- السراج الأرثوذكسي - https://www.alsiraj.org/blog -

اختطاف إيليّا وموته

[1]

اختطاف إيليّا وموته

[2]

يسمّيه الناسُ إيليّا الحيّ ويعتبرون أنه لم يمُت، وأنه سيعود ،كيف يتجاسر المسيحيُّ أن يعتقد مثل هذا الاعتقاد؟ هل نسيَ أنّ يسوعَ المسيحَ نفسَه قد مات؟ ثمّ إنّ كلام القديس بولس واضح: “دخَلت الخطيئةُ في العالم عن يد إنسان واحد، وبالخطيئة دخل الموت، وعمّ الموتُ جميع الناس” (روم 5: 12). فإن كان إيليّا إنسانًا من الناس، فلا بدَّ أنّه مات. هذه هي المسلَّمة التي ننطلق منها وهي لا تقبل الجدال.

النصوص التي تتحدّث عن نهاية حياة إيليّا.

ما هو الواقع؟ إختفى جسدُ إيليّا. بحثَ عنه بنو الأنبياء ثلاثة أيام فلم يجدوه (2 مل 2: 17). كان في البرّية، وقد تكون الريحُ حملته وطرحته “على أحد الجبال أو في أحد الأودية” (2 مل 2: 16): والمعقول هو أنّ عاصفة رمليّة طلعت عليه كما طلعت على أشخاص كثيرين في الصحراء فضاع أثرُهم. هذا ما حدث لموسى. مات بعيدًا عن الناس. مات هناك في أرض موآب. كم تمنّى الشعبُ ألاّ يموتَ موسى، ولكن فمَ الربّ تكلّم (تث 34: 5). دُفن في الوادي. من دَفنه؟ الربّ. لم يكن أحدٌ معه حين مات. وهكذا لم يعرف أحدٌ قبرَ موسى.
ونعود إلى النصّ كما نقرأه في 2 مل 2: هذا ما حدث حين أصعد الربُّ إيليّا في العاصفة نحو السماء. هناك فكرةٌ ماديّة: إيليّا في العاصفة، عاصفة رمليّة. وفكرةٌ روحيّة: العاصفة تدلُّ على حضور الله، وفكرةٌ روحيّة ثانية يحدّثنا عن صعود إيليّا إلى السماء كما يصعد كل أبرار الله وأتقيائه. هذا ما يشير إليه مز 23:73-24: “أنا معك على الدوام. تُمسك بيدي اليمنى. تقودني بعصاكَ وتأخذني وراء المجد” (أو تأخذني في المجد وراءَك). وهذا الفعل “أخذ” يُستعمل مرارًا في نصّ سفر الملوك الثاني. قال إيليّا لأليشاع: عندما أؤخذ عنك، أي حين يأخذني الله من عندك. أجل، جاء الوقتُ لكي يأخذ الله وديعته.
ونقرأ في 2 مل 2: 11-12: “وفيما كانا سائرَين، وهما يتحادثان، إذا مركبةٌ ناريّةٌ وخيلٌ ناريّةٌ قد فصلت بينهما، وصعد إيليّا في العاصفة نحو السماء. وأليشاع ناظرٌ وهو يصرخ: يا أبي، يا أبي، يا مركبةَ اسرائيل وفرسانَه. ثمّ لم يعد يراه”.
نلاحظ أولاً أن النارَ تدلّ على حضور الله. والمركبة الناريّة خاصة بالله. فلم يركبها إيليّا. لقد مرّت المركبة الناريّة، أي مرَّ الله، فأخذ إيليّا وأبقى أليشاعَ على قيد الحياة. رآه أليشاع يختفي فكان وريثَه. لهذا فعل مثله، فقال بنو الأنبياء: “حلّت روح إيليّا على أليشاع” (2 مل 2: 15).
