- السراج الأرثوذكسي - https://www.alsiraj.org/blog -

ميلاد المسيح (ميمر) بقلم : المغبوط الشماس المعترف اسبيرو جبور _ 1985

[1]

تأمل في عيد الميلاد

هذا الكون العجيب، يُذهل بدقائق تكوينه كل عقل حصيف.ألوف الأدمغة الجبارة عبر التاريخ حرث في فهم الكون وتعليل أسباب وجوده.منها ما خبط  خبط عشواء،ومنها ما كان حكيما فتطلع الى باري الأكوان ليلتمس أنامله من وراء الحجب الكثيفة.ولمن الأمر استعصى على الناس،لانَّ جلال صانعنا أبعد من أن تطاله عقولنا المحدودة وأفكارنا السقيمة.وكاما غاص قوم في  التفتيش وصلوا الى الاقرار بالعجز والى التسليم بإت الباري ترك لنا في خلائقه علامات تهدي الى الاعتراف بوجوده.وإنما بقي الانسان مقهوراً ومغلوباً على أمره.يشاء من الله آثاراً محسوسة ليرضي فضول عقله،فإذابالله يزداد بعداً،ويوغل في الإحتجاب عن الأنظار.إنه غير الملموس،غير المنظور،غير المحدود،غير المدرك،ولكنه حاضر موجود.وجوده وحده يفسّر كل وجود آخر.بغيره لم يكن شيء مما كان،لأن الخلائق جميعا مخلوقات محدودة في الزمان والمكان.أما الله فتعالى وتمزَّه عن الزمان والمكان.والانسان بوضعه الحاضر محدود في ذكائه،محدود في عقله،محدود في فهمه،محدود في قدرته.جسمه أوهى من جسم الحيوانات.إنما هو بفكره – وبالأحرى بشخصه – سيِّدها.ولكن هناك محدودية أخطر من سائر المحدوديات،إنها المحدودية الأدبية.فالإنسان خاطئ.وقد يبلغ خطر خطيئته حدَّ إلقاء القنابل الذرية والايدروجية.وهذه أخطر من الجراثيم ومن مجموع حيوانات الأرض على مدى التاريخ كله منفردة ومجتمعة.فهل هذه الحدودية في شيء يذكر فيما يتعلق بتعذر إمتداد الإنسان الى الله؟هل هي سبب إحتجاب الله عنا؟ليس ضعف المواهبالعقلية عاراً ولا حاجزاً.والموهوب لا يسحر ألباننا إن كانت أخلاقه مختلة.إنما نحب،بإعجاب،ذاك إن كانت رفعة أخلاقه ساحرة.فالإنسان بأخلاقه أولاً ثم بعقله،العقل سيف ذو حدين: هو أداة خير في أيدي الصالحين وأداة في أيدي الطالحين إذ يسيئون استعماله.فإن كان في الإمكان إقتحام الحجب فالأخلاق أقدر على ذلك من الفكر المجرد .

الديانة علّمتني أن آدم قطّضع أوصال الخليقة مع الخالق،أن خطيئته أقامت حاجزاً يعسر إقتحامه.لإنحسر قدُّ آدم نحو الله.فقد القِوى التي كان يمكن له بها أن يحتضن ما يشاء الله أن يناوله إياه،وخرج من مدار الأبدية وعدم الموت، الى دورة فساد وانحلال وفناء.صار مائتاً،صار دمية حدود الزمان والمكان. صار يتحرك فيهما ويخضع لشروطهما وقيودهما بعد أن كان مدعواً الى تمدُّد بلا حدود في حضن الله الغير المحدود لا في زمان ولا مكان.صار الانسان متروكا لِقَدَرِه الشخصي يصنعه على هواه غالبا ضلال مبين.

لذا فتاريخ البشرية هو تاريخ العيش في غيبة عن الله.إلا كلما شاء بفائق لطفه أن ينزل في التاريخ كما كان الملاك ينزل في بركة بيت حسدا (يوحنا : 5).ولكن تبقى هذه النزلات بل بالاحرى هذه الإنقضاضات كما ينقضّ النسر على فريسته،بلا معنى كبير،إلا إذا كانت نابعة من مخطط مرسوم في المقاصد الإلهية السرمدية،ليستعيد الله جبلته التي أتقن صنعها على صورته ومثاله.

وهل يليق بهذه المقاصد إلا أن تكون شأبيب رحمة تنبع من معدن الجودة والصلاح والمحبة؟وهنا بيت القصيد: ما كان من الممكن أن يغلق الله أحشاءه.الله قادر على كل شيء،ولكنه غير قادر على إرتكاب الشر،غير قادر على إهمالنا حتى النهاية،وهو يعلم أننا ضحية خداع شيطاني وأن فينا جوعاً وجودياً إليه.وليس أدلُّ على ذلك من عجز كل شيء ملموس عن إرواء عطشنا.نبقى في جنوناً جوع وعطش إلا إذا إختبرنا وقلنا مع المزامير:” ذوقوا وأنظروا ما أطيب الرب”.

سفر الجامعة  في العهد القديم أبدع في تصوير الفراغ الكامل الذي ينهش بني البشر إلا من افتقده ربه،فأشبعه تقوى ومخافة الله.

ونلمس في طول العهد القديم وعرضه إنقضاضات الله.إلا أنها كلها لا تروي الغليل ولا تنقع عطشنا.وكلما تكاثرت وتواترت طفح الماء وراء السدود وهدَّدها بالتحام وإغراق الأرض بالفيضانات،حتى إننا نستطيع أن نقول باستعار تعبير بشري:ضاق الله بالأمر ذرعا،طفح كيله،خرج الأمر من سطوة سلطانه .

طبعا هذا لا ينطبق على الله،ولكنه يعطي صورة عن حالة آخر الأزمنة،عن الأيام الأخيرة(أعمال 2:71 عن يوئيل 7: 1 – 5).طفح كيال حنان الله،فكان ملء الزمان هو ملء مراحم الله الغزيرة.وأي ملء أعظم من أن يكون المستحيل فكان؟فأرسل الآب ابنه الى العالم برضوان الرةح القدس ومساهمته.وصار غير الموسوع موسوعا،وغير المحدود محدودا، اوغير الممكن  ممكنا.وارتدى الله طبيعتي الساقطة دون ان يتلّوث بخطاياي،لكي ارتدي أنا ما تيسّر لي من ألوهيته.يا لهول الحدث! كان الملاك جبرائيل ومريم العذراء شاهدين على أهم حدث في تاريخ العالم.لماذا لم ينفجر عقل جبرائيل؟لماذا لم تذب مريم؟ألم يقل الله لموسى إنه لا يستطيع إنسان أن يرى الله فيبقى حيا؟هل ناقض الله ذاته؟مريم لم تره وإنما حملته في أحشائها 9 أشهر وربتّه ورافقته حتى فارقها يوم الصعود الالهي.لماذا لم تلتهب أحشاؤها وتتلاشى كما يلتهب بنزين الطائرات؟كيف عاشت بعد ذلك والله قال لموسى إن هذا مستحيل؟.

تقول ترنيمة:” ولكن حيث يشاء الله يُغلب نظام الطبيعة”.ولكن نحن هنا أمام أمر يفوق الطبيعة والزمن. فلا جبرائيل ولا مريم نفسها بقادرَين على الإحتمال.إنما هكذا شاء الله.شاء مرةَ أخرى أن يقتحم المستحيل،فكان المستحيلُ ممكناَ.

الإنسان يعجز عن رؤية الله،ولكن الله شاء، لا أن نراه فقط،بل أن تحمله مريم في أحشائها وعلى ذراعيها.نهنّئ جبرائيل على حظه في خدمة الرب.ولكن نعجز عن إختراع الكلام الموافق لنقوله للعذراء مريم.والأفق أن نضع الهامة علىالأرض في سجود وصمت،مقتدين بمريم التي كانت تحفظ كل شيء عن يسوع وتتأمله في قلبها (لوقا 2: 19).مريم هي الشاهد الأكبر الحي علفى مراحم الله.أليست هي أداة هذه المراحم ؟نِعَم الأداة هذه الأداة. فنار اللاهوت لم تفنها،ولم تذهب ببصرها وبصيرتها،ولم تنل من قواها النفسية.الدهشة لم تدمِّ قواها العقلية كمن يصاب بالجنون أمام المفجأت والأخطار الجسيمة.في كلام الله لموسى الأمر أكبر خطر جسيم.مريم تبدو في كلام لوقا غير مصابة بدهشة ورعب،كانت تحفظ وتتأمل،كان يسوع محطَّ نظرها وفكرها وتأملها.وليس لدينا  عن لسانها إلا كلام نادرا جدا.يا لهول هذه المرأة التي بصَمتها الرهيب وهيامها الواعي بابنها ربها الحبيب تبدون إنساناً فوق البشر،إنساناً قد اجتاز هذا الكون ليبدو ثابت النفس، بقالب الهي يدهشنا نحن الساقطين العاجزين.

