- السراج الأرثوذكسي - https://www.alsiraj.org/blog -

أنشودة الميلاد >>> ميلاديات 2015

[1]

أنشودة الميلاد
===========

لقد ولِدَ أنبياء وملوك كثيرين.. لكنَّ السماء لم تزفهم كما زفت المسيح يوم ميلاده العظيم، فالملائكة أبت أن تترك رئيس جند السماء وحده، فتركت مسكنها ونزلت إليه لتُعلن عن بهجتها بميلاده العجيب! فأشرقوا بنورهم وشقوا ببهائهم الظلام، تقدّمهم الضياء وصار قدامهم اللمعان، فحوّلوا الليل نهار والأرض سماء، وأعلنوا أنَّ ابن الله جاء ليضئ على الجالسين في الظلمة، وليطرد بنوره السماويّ جيوش الظلام المعادية، وامتلأ الهواء المفعم بالغيرة والحقد والكراهية، امتلأ بذبذباتهم الروحية، وتمايلت الأغصان متهلّلة عندما عزفوا على قيثارات الحُب تسابيح المجد والسلام والسرور.

المجد لله في الأعالي
——————–

لقد مجّدت الملائكة الله الساكن في الأعالي، لأنَّها رأت شيئاً عجيباً لم تره من قبل، لنتأمل إلهاً قدوساً منزهاً عن كل شر وقادر على كل شيء، يترك الأحضان الأبوية والأمجاد السماوية… ليشترك معنا في الطبيعة البشرية، بادئاً حياته في حقارة المذود، ألا يستحق هذا الإسراف في التصاغر أن نتعجب ممجدين الله؟!

لقد رأت الملائكة الشمس تقف بواسطة يشوع بن نون، ولكن هاهم الآن يرون شمس البر خالقهم قد وضع في مذود حقير للبهائم! رأت العُليَّقة مشتعلة بنار ولم تحترق ، وهاهم يرون اللاهوت متحداً بالناسوت دون أن يمسه بأذية! قد رأوا عصا هرون اليابسة تُخرج أزهاراً، والآن يرون عذراء تحبل وتلد بغير زرع رجل! معجزات كثيرة وغريبة رأوها، ولكنَّهم الآن يقفون أمام أُعجوبة العجائب وسر الأسرار، الأمر الذي يستحق أن يهتفوا له قائلين: المجد لله في الأعالي!

غير أنَّ بيت لحم إحدى زوايا الأرض الحقيرة تُرينا مشهداً عظيماً يُذيع مجد الله، ففيها نلمس الضدين: الإله الأزليّ الغير محدود متَّحداً بجسد بشريّ! ومولود من عذراء لا في قصر بل في مذود للبهائم! فهل خسر الله بعضاً من عظمته في تنازله واتّضاعه؟ كلا! وهل خسر شيئاً من محبته في رأفته ورحمته وغفرانه؟ لقد غزا يسوع قلب الإنسان وامتلكه إلى الأبد بحُبّه وحنانه، وانتزع كبرياءه بتنازله واتّضاعه، فلولا تواضع المذود ومذلّة الصليب لَمَا عرفت أنَّ الله محبة فانجذبت بمحبته، ولولا تواضعهما ما جثوت على ركبتي أمام حقارة مذوده.

لا نُنكر أنَّ أيَّة مدينة تسمع بقدوم رجل عظيم تستعد لاستقباله، ولكن بيت لحم كانت تجهل أمر ملك الملوك يوم مولده، ولم تجهّز له مكان لائق بعظمته، وبينما كان الأغنياء يتنعمون في قصور طُلت جدرانها بالذهب، كان سيد الكون غريباً في عالم ملكاً له، وعندما لم يجد مكان بين الناس نزل ضيفاً على مملكة الحيوان، لأنَّه كان يعلم أنَّ الإنسان الذي على صورته خلقه سوف يهينه ويرفضه وبأيدي الأثمة سيصلبه ويُميته، ولكن ألم يأتِ أباطرة روما وفراعنة مصر وملوك العالم ليسجدوا له أمام مذوده؟
لقد تواضع ابن الله ونزل إلىّ ليرفعني إليه، ولهذا لا يسعني سوى أن أهتف مع الملائكة قائلاً بصوت ملؤه الحب : ” المجد لله في الأعالي “.

