- السراج الأرثوذكسي - https://www.alsiraj.org/blog -

المحبة الحقَّة

المحبة الحقَّة

[1]

المحبة هي قمة الفضائل المسيحية الثلاث: الإيمان ، والرجاء ، والمحبة التي هي أعظم قوة في العالم وأكثرها غموضاً .

ترجمت المحبة في الكتاب المقدس بكلمة ( Agape  ) ، أغابي ، اليونانية، وهي تحمل أنبل أنواع الحب لغاية كريمة لا نهاية لها ، كما تعبر عن أعمق إحساس للإنسان وعن قوة اتصال للنفس بالنفس أو بالله .

استخدمت ” أغابي ” لتبين محبة الله للإنسان. وهناك أنواع من المحبة : محبة العائلة ( Stroge  ) فالأم تحبّ أولادها بالفطرة ، ومحبة الصداقة وتعني باليونانية ( فيليو ) ( Philio  ) إذ نعطي المحبة للصديق ونتقبلها منه ، ومحبة الجنس الآخر وتعني باليونانية ( ايروس ) ( Eros ) والتي تعرف بالعشق أو الغرام وهي التي يحاول فيها كل طرف امتلاك الآخر وفي الوقت نفسه يسلم نفسه له . وهناك محبة الذات وهي أمر طبيعي في الإنسان ، ولكن ثمة خطراً يقع فيه   الإنسان ما لم يراع اعتبارات معيّنة في هذه المحبة .

في اللغة العربية شاع بين المسيحيين تعبير المحبة كترجمة ل ( أغابي ) ، بينما عبّروا عن بقية أنواع المحبة بلفظ الحبّ،

معتبرين أن هذا اللفظ ( الحب ) يصف أنواع الحب الإنساني ، بينما ( المحبة ) شيء مقدس لأن أساس المحبة هو الله ( الله محبة ) . وقد أعلنت هذه المحبة للإنسانية على الصليب. والمحبة المسيحية هي تجاوب الإنسان مع هذه المحبة بمحبته لله وللآخرين .

محبة الله تجلت في الكتاب المقدس عندما أراد الله أن يصف نوع محبته للإنسان ، فوضعها في مرتبة أقوى وأرفع من طبيعة الأمومة التي تربط الأم برضيعها… (النص ناقص) فلا ترحم ابن بطنها ؟ حتى هؤلاء وأنا لا أنساك ” ( أش 49/15 ) ، ” كإنسان تعزيه أمه هكذا أعزيكم أنا ” . في العهد الجديد ارتفعت محبة الله للإنسان اكثر حتى بذل ابنه ” هكذا احب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد ( يو 6 :13 ) .

على هذا الأساس ، أساس الحب الذي قدم على الصليب، انكشف سر الحب سواء حب الآب لنا أو حب المسيح لنا ، كما انكشف عمق سر الحب الحقيقي الذي يربط الآب بالابن والابن بالآب  الذي هو جوهر الله في ذاته وقد الذي انتقلت إلينا صورته طبق الأصل : ” ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به من قبل إنشاء العالم و أكون أنا بينهم ( يو 17 : 26 ) .

إذا الله سبَّاق في المحبة ، صاحب مبادرة في الحب منذ الأزل ولا أحد في الوجود إلا مدين لله بالمحبة ” نحن نحبه لأنه هو احبنا أولاً ” ( 1يو 4 : 18 ) .

المحبة في الفكر الكنسي

يقدم الرسول بولس المحبة على الإيمان ويقول : ” لو كان له إيمان لينقل الجبال وليس له محبة فهو عديم النفع حتى لو كانت له معرفة وكل علم ، ولكن بدون محبة فهو لا شيء ” . يعمد بولس الرسول إلى إثبات الإيمان بالمحبة ليجعل منهما ناموس المسيح الجديد ليحل محل ناموس العهد القديم بحسب ناموس موسى ” لأن في المسيح يسوع لا الختان ينفع شيئاً ولا العزلة بل الإيمان العامل بالمحبة ” ( غلا 5 : 6 ) .

هكذا يؤمِّن القديس بولس الرسول على بشارة الكلمة من الانحراف فلا العمل وحده و لا الإيمان وحده ولا المحبة وحدها بل الإيمان العامل بالمحبة .

