزما الدمشقيين بكمية واسعة، فضلاً عن رومانوس الحمصي. ليوحنا السلّمي الكتاب المركزي في النسك، كتاب “السلّم إلى الله”. مكسيموس المعترف أعجوبة الكون.

إسحق النينوي ومكاريوس المنتحل وديونيسيوس المنتحل ومكسيموس المعترف واسحق هم أساس اللاهوت الصوفي بعد غريغوريوس النيصصي، إلى أن ظهر غريغوريوس السينائي (1346) وغريغوريوس بالاماس (1359) وكوكبة الآثوسيين في القرنين الرابع عشر والثامن عشر. وخاتمتهم في أيامنا الأب بانيسيوس. حتى باسيليوس الكبير مرّ على سوريا وتعرّف على رهبانيّاتها. وكاسيانوس مرّ عليها أو تعرّف عليها عن طريق يوحنا فم الذهب الذي أذهله. فتراثنا الأنطاكي هو قلب الأرثوذكسية النابض. سيرافيم ساروفسكي قديس روسيا الأكبر كان يقلّد النسّاك السوريين في حياته. العموديّون والحبساء الأولون والمجانين الأولون لأجل المسيح سوريون.

 

14- الإنتشار المسيحي القديم

نشأت المسيحية يوم العنصرة في أورشليم القدس. ثمّ امتدّت إلى حوض المتوسط وبلاد فارس القديمة، فاصطدمت باليهودية ومجموعة واسعة من الأديان والمذاهب والأفكار، والفلسفات اليونانية وسواها، والأساطير الوثنية، والعبادات الوثنية. لم يكن التلمود والقبالة والزهار قد دوّنت، ولكن مدوّنيها اللاحقين يزعمون أنها تعليم شفوي فتناقلها الآباء منذ موسى النبي. في 8/1/1995 وشباط 1995 شننتُ الحرب على بدعة الإيزوتيريك الواردة من أميركا. فضحتُ أصولها اليهودية التلموديّة والقبالية الموجّهة ضدّ المسيحية بضراوة، لنشر الإباحية والتفسير الباطني الكافر أشدّ الكفر. فتحرّكت السلطات في شمال لبنان لتفكيك عراهم. وفي كتابي “المرأة في نظر الكنيسة” نبذة عن وضع المرأة في التلمود. إنما في مذكرة شباط 1995 تفصيلات أخطر بكثير. ولم أذكر كل شيء. هذه الكتب أفرغت التوراة لديهم من سمّوها. وهي أساس المكر اليهودي ودسائسه.

في كتاب “شهود يهوه، السبتيون، المعمدانيون، المتجدّدون…؟ فضحت أصولهم اليهودية الهدّامة ودعوتَهم وأضرابهم إلى الفناء الذري ليبقى اليهود وحدهم في العالم. لا ينتهي اليهود في أميركا من إخراج المذاهب الهدّامة مثل كنيسة الشيطان التي تعلّم الإنتحار.

قبل 40-45 سنة شعرت أن اليهود هم مصنّفو كتب الأبوكريفا. فاللفظة يونانية تعني “المستور، المخبَّأ…”. إذاً، هي باطنية. ثم قرأت لباحث أوروبي (نسيت اسمه) رأياً مشابهاً. على ضوء البدع الأميركية التي دسّها اليهود على المسيحيين في أميركا (بما فيه الإيزوتيريك أخطرها) يقوى رأيي هذا. اليهود أدهى المزوّرين الدسّاسين على الأديان والمذاهب. يحملون التوراة وهي بريئة منهم في النهاية. يشتمون مريم العذراء بوقاحة. حتى ويل ديورات اليهودي المؤرّخ المشهور لم يسلم من هذا الكفر، فشتم العذراء وابنها بكفر كبير.

صلبوا المسيح، واضطهدوا الرسل، وبرعوا في الوشايات ضدّنا للسلطات الرومانية والفارسيّة وحيثما حللنا. تآمروا وما زالوا يتآمروان على المسيحية. أما الأديان الوثنية فقد امتزجت – وعلى الأخص في سوريا أرضها المختارة على ما ارتأى الجزء 2 من تاريخ فليش ومارتان.

وشنّ الأباطرة الرومان وشاهنشاهات فارس الإضطهاد. كتب بولس Alard خمسة أجزاء هامة في ذلك. سير القديسين (في اللغات الأجنبية والسريانية والعربية وعلى الأخصّ النيّف ومائة مجلّداً للآباء البولانديست) مترعة بألوان الإضطهاد الوحشي في القرون الأربعة الأولى، وحتى الخامس وما تلاه في فارس. فضلاً عن ذلك نشأت الهرطقات (البدع) حتى في عهد الرسل. من أخطرها الدوكية التي تنكر حقيقة التجسّد الإلهي، بينما ينكر غيرها ألوهة يسوع. وقد استشرى خطر الغنوسطية العرفانيةمنذ ذلك الحين. فقد فشلت الفلسفة اليونانية في تعبئة الفراغ الداخلي، فنادى الغنوسطيون بالخلاص، ولكن عن طريق المعرفة. هدّدوا المسيحية في القرن الثاني، فانبرى إيريناوس ليون لمحاربتهم. في كتاب الشهرستاني نبذات عن بعضها. بيان ابن سمعان النهدي أحد هراطقة الإسلام على مذهب الدوكيين. قرامطة البحرين على مذهب بدعة المصلين في التحلّل من الوجائب والتركيز على الروح القدس، ليقولوا بحلول الروح الإلهي. هذا في بدعة مسيحية أخرى تقول إنّ المسيح ليس بإله إنما تألّه بحلول الروح القدس في يوم اعتماده. زالت العرفانية من العالم المسيحي، إنما يدسّ اليهود شيئاً من الدوكية على شهود يهوه القائلين بأن قيامة المسيح وظهوراته بعد القيامة أوهام.

ولكن لم تصمد لا اليهودية ولا وثنيات حوض المتوسط وفارس أمام صليب المسيح. لقد طمسها الله. وما ينبشه علماء الآثار والتاريخ يدلّ على أن أديان المتوسط وفارس القديمة صارت مدفونة لأنّ الصليب هشّمها، فكفرت بها الشعوب رافعةً راية الصليب. شخص يسوع المسيح ذوّب الوثنيات والفلسفة اليونانية. ليس من شيء جدير بالذكر بعد شخص يسوع. وحده جذّاب مهما فتنت الفلسفة اليونانية أوروبا الغربية: جعلتها عقلانية بدلاً من روحانية روحانيّي القرن الثالث عشر. هرناك الألماني فشل في التدليل على أن آباء الكنيسة خاضعون للفلسفة اليونانية. لقد هشّموها باللغة اليونانية نفسها. استعملوا اللغة وأنكروا الفكر اليوناني الوثني.

المسيحية الأرثوذكسية شخصانية تقوم على شخص يسوع الإله-الإنسان. الغرب يدرس يسوع بعقله. العقل عاجز عن احتضان يسوع كما تحتضن الأم رضيعها. هذا فارق هام بين الروحانيّتَيْن. الأرثوذكسية تضم يسوع بالقلب فينجرف العقل وراء هوى القلب. لا يعني يسوع لي شيئاً إن لم يسكن في قلبي حياةً لي تملأ كل وجودي وكياني، وتفيض مني نوراً للآخرين. فليس الكتاب المقدس برمّته بشيء ما بدون التصاقي بالرب يسوع. ليست المسيحية مجلدات من الدراسات المسيحية الغربية الجافة الخالية من نبض الحياة، بل هي يسوع. يسوع هو المسيحية. يسوع قال لبولس: “شاول، شاول، لما تضطهدني؟” (أعمال 4:9). ما كان شاول يضطهد المسيح، بل الكنيسة. يستنتج الذهبي وأوغسطينوس من ذلك أن الكنيسة هي المسيح. نحن الكنيسة. نحن، إذاً، المسيح. والباقي كله وسائل. الكتاب المقدس وسيلة لا غاية. ليست المسيحية ديانة كتاب وحرف، بل هي ديانة الروح القدس الذي يطبع فينا يسوع صورة الآب السماوي، فنشاهد الآب في ابنه. هذا هو لاهوت آباء الكنيسة لا حذلقات العقلانيين الألمان وسواهم من العميان. للذهبي الفم في تفسير متّى رأي جميل سيظهر قريباً في ترجمة الدكتور عدنان طرابلسي. الأرثوذكس يتلون الإنجيل والرسائل في كنائسهم ترنيماً، لأنهما كتابا صلاة وتقوى. اعتراض البعض على ذلك ينمّ عن جهل للموضوع.

في كتابي “سرّ التدبير الإلهي” طعنتُ في الصميم، اللاهوت المدرسي، بخنجر شخصانية آباء الكنيسة: أقمت المسيحية على شخص يسوع. والحبل على الجرار في كتبي جميعاً. فمحاولات نبش الوثنية القديمة فاشلة سلفاً. من يقاوم صليب المسيح يرفس المناخس. لم تقف أمامه الوثنية في أصقاع انتشاره. داسها ودفنها. لا قيامة للوثنية حيث حلّ الصليب. الشقشقات الفارغة ستبقى فارغة. بعد حوالي ألفي عام من يسوع، ما ازداد الناس إلا فتكاً وانحلالاً. فلولاه لأفنى الناس بعضهم بعضاً. هو صانع الضمائر الإنسانية الحية الملائكية، فقدّس كرامة الإنسان بدون تمييز بين البشر. تجربة الإلحاد في روسيا فشلت، وعاد الإيمان إلى عرينه. فالرئيس فلاديمير بوتين دعامة للإيمان. الأرثوذكسية توازن بين الروح والجسد المتّحدين. لا تفصلها مثل نسطوريوس وديكارت.

 

 




[1] [4]    يبدو – في رأي أحدهم – أن باسيليوس وصديقه غريغوريوس وأمفيلوخيوس الكبادوكيين تتلمذوا على يد الفليسوف الأنطاكي الشهير ليبانيوس. والذهبي تلميذه الأكبر. القرابات الذهنية والمنهجية بين الثلاثة واضحة. ولدى الكنائس القديمة جميعاً هؤلاء الثلاثة هم معلّمو الكنيسة الكبار. جلنثيل يذكر تأثير أنطاكيا في الفكر العالمي.

[2] [5]    أتى رهبان من جنوب العراق دير مار سابا (غور الأردن) فترجموا. إذاً: كان بعضهم على الأقل يجيد اليونانيّة.

[3] [6]    كان العراق الحالي في مملكة فارس. لغته هي السريانية الشرقية. انتشرت المسيحية بينهم أولاً. قاومها العنصر الفارسي الأصلي باضطهادات مريعة. ثم دخلوا فيها نسبياً.