وعلى الأرض السلام
—————————–

كان السلام سائداً يملأ أركان الفردوس وذلك قبل السقوط، ولكن منذ أن دَخَلتْ الخطية العالم نُزع السلام، وملأ الخوف قلوب البشر، ألم يحيا الإنسان مع الله فرحاً، وماذا بعد السقوط؟ أصبح يخشى التطلّع إليه حتى إنَّه عندما ناداه ” أيْنَ أَنْتَ؟ ” قال آدم: ” سَمِعْتُ صَوْتَكَ فِي الْجَنَّةِ فَخَشِيتُ لأَنِّي عُرْيَانٌ فَاخْتَبَأْتُ ” (تك10:3).
وبعد طرده من الجنة، شهر ضدّه سيف الكروبيم (تك4:3)، فاشتد قلق الإنسان وفقد طعم السلام، ولم يعد الله يُعلن ذاته إلاَّ في وسط لهيب النار، حتى إن بني إسرائيل لما رأوا الجبل مضطرماً عند ظهور الله في جبل سيناء قالوا لموسى: ” تَكَلَّمْ أَنْتَ مَعَنَا فَنَسْمَعَ. وَلاَ يَتَكَلَّمْ مَعَنَا اللهُ لِئَلاَّ نَمُوتَ ” (خر19:20).
وهكذا اعتقدوا أن رؤية الله لا يلحقها سوى الهلاك ولا سيَّما أن الله صرّح قائلاً ” لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَرَى وَجْهِي لأَنَّ الإِنْسَانَ لاَ يَرَانِي وَيَعِيشُ ” (خر20:33)، أتتذكرون قول منوح أبو شمشون ” نَمُوتُ مَوْتاً لأَنَّنَا قَدْ رَأَيْنَا اللَّهَ! ” (قض22:13).

ومع أن الله قد وضع ناموساً عادلاً، إلاَّ أنه زادهم خوفاً واضطراباً، لأنَّه كما قال مُعلّمنا بولس الرسول: ” لَمْ يَسْتَطِعْ آبَاؤُنَا وَلاَ نَحْنُ أَنْ نَحْمِلَهُ؟ ” (أع10:15)، حتى الذبائح التي تكفر عن الخطايا كانت تُذبح ، فكانت السكين متعطشة دائماً لسفك الدماء! وكل هذا إعلان عن زوال السلام حتى إنَّ الرؤساء كانوا يُنادون: ” سَلاَمٌ وَلَيْسَ سَلاَمٌ ” (حز10:13)، وقال إرميا النبيّ: ” لَيْسَ سَلاَمٌ لأَحَدٍ مِنَ الْبَشَرِ ” (إر12:12) .

وظل الحال هكذا طوال مدة العهد القديم، فكان الجميع يرجون إتيان ملك السلام لكي يُعيد الطمأنينة إلى قلب الإنسان، وقد رأوه كثيرين بعين الإيمان من بعيد، مثل إشعياء النبيّ الذي قال: ” لأَنَّهُ يُولَدُ لَنَا وَلَدٌ وَنُعْطَى ابْناً وَتَكُونُ الرِّيَاسَةُ عَلَى كَتِفِهِ وَيُدْعَى اسْمُهُ عَجِيباً مُشِيراً إِلَهاً قَدِيراً أَباً أَبَدِيّا ًرَئِيسَ السَّلاَمِ ” (إش6:9) .

أمَّا الأمم الوثنية فكانت لا تقل عطشاً عن اليهود، وذلك بعد أن رأوا ضعف آلهتهم، وعجزها عن تغذية أرواحهم ونزع الخوف من قلوبهم! إلى إن ظهرت ملائكة الرب من السماء، لتُعلن أنَّ كلمة الله قد نزل من السماء، ليُعطي الأمم خبز الحياة ليأكلوا ويشبعوا ويمتلئوا سلاماً.
قال ناحوم النبيّ: ” هُوَذَا عَلَى الْجِبَالِ قَدَمَا مُبَشِّرٍ مُنَادٍ بِالسَّلاَمِ ” (نا15:1)، وقال زكريا النبيّ: ” وَيَتَكَلَّمُ بِالسَّلاَمِ لِلأُمَمِ ” (زك10:9)، أما إشعياء النبيّ فيقول: ” مَا أَجْمَلَ عَلَى الْجِبَالِ قَدَمَيِ الْمُبَشِّرِ الْمُخْبِرِ بِالسَّلاَمِ ” (إش7:52)، وعند دخوله أورشليم هتف الأطفال قائلين: ” سَلاَمٌ فِي السَّمَاءِ وَمَجْدٌ فِي الأَعَالِي! ” (لو38:19).