أما يوحنا الإنجيلي فالمحبة عنده تلقائية غير واجبة وهي خالقة خلاَّقة ، أي أنها تخلق أيضا محبة تفيض من الله لأنها من طبيعته وتمكن من الوصول إلى الله والالتصاق به . وإذا غابت المحبة فهذا يعني غياب الله لأن الله محبة . وتعني المحبة في فكر يوحنا الإنجيلي بذل الذات ” هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد ” ( يو 3 / 16 ) ، ” ليس لأحد حبّ أعظم من هذا أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه ” ( يو 15 / 13 ) .

يقول القديس الذهبي الفم : ” المحبة هي أصل كل شيء صالح وينبوعه وأمه “. إنها في الحقيقة كالشجرة التي تتفرع منها أغصان الفضيلة الكثيرة ، وكالأم تضم إلى صدرها كل الملتجئين إليها ولذلك سمّاها بولس الرسول ثمرة الروح القدس وخصّها في محلّ آخر بمزية عالمية قائلاً إنها تكمل الناموس ، لأن الناموس هو الحب ( رو 13 / 10 ) وإن إله الكل قدم لنا المحبة لأنه جعلها الشعار الواضح والامتياز الحقيقي لتلاميذه إذ قال :” المحبة تسود تلاميذي ” .(هذا الاستشهاد غير دقيق)

هذا الحبّ نلناه بالمعمودية وصرنا أحراراً بإرادتنا نقبله أن يعمل فينا فنصير شبيهين بالله ، أو نرفضه لنستبدل به الإنسان العتيق الذي يكره ويبغض ، هذه المحبة لا بدّ لها أن تولد أولاً بالمعمودية ثم بعد ذلك تكمل ( بممارستها عملياً ) .

طبيعة المحبة

تظهر قيمة المحبة في الحياة المسيحية عندما تطرح موضوع الاتحاد أو حياة الشركة سواء أكان ذلك للإنسان مع أخيه أو للإنسان مع الله إذ تصبح طبيعة المحبة هي الأساس ولا تتم أيّة وحدة بدونها . إن المسيحي مهما بذل في سبيل أخيه الإنسان لن يبذل أبداً ما فيه الكفاية إذ عليه أن يكون على مثال الله صالحاً ورحيماً بلا حدود ولا قياس.

وقد رُتبت الفضائل الإلهية والأدبية كلها لخدمة المحبة التي لا كمال من دونها . يقول بولس الرسول لأهل كولوسي : ” فالبسوا كمختاري الله القديسين المحبوبين أحشاء الرحمة واللطف والتواضع والوداعة والأناة وفوق هذه البسوا المحبة التي هي رباط الكمال ” ( كو 3 : 12 / 14 ) . لقد رفع يسوع من شأن محبة القريب إذ قال : ” هذه وصيتي أن يحب بعضكم بعضاً كما أنا أحببتكم ” ( يو 15 / 12 ) . وعلى هذا الأساس يوصي الرسول بولس قائلاً :”لتكن أموركم كلها بالمحبة ” ( 1كو 16 / 14 ) ، وأيضاً القديس يوحنا الإنجيلي :” أيها الأحباء لنحبّ بعضنا بعضاً فإن المحبة من الله فكل من يحب فهو مولود من الله وعارف به ومن لا يحب فإنه لا يعرف الله ، لأن الله محبّة ” ( 1يو 4 : 7 / 8 ) .

برباط المحبة يرتبط فرح الإنسان ومجده في الدنيا وفي الآخرة، في حياته الفردية والاجتماعية على السواء. المحبة إذا ما انتفت من نفس ما أو من أسرة أو مؤسسة تبع ذلك ، لا محالة ، الموت والانحلال. فحيث لا توجد المحبة لا يوجد المسيح الذي هو الحياة .

المحبة المسيحية محبة جامعة ، تشمل الأصدقاء والأعداء والمواطنين الأجانب ، المسيحيين وغير المسيحيين ، الفقراء والأغنياء ، الصالحين والطالحين .

المحبة المسيحية صبورة ، تعرف كيف تحتمل بوداعةٍ العيوب والاضطهاد وكل ما يمكن أن يصادفها في الحياة الاجتماعية من صعاب وشدائد .