أجل، أخذ الربُّ إيليّا كما أخذ موسى وسائر الأبرار. وسيقول التقليد اللاحق إنّ موسى انتقل إلى السماء ولم يمُت. تلك كانت رغبةً ملحّةً في العهد القديم. كيف يسمح الله أن يتخلّى عن أحبّائه في الموت؟ ولكن هذه الرغبة حقّقها يسوعُ المسيحُ وحدَه. يروي لنا القديسُ لوقا في سفر الأعمال كيف صعد إلى السماء على مرأى من تلاميذه (9:1). صوّر لوقا المشهدَ على مثال ما عرف عن إيليّا. رأى أليشاعُ إيليّا فكان له سهمان من روحه، أي كان وارثَه الأول. ورأى التلاميذُ يسوع صاعدًا، فكان لهم روحُه مسبقًا، بانتظار أن ينزل عليهم هذا الروح ويمنحهم قوةً من العلاء (أع 1: 8).
وسيتحدّث التقليد لاحقًا عن إيليّا. قال ابنُ سيراخ: “وقام إيليّا النبيُّ كالنار، وتوقّد كلامه كالمشعل… ما أعظم مجدَك يا إيليّا بعجائبك (في العبريّة: كم أنت مرهوبٌ، يا إيليّا!). ومن له فخرٌ كفخركَ… أنت الذي خُطفتَ في عاصفة من نار، في مركبة خيل ناريّة، وعيّنتَ للإنذار في الأيام المُقبلة (أي الأيّام المسيحانيّة) لتسكّن الغضبَ قبل انفجاره وتردّ قلب الأب إلى الابن وتصلح أسباط يعقوب. طوبى لمن عايَنك. ومن رقد رقاد المحبّة فهو يحيا حياة”. وقد قالت الترجمة السريانيّة: “طوبى لمن رآكَ ومات. ولكنّه لم يمت بل يحيا حياة”. ويتابع النص (سي 12:48): “لما توارى إيليّا في العاصفة، امتلأ أليشاعُ من روحه”.
نلاحظ الوجهة الماديّة: اختفاءَ إيليّا في العاصفة، والوجهة الروحيّة: حياةً في السماء مع الله. هذا ما حصل لإيليّا، وهذا ما حصل لأليشاع الذي رأى إيليّا. فهو سيصعد مثله إلى السماء، وتكون له الحياة الدائمة. وهذا ما يتمنّاه ابنُ سيراخ نفسُه في القرن الثاني ق. م: ونحن أيضًا سنحيا حياةً. أي لا نموت.
ونقرأ في النصّ العبريّ والسريانيّ: “خُطف (إيليا) في مركبة إلى العلاء، في خيل من نار إلى السماء. وهو مزمعٌ أن يأتي قبل أن يأتي يومُ الربّ ليَرُدَّ البنين إلى الآباء وليبشّر أسباط يعقوب”.
هنا يشير النصُّ إلى مجيء إيليّا. ويقولُ الناس: إيليّا هو الحيّ الذي لم يمُت وهو سيعود إلى الأرض. نقول نحن المسيحيين: يسوعُ وحدَه “سيأتي بمجد عظيم”، سيعود بمجد عظيم ليدين الأحياء والأموات.
متى يكون يوم الربّ هذا؟ هنا نورد كلام النبيّ ملاخي (3: 23- 24): “هاءنذا أرسل إليكم إيليّا النبيّ قبل أن يأتي يومُ الربّ العظيم والرهيب، فيردّ قلوب الآباء إلى البنين وقلوب البنين إلى آبائهم”.
من يردُّ قلوبَ الآباء إلى البنين؟ هو يوحنّا المعمدان. قال الملاك جبرائيل لزكريّا يبشّره بمولد ابنه: “يسير أمام الربّ بروح إيليّا وقوّته ليردَّ قلوب الآباء إلى البنين” (لو 1: 17). سيكون يوحنا المعمدان شبيهًا بإيليّا في غيرته على الربّ. وهذا ما سيشرحه يسوعُ لتلاميذه مرارًا، مرةً أولى خلال مديح عن يوحنا المعدان: “فجميع الأنبياء قد تنبّأوا، وكذلك الشريعة، حتى يوحنا. فإن شئتم أن تفهموا، فهو إيليّا المنتظر رجوعُه”. أنتم تنتظرون إيليّا، وها هو قد جاء في شخص يوحنا المعمدان الذي جاء يربط ملاخي آخرَ الأنبياء بالعهد الجديد. ومرّةً ثانية بعد العودة من جبل التجلّي، إذ “سأله تلاميذه: لماذا يقول الكتبة: يجب أن يأتي إيليّا أولاً؟ فأجابهم: إن إيليّا آت وسيصلحُ كلَّ شيء. ولكن أقول لكم: إيليّا قد أتى ولم يعرفوه، بل صنعوا به كل ما أرادوا. ففهم التلاميذ أنه كلّمهم على يوحنا المعمدان” (مت 17: 10-13؛ رج مر 9: 11-13).
أنريدُ كلامًا أوضح من هذا؟ جاء يوحنا المعمدان فكان إيليّا الجديد، كما أنّ النبيّ الذي أعلن عنه موسى قد جاء في شخص يسوع المسيح. قال الربُّ لموسى: “سأقيم لهم نبيًا من وسط إخوتهم مثلكَ، وأجعل كلامي في فمه، فيخاطبهم بكلّ ما آمره به” (تث 18:18). ولكن عددًا من المسيحيّين ما زالوا يعيشون على مستوى العهد القديم. هم ينتظرون عودة إيليّا الذي ما زال حيًا في مكان ما في السُّحب! وسيأتي يومٌ ينتظرون فيه مجيءَ المسيح وكأنه لم يأت بعد!
خاتمة
هذا هو إيليّا النبيُّ كما نتعرّف إليه من الأسفار المقدّسة بعهديها القديم والجديد، لا من خلال أقاويل الناس وما ينسجون حول النصّ من أساطير. كان إيليّا رجلَ الله فأُعطي أن ينعم بصداقة الله، لا خلاله حياته على الأرض، بل بعد موته. هذا هو نصيب الصدّيقين، وقد قال فيهم سفرُ الحكمة: “أما نفوس الأبرار فهي بيد الله، فلا يمسُّها أيّ عذاب” (3: 1). وقال أيضًا عن البارّ الذي يُعاجله الموت: “أصبح مرضيًا عند الله فكان محبوبًا. كان يعيش بين الخاطئين فنُقل” (7:4، 10). نقلَه الله إليه، إختطفه لكي لا يُفسد الشرُّ بصيرتَه (آ 11). هذا ما حدث لأخنوخ (تك 5: 24) الذي سار مع الربّ، سلَك بحسب طرقه ووصاياه (رج سي 44: 16؛ عب 11: 5). هذا ما حدث لنوح وابراهيم واسحاق وكلِّ الذين شهدوا للمسيح بحياتهم وإيمانهم.
ماتوا، ولكنّ موتهم كان بدايةَ حياة مع الله. ماتوا كما مات يسوعُ نفسُه ودُفن. وقاموا كما قام يسوع الذي هو بكر المائتين. هذا هو إنجيل يسوعَ وما من إنجيل آخر. ولكن هناك قومًا يُلقون البلبلة ويُبدّلون إنجيل المسيح (غل 1: 7). فلا نَتبعْهُم، ولا نَقبَلهُم في بيوتنا (3 يو 10).
هذا هو تعليم الكنيسة عن إيليّا النبيّ الذي عاش للربّ ومات للربّ. فجازاه الربُّ خيرَ مجازاة مثل سائر الأبرار والصدّيقين، فكان له نسلٌ روحيٌّ وصل إلى يوحنا المعمدان، كما كان لاشعيا النبيّ تلاميذُ حملوا تعليمَه خلال مئات من السنين.

لقد كان موسى عظيمًا جدًّا (تث 34: 11- 12: الآيات والخوارق). وقد يتعبّد له الناس على حساب الله، كما يفعل عددٌ من المؤمنين اليوم الذين يتعبّدون للقدّيسين وينسون الله الذي مجّد قدّيسيه.

وتمنّى الشعبُ إلاّ يموت إيليّا. وقد سمّوه “مركبةَ اسرائيل وفرسانَه” (2 مل 2: 12). وتمنّوا أن يعرفوا أين دُفن ليكرّموا مدفَنه. ولكن “الله” أخفاه كما أخفى مدفن موسى، وإيليّا هو صورةٌ عن موسى في كل شيء، ورفيقُ موسى حتى على جبل التجلّي (مت 3:17).