هذا الإله الذي صار إنساناً يقي في أحشاء البتول 6 أشهر.ومان قد صدر أمر عن أوغسطس قيصر بإجراء إحصاء عام.وكان ذلك في أيام كيرينيوس والي سورية التي كانت عاصمتها أنطاكية وفلسطين تابعة لها.وتحقيقات العلماء    تجعل ذلك اليوم/بين العامين 8 – 6 قبل السنة الميلادية السارية المفعول الآن.وكان يوسف ومريم غادرا الناصرة في الجليل شمالاً وقدِمّا بيت لحم الواقعة على حوالي 9 كيلو مترات الى جنوب أزرشليم القدس، بالقرب من قبر راحيل زوجة يعقوب ابي الأسباط الإثني عشر.ولكن لم يجد مكانا يحلّ فيه في بيت لحم .ولم تكن بيت لحم مدينة كبيرة عامرة بالفنادق.فاللفظة اليونانية التي استعملها لوقا الانجيلي هي غير اللفظة التي استعملها في مثل السامري الشفيق.ففي القدس كانت توجد فنادق.أما في بيت لحم فمبيت الغرباء أصغر من فندق.فلاذ يوسف بمكان مذود للبهائم.هو خان من خانات ذلك الزمان.

وكان قد تم الزمان لولادة يسوع/فولدته ولفّته بالأقمطة ولم يكن في المكان اتساع،فوضعت يسوع في المذود.هذا الذي لا تسعه السموات والأرض،هذا الذي خلق الأكوان في لحظة لما شاء فقط،لا يجد له مكاناً لا في بيت لحم،ولا في موضع صغير ضيق، وسِعَه مذود البهائم .

يسوع بميلاده هذا  كسر الموازين والقيم الطبيعية:لم تلده أمه بالأوجاع والأحزان والطلق والمخاض على حسب قضاء الله على حواء.يسوع ابنها محبول به بفعل الروح القدس،الحبل به خارق للطبيعة.أمهالبتول قد طهَّرها الروح القدس قبل الحبل لتكون حواء جديدة.اشعياء النبي سماها ” البتول”.فهي بتول دائمة البتولية.ولدت وهي بتول.ولادتها معجزة كما أن حبلها معجز.لم تتلبك في ايداع يسوع مذود البهائم مع أنها علمت من الملاك أنه ابن العلي.وأحضرت معها الأقمطة.كانت تعرف أن زمان ولادتها قد اقترب.لم تلتمس مكاناً للمبيت لدى الكهنة والوجهاء معتمدة على رفعة من تحمل في أحشائها. يسوع صلب نفسه منذ حلَّ في أحشائها.فأخفى نوره الباهر أكثر من الشمس،عن العيون الا لما شاء أن يكشفه يوم التجلي لبطرس ويعقوب ويوحنا.هذا التنازل هو بداية درب الصليب.بولس سمّاه ” إخلاء”.قال “أخلى ذاته “(فيليبي 2: 7)أي أفرغ ذاته كما يتم افراغ الوعاء أو اخلاء المكان.كيف يخلي ذاته وهو الذي يملاء كل مكان.وهو المللء الذي يملأ كل الشيء؟صار الاله إنساناً،احتجبت الشمس في قطعة شاش،في قماش شفَّاف.هذا تواضع؟.

بولس قال في المكان نفسه :” وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب”(فيليبي2: 8). وفي الرسالة الى العبرانيين جاءأن يسوع شقَّ انا طريقاً جديدة حية “خلال الحجاب أعني جسده”( 10 : 20).وجاء فيها ذكر نبؤة عن لسان يسوع :” هيَّات لي جسداً هاءنذا آتي لأعمل،يا الله،بمشيئتك”(10 : 5 – 7).وزاد الكاتب :ط وبقوة هذه المشيئة قُدِّسنا نحن بتقدمة جسد يسوع مرة لا غير”(10 : 10 ) .مَنْ كل شيء رهن إشارة أمره التحفَ بالجسد حجاباً.حجب نوره لنسنطيع أن نعاينه.أفرغ نفسه من مجده الباهر لنستطيع الدنو منه،وليستطيع أن يصل إلينا،ليقتحم كل الحدود،ليقترب منَّا.وقام بهذا طاعة لله الآب الذي لم يرتضِ بذبائح اليهود،بل أحبَّ الانسان،فهيَّا لابنه الحبيب جسداً/وألبسه إياه.فجاء طائعا يصنع مشيئة الآب.

وما هو قصد الله.إنه خلاصنا.كيف؟يموت يسوع على الصليب طاعتً للآب السماوي.طبعا ليست مشيئة الآب غير مشيئة الابن.ولكن هذا التصوير البارع في العهد الجديد للأمور يعطينا فمكرة أخَّاذة عن تدبير الله الخلاصي.هذا الخط النازل من السماء الى الارض معجزة المعجزات:الآب شاء أن يحتجب ابنه في جسد يقربه على الصليب ذبيحة من أجلنا.الابن قَبِل ذلك بطيبة خاطر كبيرة للآب،فأخلى ذاته وأطاع حتى الموت موت الصليب.

آدم وحواء تمرَّدا.بنو إسرائيل في الصحراء تمردوا على موسىوأسخطوا الله.أما يسوع فأخلى نفسه وحجب وحمل طبيعتنا وقرَّب ذاتهللآب ذبيحة.من لا يسعه مكان حَمَل طبيعتنا.الكل حصر نفسه في جُزيء دقيق جداً.الغير الملموس لم يلامسا فقط بل ضمّ إليه حتى صارت جزءاً من شخصه الإلهي.

ومريم في بيتَ لحم غاصت في أعماق هذا التنازل.ما رأت غضاضة في وضع يسوع في مذود البهائم.أليست كل خليقة الله طاهرة؟نعم! إنما النجاسة في خطيئة الانسان.المتمرغ في الخطايا هو النجس لا الحيوان الأبكم.

جاء يسوع يحلُّنا من بهيمتنا التي انحدرنا إليها بسبب خطايانا،فصرنا دون الحيوانات ودون الطبيعة ( راجع ص 3 من طريق النساك)!مريم عاشت لحظة فلحظة،عرفت مقاصد الله، ففهمت أن مذود البهائم أشرف من قصر هيرودس السفاح وأشرف من دارات رؤساء الكهنة الذين ما كانوا يؤمنون لا بوجود الروح ولا بوجود الملائكة ولا بقيامة الاموات ( هم الصدوقيون في الانجيل .كانوا ماديين في النتجية.وبالتالي ما كان لهم من الايمان سوى الاسم والقشور.)،وأشرف من بيوت الكتبة والفريسيين الممتلئة خطفا وطمعاً ونجاسة ورياء.نسيهم التاريخ.وشجبهم.أما مذود بيت لحم فأضحى محجة الزوار من 4 اقطار الدنيا لتتبرك بلثمه.فنحن أمامإنقلاب جذري في التاريخ. اختار الله ما هو أدنى ليخزي العظماء.ففي بساطة المذود وتواضعه ومقر سِرُّ الغنى الحقيقي.ما هو حقير لدى الناس صار شريفا لدى الله.فهل في الدنيا إنسان ضاقت به الدنيا الى حد إضطرار أمه لوضعه في مذود للبهائم؟أهكذا ضاقت بيت لحم عن أنيستقبل سكانها ضيفا غريبا من سكانها يعود إليها؟ لقد أفسد رؤساء الكهنة والكتبة والفريسيون الدين الى درجة ما بقي معها في أورشليم وبيت لحم مكان ليسوع .

لم ينكسر التاريخ حين الحبل بيسوع فقط.لقد انكسر الآن حين ميلاده أيضا.كيف لا والبتول تضحي أماً والمغارة سماءً والمذود قصراً إلهياً؟لقد صارت البتولية أخصب من الزواج بمقدار ما ولادة يسوع من العذراء أكثر خصباً من كل ولادات الناس. وأضحى الفقر في المذود أشرف غنى إن واكبته البساطة والتواضع وخفض الجناح.صار التواضع وحده شرفاً.وصار الترفُّع خزياً ونجاسة. ألم تقل مريم نفسها:”وشتَّت المتكبرين بذهن قلوبهم.حط المقتدرين عن الكراسي ورفع المتواضعين.أشبع الجياع من الخيرات وأرسل الأغنياء فارغين “؟(لوقا 1: 31- 52 – 53 )مريم كانت أمام المذود منطقية مع نفسها،كانت تعرف أن تنازل ابنها قلب التاريخ رأساً على عقب.منذ تلك اللحظة صار مذود بيت لحم عرش ملك الملوك وربّ الأرباب.

أمر أغسطس قيصر بإصاء عام خضع له يسوع نفسه،ولكنه ما كان يعلم أن هذا الإحصاء يحوي قنبلة موقوتة،وأن أحد الرعايا سيجل المسكونة كلها على اسمه منتزعاً إياها لا من سلطة أوغسطس فقط،بل من سلطة إبليس وكل جنده وكل طاغية عنيد وظالم شنيع.فبيت لحم هي مدينة داود النبي والملك.ووُلِدَ فيها يسوع ليملك الى الابد على عرش بيت داود.في الخارج أوغسطس هو أمبراطور الدنيا المتعاظم.في السر والكتمان الشيديد تقرر بميلاد المسيح زوال ملكه وبداية مملكة يسوع الربّ الإله النبي الملك.فأين تاج أوغسطس المرصَّع بالحجارة الكريمة من مجد مذود ضَمَّ الإله- الانسان يسوع؟هناك ملك أرضي سجَّل الأسماء في خانات ليجبي ممهم الضرائب.وكان ما كان فيها من ظلم.وهنا ملك يلد،جالساً على عرش الحق والعدل والرحمة.سيجسل الناس في خانته،ولكن لا لينزع منهم الضرائب ظلماً،بل ليدفع عنهم أخطر ضريبة أي جزاء خطاياهم.فيقدم جسده ذبيحة فداء عنهم.وهذا انكسار آخر للتاريخ.لم تعد الرئاسة إبتزازاً للرعية وطغياناً وتسلطاً،بل موت الراعي عن رعيته.فلا عجب أن يكفر الناس بعد سنين بمملكة قيصر ليعلنوا ولاءهم لملكون يسوع.ويدفعوا ضريبة باهظة لقاء وفائهم له أي الموت شهداء،إقتداءً بمعلمهم الشهيد الأكبر يسوع.وكل مسيحي لا يتحلَّى بنفسية الشهيد هو مسيحي بالاسم  ومزيَّف.في يوم ميلاد يسوع تعارضت ملوكية يسوع مع ملوكية أوغسطس وهيردوس،وتعارض كهنوت يسوع الآتي ذبيحة عن خطايانا مع كهنوت اليهود الظلّي.الأشيلء القديمة زالت.”هوذا كل شيء قد صار جديداً”.إن كانت مريم ارتضت بمشاركة يسوع في تواضعه فاضجعته في مذود البهائم.فان الملائكة خارج بيت لحم،في الحقول المنبسطة وراءها لم تصمت.ففي تلك الليلة صمتٌ في القدس وفي بيت لحم كأنَّ الله يعلن سلفاً رفضه لهما.ولكنه اختار رعاة يسهرون في الليالي على قطعانهم وذلك بالتناوب هزيعا تلو هزيع.كانوا يقيمون في الحقول.هؤلاء المعتزلون في الحقول مق قطعانهم اختارهم الله لتمجيد اسمه كما سيختار فيما بعد يسوع صيادي السمك لرسالته.خيار الله واضح : اختار الوضيعين في نظر الناس ليكونوا المتصدّرين في ملكوت الله.هؤلاء الرعاة المختارون تعرضوا لشيء مما تعرضت له مريم العذراء.وقف بهم ملاك الرب فأضاء مجد الربّ حولهم .استولى عليهم خوف عظيم.قال جبرائيل لمريم:” لا تخافي ” وقال الملاك للرعاة :” لا تخافوا!”إذ كان قد “استولى عليهم خوف عظيم”(لوقا 9: 10).جبرائيل بشّر العذراء بالحبل بابن الله،الوارث لعرش داود،المالك على بيت يعقوب الى الابد (لوقا 1:31- 33 ).والملاك بشّر الرعاة بفرح عظيم يكون لجميع الشعب:”اليوم ،في مدينة داود وُلِدَ لكم مخلص هو المسيح الربّ”(لوقا 2: 10 – 11) .كان جبرائيل قد قال لمريم إنها ستلد وتسمي ابنها يسوع .ويسوع – كما قال الملاك ليوسف – هو الذي يخلص شعبه من خطاياهم ،لأن الاسم ” يسوع” يعني ” يهوه المخلِّص”( لوقا: 31 ومتى1: 21 ).

مريم ويوسف والرعاة واجهوا واحدا بعينه”ملاك بشرهم بولادة الربّ المخلّص.اعتاد اليهود على عبارة “مسيح الربّ” التي استعملها لوقا بشأن سمعان الشيخ الصديق الذي أوحى له الروح القدس أن يرى ” مسيح الربّ”(لوقا 2: 26).الاعلان لمريم ويوسف والرعاة أسمى بما لا يقاس من الاعلان لسمعان ولكتبة العهد القديم .فانهم قد عرفوا من ملاك أن المولود هو المسيح الربّ  لا مسيح الربّ،وأنه الربّ المخلص.والرب على لسان الرعاة في لوقا (2: 15) هو الله،مجد الربّ أضاء حول الرعاة(لوقا 2: 9) .موسى صام 40 يوماًقبل أن يحظى بسطوع مجد الربّ على وجهه.الرعاة حظوا بذلك دون صوم.ميلاد المسيح عرس اعفاهم من الصوم.وأيّ عرس أعظم من هذا العرس؟لقد صاروا رعايا مملكة المسيح الربّ القادم إلينا عريساً يطهرنا بدمه من كل خطيئة ويضمّنا إليه لنصبح جسده ولحماً وعظماً من عظامه.الآن أضاء مجد الله حولهم.ولكن في يوم العنصرة سيسكن مجد الله في القلوب .

اضطرب غريغوريوس بالاماس يقول “إن الرسل أثناء التجلي ما حظوا بهذا النور إلا خارجا.لم يكن يسوع قد مُجَّدَ بعدُالموت على الصليب لينسكب الروح القدس في قلوبنا بغزارة ( يوحنا 7: 39).ولكن كيف يهتدي الرعاة الى مكان وجود يسوع ؟استعمل لوقا الانجيلي لفظة ” علامة ” وهي تعني في اليونانية “آية” أيضاً( 2: 12) .

قال الملاك للرعاة :”وهذه هي العلامة لكم انكم تجدون طفلا ملفوفاً بقُمطٍ،ومضطجعاً في المذود”( لوقا 2: 12 ).هؤلاء الرعاة سمعوا من الملاك أنه المسيح الربّ والربّ على لسانهم هو الله (2: 15) فكيف يقول لهم الملاك إنه طفل ملفوف مضجع في مذود؟لا تسألوا مَن أضاء مجد الله حوله عن قناعاته.فقد صَلَبَ مجدُ الله عقله.فلا يستغرب إن قال له الملاك إن المخلص الربّ المسيح ملفوف بقمط ومضجع في مذود،حاله كحال مفلوج بركة بيت حسدا الذي ردَّ اعنراض اليهود على حمله سريره يوم السبت بقوله لهم :” الذي أرأني،هو قال لي : احمل فراشك وامشِ”(يوحنا 5: 11) .ففي الأمر عجب عجاب.لم يعطهم الملاك “علامة” فقط بل وضعهم أمام آية .آية الاله الصائر ضجيعا في مذود البهائم.يا للسرّ الذي لا تدركه العقول! ولذلك للحال، بدون إبطاء،قام جمهور من الجند السماوي بالمهمة خير قيام، فأطلقوا في الفضاء صواريخ التسبيح لله،رافعين في الأعالي المجد لله، ومبشرين على الأرض بالسلام،أهل رضوان الله ومسرته(لوقا 2: 13- 14) .

يوم ميلاده أنشد له الملائكة.يوم الحبل به بقي السر مخيّماً.إلا أن أليصابات قامت بالدور الذي قام به الملائكة يوم ميلاده،فابتهجت،وباركت،وأعلنت إيمانها بمريم العذراءأماً للربّ؟” والربّ” على لسان أليصابات هو الله (لوقا 1: 43- 45 ).فاستشارت بذلك مريم التي خرجت عن صمتها لتعظّم الرب وتبتهج روحها بالله يسوع مخلصها(لوقا 1:39- 55) .وثق الرعاة أنهم مطية إعلان إلهي،وأن الربّ أطلعهم على الحادث.

فاسرعوا الى بيت لحم فعاينوا وفق ما وصفه لهم الملاك. و” أخبروا بما قيل لهم عن هذا الصبي “( لوقا 2: 17)، وعادوا وهم يمجّدون الله، ويسبّحونه على جميع ما سمعوا  وعاينوا، على حسب ما قيل لهم ( لوقا 2: 20),لقد عاينوا يسوع ملفوفا بقمط ومضجعا في مذود،عاينوا الربّ المسيح المخلص في مذود.وسيعاينه المجوس ويقدِّمون لم المرَّ هديةً.إنباء.بحنوط دفنه.فهل رأى الرعاة في اأقمطة هو إعلان سىم بين السماء والأرض.الرعاة هم نواة أهل الملائكة  الحائزين على رضوان الله الفائزين بسلام السماء.ميلاد المسيح كان آية لهم، وسيبقى آية لكل الذين يؤمنون بأنه ابن الله الحي الآتي لخلاص العالم.

في ليلة ميلاد المسيح تمّ فصل النور عن الظلام.هيرودس وسكان اليهودية غائبون عن افتقاد الله لبلدهم كزائر ملوكي من نسل يهوذا وأصل يسىّ ونسل داود.أما الرعاة فمجَّدوا وسبَّحوا بعدما أحاط بهم نور مجد الله وعاينوا الإله في مذود.الرعاة في نور.سواهم في ظلام.هم رأس قافلة اسمها ” المستنيرون” يقي الحبل مكتوما إلا عن أليصابات ويوسف لاحقا.أما الميلاد فمحاط بهالة نور.لقد طلع نور المعرفة في العالم،وأتى بالفقراء الى السماء الجديدة تاركاً قساة القلوب وغلاظ الرقاب والمتكبرين في مطاوي النسيان.فقراء الله هم الورثة لا اهل الاستكبار.

ولكن فئة اخرى غريبة عن رعوية إسرلئيل استطاعت بالعلم أن تفهم إشارة الى ميلاد المسيح .الرعاة عرفوه في مذود،شاهدوا السماء بمذود الحيوان.يسوع هو أيضاً حمل الله الرافع خطايا العالم.والرعاة متعودون على احتضان الحملان.أما المجوس الأجانب علماء الفلك،فقد شاهدوا نجما في المشرق.وكان تحرك النجم جديدا في نظرهم.وبحسب على زمانهم اعتقدوا أنه يشير الى حدث عظيم ومولد عظيم.قادهم الى اورشليم وغاب عنهم ،فسألوا عن المولود ملك اليهود ليسجدوا له. وأخبروا بظهور نجمه لهم في المشرق .

هيرودس وكل اورشليم معه.متى الانجيلي استعمل هنا ويوم الشعانين لقفظة مصدرها  يعني ” الزلزلة”.تزلزلتاورشليم،ولكن هيردوس خشي أن يخسر العرش.ورؤساء الكهنة وكتبة الشعب لعبوا دور إعلام هيردوس عن مكان ولادة المسيح.كما تروي الكتب المقدسة:كان دورهم سلبيا.لا نرى في العهد الجديد أي أثر لهذه الزلزلة.فر رؤساء الكهنة ولا الكتبة انطلقوا في حملة بحث عن المولود.ولا الشعب انصرف الى ذلك؟هل ظنوا أن إبادة هيردوس للأطفال قد قضت على حياة يسوع؟ولكنهم يؤمنون بأن المسيح سيحكم.لماذا لم يحملوا الأمر محمل الجد الكامل لسنوات عديدة؟الكتاب الإلهي أغفل الأمر.إلا أن معاملة رجال الدين اللاحقة ليسوع أبانت رداءة معدنهم وتعصبهم لمراكزهم بغيرة وحسد.يسوع خصم طبيعي لهم

المجوس الوثنيون خرجوا من القدس،فظهر لهم النجم من جديد وقادهم حنوباً الى مكان وجود يسوه.المجوس لاحظوا نجماً غريباً. صفت نياتهم فقادهم الى يسوع.بولس كان مخلصاً في قناعاته وعدائه للمسيح.فقلبه رأساً على عقب.صفاء النيات،إخلاص الإنسان لعقيدته شرطان لازمان للمؤمن ولغير المؤمن لكي يحتفظا بسمعتهما كبشر.الخبث خكيرة فساد وإنحلال.المجوس مخلصون لعلمهم فقادهم الى يسوع.خرُّوا وسجدواله،وقدموا له الهدايا ذهب ولباناً ومراً.أتوا إليه على أساس أنه ملك اليهود،سجدوا  له فإذا بهم يقدّمون له الذهب كملك واللبان كإله والمرّ كدفين.سواء رأى الرعاة والمجوس فيه إلهاً دفيناً مقمطاً بقُمطٍ كسابقة الأكفان أم لم يروا،فإننا اليوم لا نستطيع إلا أن نرى فيه الإله الذي حمل كفنه يوم مولده،فكان مذوده مُنبئاً بقبره.وكان المرمخبراً بحنوطه.لا نسجد إلا لمسيح الرب مصلوب مدفون قائم من الموت لأنه هكذا أحبّ.

لماذا حمل ميلاده إلينا نغمة الكآبة هذه بدلاً من أيكون بؤرلاة أفراح لا توصف؟الأمر أمره وما علينا إلا أن نؤمن بكلامه.هو اعتبر الصليب مجده.بولس قال إن كلمة الصليب هي قوة الله للخلاص (1 كورنثوس 1: 18).:وقال :” حاشا لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح ” (غلاطية 6: 14 ) .وافتخر بأهانه.مسامير الصليب أحلى من موائد الملوك.

رعاة وملائكة ومجد الله ،مجوس ونجم،مريم ويوسف،أليصابات ويوحنا المعمدان،هؤلاء هم شهود الحبل والولادة.نِعم الشودُ هؤلاء الشهود.العدد قليل ولكن دم المسيح سيقيم بالروح القدس عدداً لا يُحصى من الشهود الذين يدُغ كثيرون منهم شهادتهم بدمائهم المسفوكة من أجل يسوع.إنهم بواكير حصاد عظيم من فقراء اليهود ومتفرقي أمم الأرض.ليحلّوا محل الشعب اليهودي الذي غاب عن ميلاد المسيح وصلبه:صار الآخرون أولين.يسوع “طيَّب”خاطر المساكين،فجعلهم جلساء الأحباء.

الرعاة بشّروا ومجّدوا وسبّحوا.المجوس خرّوا وسجدوا.الملائكة أنشدوا،أما مريم التي كانت تلازم يسوع ليلاً ونهاراً اختارت أن تحفظ كل شيء وتتأمله في قلبها.ما استطاع الرعاة سابقو الرسل صمتاً،فكيف استطاعت مريم التي تلازم يسوع أن تصمت؟إن كانت رؤية واحدة تبهر العيون،فما لون عيني مريم حتى إن يسوع لم يبهر عينيها الشاخصتين إليه كل حين؟هل أكسها سكنُ ابن الله فيها بعضاً من الصفات الإلهية،فغدت نفسها تتمتع بحالة إلهية من ثبات الروح وسكونها؟

إن الذهول يعترينا أمام المذود .ولكن لا ننسى في رؤيتنا،الإله في مذود ذلك الآخر،ذلك الانسان الجالس في السماء.إنه مريم.يسوع في مذود ومريم في السماء.إله نزل وإنسان صعد.وهل نزل الله إلا لكي يُصْعِدَنا؟غريغوريوس بالاماس قال في العذراء إنها التخوم بين غير المخلوق والخالق.نعم ! هي دون الخالق ولكنها أعلى المخلوقات،فكانت على الحدود الفاصلة بين الخالق والمخلوق.وقد سبقت البشر الى المجد الأبدي.هي الآن ممجّدة في السماء لا تنتظر مثلنا يوم بعث ونشر وحساب.وكذلك الشهداء (رؤيا 7: 4- 17 ).في بيت مريم بالناصرة اتحدّ الله بالانسان.في مغارة بيت لحم اجتمعت بواكير الرسل والمؤمنين،إنها سابقة الكنيسة حيث الميلاد والدفن وكل غنى كنوز الله.

هناك سجد الناس للمرة الأولى في الروح والحق.يسوع هو الحق.كل ظهورات العهد القديم رموز وظلال،أما في مغارة بيت لحم ومذودها فقد عاين الناس للمرة الأولى الإله.يسوع قال لتلاميذه:”إن كثيرين من الأنبياء والصديقين اشتهوا أن يروا” في مغارة بيت لحم بدأت هذه الرؤيات.فيها ظهر الله للناس علانية.ولذا فميلاد المسيح نور باهر أشرق في ظلام التاريخ.وكانت العذراء على رأس الملتحفين بهذا النور.إن كنا نكرم ابنها المولود فإنناى نكرمها الى جانبه،لأنها هي التي اقتنصته.هي التي استدرَّت ماء الغمام البعيد المنال.كمال رضوان الخالق هو نصيبها،فكانت قربان الأرض للسماء،الذي التهمته النار الإلهية كما التهمت ذبيحة ايليا النبي.

فيا من وُلِدْتِ في بيت لحم وثويت في مذود البهائم من أجلنا، اخذت  قلوبنا مذود لرضواناك،وأجعل عيوننا شبيهة بعيون العذراء في التحديق اليك،وتأمل دقائق شؤونك وأحوالك .فإن اضطجاعك في مذود قد أفحم عقولنا المتفلسفة.فاقبلْ قلوبنا هدية وإعجابنا بمولدك بخوراً زكياً.وأعطِنا أن نكون مطعين لك،فنسهر على شؤون كنيستك، مصلّين مثل الرعاة الساهرين،لا غاطين في الهموم المعاشيةوالسكر والملذات الفانية وعبادة المال،فنغرق في النوم غافلين عنك كما غفل هيردوس وسكان اورشليم وبيت لحم.انك السميع المجيب.فقدومك إلينا هو سيّد الإجابات.فحلَّ في قلوبنا ضيفاً أبدياً .

” ما أنتم راؤون ولم يروا وأن يسمعوا ما أنتم سامعون ولم يسمعوا” )متى 13: 16 – 17 ) .