ولأنَّ المسيح جاء لينشر رسالة السماء على الأرض، قال لتلاميذه قبل صعوده إلى السماء: ” سلاَماً أَتْرُكُ لَكُمْ، سلاَمِي أُعْطِيكُمْ ” (يو27:14)، ويُعزّينا أحد الآباء بقول رائع يقول: ” لمَّا فارق يسوع العالم ترك نفسه للآب وجسده ليوسف وثيابه للعسكر وأُمَّه ليوحنَّا، وأمَّا أولاده المؤمنين فترك لهم سلامه لا منصباً ولا غنىً ولا شرف، لمَّا أخطائنا فارقنا السلام ولمَّا أتى المسيح جاءت الملائكة تُعلن عن عودة السلام “.

وبالناس المسرة
—————–
لقد سُر الله بنا وأعلن محبته لنا بميلاد ابنه الحبيب! وهذا يدفعنا أن نقول مع مُعلّمنا بولس الرسول: ” اِفْرَحُوا فِي الرَّبِّ كُلَّ حِينٍ وَأَقُولُ أَيْضاً افْرَحُوا ” (فى4:4)، حقاً إنَّ التجسّد لا يمنع الجروح البشرية التي تُحزن قلب الإنسان، إلاَّ أن هناك جروحاً لا يُعالجها إلاَّ وليد المذود، أو تشفيها سوى الأيدي الطاهرة التي ثقبتها المسامير!

ولهذا يجب أن يفرح الخاطيء لأنَّ يسوع جاء ليلقى بخطاياه في بحر النسيان، وليترنم الحزين الباكيّ فقد ولد من يُعزّيه ويُحوّل دموعه إلى حبَّات لؤلؤ، وليُشبع الجائع لأنَّ خبز الحياة الحقيقيّ ولد في بيت لحم بيت الخبز، وليرتوي العطشان لأنَّ ينبوع ماء الحياة قد تفجر ليروى أرض قلوبنا القفرة!
المتألمون والمعذبون، المرضى والحزانى، البائسون واليتامى… ما أكثرهم في الكون! أناتهم تتعالى في كل لحظة وتشق عنان السماء، تتصاعد من الأكواخ والقصور، من الصحارى، من المستشفيات.. وراح الناس يتساءلون منذ القدم عن حل لمشكلة الألم! تعددت الحلول واختلفت المذاهب وتضاربت الآراء.. غير أن الإنسان لم يجد الحل إلاَّ عند مغارة بيت لحم حيث ولد المسيح، لكي يبدأ حياة هى في الحقيقة رحلة مع الآلام!

فمنذ أن ولد المسيح ومات على الصليب، وقد امتلأت عيناه من دموع الفقراء والمساكين، تغيّر وجه العذاب وأصبح الألم صليباً ذا جناحين بهما يطير الإنسان ليحلق في أمجاد السماء! فكم من دموع حُبست على ضفاف الجفون تحوّلت إلى حبَّات لؤلؤ على جبين المتألمين بعد أن عرفوا المسيح! وكم من أجساد قلّمتها أيدي الكرام الإلهيّ فجاءت بأجود العناقيد!

فيا كنيسة المسيح اذهبي إلى بيت لحم لتبتهجي، هيا أيها الشيوخ مع سمعان لتروا قديم الأزل قد ظهر ليسند ضعفكم! تعالوا أيها الرجال لتشتركوا مع يوسف النجار في خدمة سيده! وأنتن أيتها العذارى افرحن كما فرحت أُمه البتول! أيها المسيحيون افرحوا جميعاً كما فرحت السماء لأنَّ الباب المجد قد فُتح، وخرجت أشعة السماء منه لتملأ الأرض دفئاً روحياً واستقراراً نفسياً.
وأنت يا طفل بيت لحم، يا وليد المذود، حوّل أحزاننا إلى مسرّة، أرجع بصوتك الحنون الحياة إلى قلوبنا المائتة، وبلمس يدك الطاهرة النور إلى أجفاننا الممتلئة بالدموع، وأنت يا نجم بيت لحم، أشرق بلمعانك وقدنا إلى حيث يسوع مضطجعاً، لكي نهتف مع الملائكة قائلين:

المجـد لله فـي الأعـالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسـرة.