- السراج الأرثوذكسي - https://www.alsiraj.org/blog -

تحريض على العماد المقدس – للقديس باسيليوس الكبير

تحريض على العماد المقدس – للقديس باسيليوس الكبير

[1]

1- ان سليمان الحكيم، في تمييزه لحقبات الحياة، كان يحدّد منفعة كل حدث قائلاً: لكل أمر أوان ولكل غرض تحت السماء وقت. للولادة وقت وللموت وقت (جا 3/1- 2). أجل، ولكني سأعدّل قليلاً حكمة الحكيم إذ أقول، معلناً لكم بشرى الخلاص: للموت وقت ولبدء الولادة وقت… لماذا هذا التغيير؟ كان سليمان يتكلم عما يخص الولادة والموت، وطبقاً للطبيعة الجسدية جعل الولادة قبل الموت، إذ يستحيل على من لم يبدأ الحياة أن يدرك اختبار الموت؛ أما أنا سوف أُحدثكم عن الولادة الجديدة، الولادة بالروح، جاعلاً الموت قبل الحياة.

1- زمن العماد

في الواقع، إذا متنا للجسد نحيا للروح، كما يقول الرب: أنا أُميت وأنا أُحيي (تث 32/39)، لنَمُت إذن كي نحيا. لنَقتل فكرة الشهوة التي لا تستطيع الخضوع لناموس الله، حتى تولد فينا وبقوة، فكرة الروح التي ينتج عنها طبيعياً الحياة والسلام. لنُدفن مع المسيح الذي مات لأجلنا فنقوم معه. انه رسول قيامتنا.

لكل غرض وقت يلائمه: للنوم وقت وللسهر وقت، للحرب وقت وللسلام وقت؛ أما وقت العماد فيستنفد حياة الإنسان كلها. وكما ان الجسد لا يحيا بدون تنفّس، كذلك النفس لن تستمر بدون معرفة خالقها. فجهل الله هو موت لها. والذي لم يعتمد لم يستنر. فبدون النور لا تستطيع العين أن تتفحّص ما يهمّها، ولا النفس أن تتأمل في الله. لهذا، كل وقت يناسب الخلاص بالعماد، ليلاً كان أو نهاراً أو ساعة أو قدراً أقل من الزمن مهما قَصُر. يبدو من المؤكد أن الموعد الأكثر قُرباً هو الموعد الذي لا يوافق أبداً. هل هناك أنسب للعماد من يوم الفصح؟ لأن هذا اليوم يُحيي القيامة؛ والعماد هو طاقة تهدف إلى القيامة. لذا، لنتقبّل في هذا اليوم نعمة القيامة.

2- رتبة العماد

لهذا السبب تدعو الكنيسة منذ زمن طويل “صغارها” عبر تحريض سام حتى ان الذين ولدتهم سابقا في الألم تضعهم في العالم، وبعد أن تكون قد غذتهم بلبن تعالمحها المسيحية تذيقهم غذاء عقائدها القوي.

لقد كرز يوحنا بمعمودية التوبة فأقبلت اليه كل اليهودية. ويعلن الرب عماد التبنّي. فمن لا يطيع كلمته ممن وضعوا رجاءهم فيه؟ معمودية يوحنا كانت المدخل ومعمودية المسيح هي التمام. تلك كانت فصلاً عن الخطيئة وهذه إلفة مع الله. إعلان يوحنا كان إعلان إنسان فرْد وقد دفع الناس إلى التوبة، أما أنت فلقد تعلمت من الأنبياء: اغتسلوا وتطهّروا (اش 1/16)، وأخطرتك المزامير: تقدّموا إليه واستنيروا (مز 33/6)؛ انك تسمع البشارة الحسنة من فم الرسل: توبوا وليعتمد كل أحد منكم باسم يسوع لمغفرة الخطايا، فتنالوا موهبة الروح القدس (اعمال 2/38)، والسيّد نفسه يساعدك بقوله: تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والمثقلين وأنا أُريحكم (متى 11/28) (وقد وردت اليوم هذه الآيات في القراءة)؛ أتتردّد وتتشاور وتتحيّر بعد؟ ألا توافق الحقيقة أنت الذي تعلّمت منذ الصغر؟ ألمْ تبلغ بعد إلى المعرفة يا من لم تزل تدرس؟ ويا من تختبر الحياة وتستقصيها حتى الشيخوخة، هلا أصبحت مسيحياً؟ هلاّ عددناك واحداً منا؟ لقد رضيت في العام المنصرم أن تعتمد في مثل هذا اليوم، والآن من جديد، تنتظر العام المقبل. إسهرْ لئلا تفاجأ فيمَا تُعطي مواعيد أطول من حياتك. إنك لا تعلم بما يؤتيك الغد، فلا تعِدْ بما ليس لك.

اننا ندعوك يا رجل إلى الحياة؛ لماذا تهرب من هذا النداء؟ ألِتأخذ قسطك من السعادة؟ لماذا تُهمل هذه العطية؟ ملكوت السماوات مفتوح، والذي يدعوك إليه لا يكذب، الطريق سهل فلا حاجة لوقت أو لنفقة أو لعمل. لماذا تتأخر؟ لماذا تتراجع؟ أتخاف النير كعجلة لا تعرفه؟ انه ليّن وخفيف (متى 11/30)، لا يرهق الكتفين بل يمجدهما. انه لا يوثق العنق، بل يطلب من يحمله برضاه. هل تعلم ان افرائيم أتهمت، كعجلة جموح، شردت دون نظام، محتقرة نير الشريعة؟ اخضِع عنقك غير المروّض. تعال وضَعْ نير المسيح على عنقك خوفاً من أنك إذا أطحت به ولم تعش بحرية، تقع فريسة سهلة للحيوانات المفترسة.

3- رسوم العماد

2- ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب (مز 33/9). كيف تُعرّف حلاوة العسل لمن يجهلها؟ ذوقوا وانظروا: إن معنى كل كلام يتضح بالاختبار. اليهودي لا يؤجل الختانة بسبب التهديد هذا: وأي أقلف من الذكور لم تُختن القلفة من بدنه في اليوم الثامن تُقطع تلك النفس من شعبها (تك 17/14). وأنت تُرجئ هذه الختانة، حيث اليد لا تنزع اللحم، بل التي تتم بالعماد، وقد سمعت كلام الرب: الحق الحق أقول لك، إن لم تولد من الماء والروح، فلن تدخل ملكوت الله (يو 3/5). فمن جهة ألم وجرح، ومن أخرى، ندى للنفس ودواء للقلب المنثلم. أتعبد الذي مات لأجلك؟ إذن، ارتضِ أن تُدفن معه بالمعمودية. إذا لم تتماثل وإياه في التشبه بموته، فكيف تشترك معه بقيامته؟ لقد اعتمد اسرائيل بموسى في الغمام؛ وهو ينقل إليك أنموذج وصورة الحقيقة التي ستنكشف في الأزمنة الأخيرة؛ انك تهرب من العماد، لا الذي رُمز إليه في البحر، بل الذي يتم حقيقة؛ ليس في الغمام، ولكن بالروح؛ ليس لموسى رفيق العبودية بل للمسيح خالقك. لو لم يجز اسرائيل البحر، لما نجا من فرعون؛ وأنت إن لم تجز في الماء لن تنجو من استبداد الشيطان المخيف. ما كان اسرائيل ليشرب من الصخرة الروحية لو لم يعتمد رمزياً؛ وأنت لا تعطى الشراب الحقيقي إذا ما اعتمدت حقيقة. اسرائيل أكل خبز الملائكة بعد عماده؛ وأنت كيف تأكل الخبز الحي إذا لم تقبل العماد قبلاً؟ اسرائيل بلغ أرض الميعاد بفضل العماد؛ وأنت كيف تعود إلى النعيم ما لم تُوسم بالعماد؟ ألا تعلم أن سيفاً ملتهباً نُصب ليحرس طريق شجرة الحياة، انه مخيف ومحرق للجاحدين، ومدخل هيِّن ومتألق للمؤمنين. جعله الرب ينقلب عندما يرى مؤمناً ويُظهر حدّه لغير الموسوم.

3- لم يضطرب إيليا من المركبة النارية والخيل المتّقدة التي كانت آتية إليه، ولكنه، لرغبته في الارتفاع، تجرّأ رغم خوفه، لقد صعد بفرح إلى المركبة المتّقدة، هو الذي كان يحيا في الجسد؛ وأنت، ما عليك أن تصعد في مركبة نارية، بل أن ترتفع نحو السماء بالماء والروح، فلماذا لا تبادر إلى تلبية النداء؟ لقد أظهر إيليا قوة العماد. على مذبح التقادم حين أحرق الضحية بالماء لا بالنار. والحال أن النار، من جهة، بطبيعتها، تحارب الماء؛ ومن جهة أخرى، عندما سُكب الماء رمزياً على الهيكل ثلاث مرات تحوّل إلى ينبوع نار وأعطى لهيباً كلهيب الزيت. “قال املأوا أربع جرار ماء وصبّوا على المحرقة وعلى الحطب، ثم قال ثنّوا فثنّوا ثم قال ثلِّثوا فثلَّثوا (3 ملوك 18/34). يُظهر هذا الكلام أن المرشح يوافق الله بالعماد وأن نوراً سماوياً يتألق في نفوس الذين التزموا، لإيمانهم بالثالوث.

4- الذين يرجئون اقتبال العماد

لو كنتُ أُوزّع ذهباً على الجماعة، لا تقول لي: “سآتي غداً وسوف تعطيني”، بل تطلب حصتك من التوزيع محتملاً بصعوبة أن يسبقك أحد. وعندما يعرض عليك الموزع الأكبر ليس مادة برّاقة بل طهارة النفس، تختلق الأعذار وتحصي الأسباب وكان حري بك أن تأتي إلى التوزيع. انه لشيء مدهش، تريد أن تتجدّد دون أن تذوب، أن تأخذ صورة جديدة دون أن تُكسر، أن يُعتنى بك دون أن تعاني شيئاً، ولا تأبه بالنعمة. لو كنتَ عبداً للناس وتقرر موعدٌ للعتق، ألا كنت تجيب في اليوم المقرر وتدفع للمحامين مستصرخاً من القضاة حتى تُختار لتتحرر؟ إني أفترض أنك تقبل صفعة وهي آخر ضربة تعطى للعبيد، على أمل أن تُعتق بعدئذٍ من كل عتق. الآن وأنت عبد لا للناس بل للخطيئة، المنادي يدعوك إلى الحرية، ليعتقك من أسرك ويجعلك معادلاً للملائكة في الحقوق، ويقيمك ابناً لله بالتبنّي، بواسطة النعمة، وارثاً لخيرات المسيح، وتقول بأن الوقت لم يحن بعدُ لك لنيل هذه المواهب.

انها لعوائق يُرثى لها! وموانع مخجلة ولا حدّ لها! إلى متى الشهوات الحسية؟ لقد عشنا مدة طويلة من الوقت للعالم، لنحيا إذن لذواتنا ما تبقّى! ماذا يعادل النفس؟ وماذا يضاهي ملكوت السماوات؟ أي رجل مشورة أجدر بالثقة من الله؟ من أعقل من الرجل الحكيم وأكثر فائدة من الرجل الطيب؟ من أكثر إلفة مع الله؟ لم يفد حواء السماع لإرشاد الحيّة أكثر من سماع مشورة الرب. انه لكلام غريب: “ليس لديّ متسع للشفاء، لذا لا ترني الضوء ولا تربطني بالملك”. ألا تقول هذا الكلام؟ بل تقول أكثر منه حماقة.

لنفترض انك ملتزم بدفع الضرائب وانّ حسماً من الديون العامة قد أعلن للمدينين تجاه الدولة، وهناك من يحاول إلحاق الضرر بك يحرمانك من هذا الحسم، فانك سوف تغتاظ وتصرخ لأنهم يحرمونك ما يعود عليك بالمنفعة العامة. وعندما يُعلَن الصفح ليس عن الماضي فقط بل عن التقادم في المستقبل، فإنك تلحق الضرر بنفسك في مادة لا يستطيع أي خصم أن يلحق الضرر بك في حين أنك تعتقد بأنك اتخذت قراراً صحيحاً وانك تدبرت حلولاً مفيدة لك أنت الذي لا يقبل سداد الدين، بل تموت في ديونك، مع انك تعلم أن المدين بعشرة آلاف وزنة قد كان يقبل الصفح لو لم يجدد طلبه غير المحق بقسوة من رفيقه. فلنحترس ألاّ تثور فينا نفس العاطفة عندما ننال النعمة حتى تبقى العطية لنا.

5- فوائد العماد

4- أدخل إلى قرارة نفسك، وحرّك ذكرى أفعالك، إذا كانت أخطاؤك عديدة، فلا تهن عزيمتك لكثرتها، لأنه حيث كثرت الخطيئة، طفحت النعمة (رو 5/20)، إذا كنت أقلّه نلت النعمة؛ فمن عليه كثير يُغفر له كثير، لكي يحب بأكثر وفرة. وإذا ما كانت، على العكس، خطاياك بسيطة وخفيفة ولا تقود إلى الموت، فلماذا تقلق للمستقبل، أنت الذي لم تعش أكيداً زمانك الماضي في الجبانة، هذا قبل أن تتلقّن الشريعة؟ الآن وكأن نفسك في ميزان، تتجاذبها الملائكة من جهة والشياطين من جهة، فلمن منهم تعطي اندفاع قلبك؟ مَن ينتصر عندك؟ لذة الجسد أم تقديس النفس، متعة الخيرات الحاضرة أم رغبة الخيرات الآتية؟ هل ستتقبلك الملائكة، أم بالأحرى الذين يمسكونك الآن يواصلون تملكهم عليك؟

في ساحة الوغى، يعطي القوّاد كلمة السرّ لجنودهم حتى يتنادوا بسهولة إذا ما اختلطوا بالأعداء، وإذا ما اختلطوا في العراك يسهل فصلهم. لا أحد يعرف إذا كنت منا أم من الأخصام إذا ما أثبتّ انتماءك بسمات “روحية”، إذا لم يرتسم على وجهك نور الرب. كيف يتصرف الملاك تجاهك، كيف يقتلعك من الأعداء إذا لم يتعرّف إلى الختم؟ كيف يمكنك أن تقول “أنا من الله” إذا لم تُبرز علامات اعترافك به؟ أتجهل أن المُهلك كان يحفظ البيوت الختومة ويذبح كل بكرٍ من البيوت غير المختومة؟ ان السارقين ينهبون بسهولة كنزاً غير مختوم؛ ولا من خطرفي السطو على قطيع صغيرغير مميز.

5- أأنت فتى؟ احفظ شبابك بوازع العماد. هل شرخ الشباب ولَّى؟ فلا تبدّد ذخائرك ولا تنفق ثرواتك، لا تظن أن الساعة الحادية عشرة تشبه الأولى. يحسن في هذه المرحلة من الحياة أن تضع الموت نصب عينيك. لو ان طبيباً وعدك بأن يعيد إليك شبابك باقتلاع الشيخوخة منك بعلاجاته وحيله، ألا تودّ الذهاب إليه في اليوم عينه حتى يعيد إليك قوة العمر؟ العماد يدعوك بإنعاش نفسك التي خرّبتها وغضّنتها ولطّختها بأوزارك، إنك تزدري المحسن إليك ولا تبادر إلى وعده! ألا تودّ رؤية معجزة الوعد الكبرى؟ كيف يمكن للإنسان أن يولد من جديد بدون أُم، كيف على الشيخ المنفسد بالرغائب الخداعة أن تعود إليه الحيوية، أن يعود فتياً وتعود إليه زهرة الشباب الأولى؟ العماد هو فدية الأسرى وتسديد الديون وموت الخطيئة وتجديد ولادة النفس والرداء المتألق والمركبة إلى السماء وضمانة الملكوت ونعمة التبنّي.

أدركُ جيداً ارجاءك العماد إلى ما بعد، ولو احتميت وراء الأعذار؛ ان الأشياء نفسها تصرخ إن أنت لزمت الصمت، “اتركني وشأني، سأستغلّ الجسد لمتع دنيئة، أريد أن أتمرّغ في وحل الملذات؛ وأخضّب يديّ، أود أن أسرق مال غيري، أن ألجأ إلى الخداع، أن أحلف زوراً، أن أكذب؛ وعندما أنتهي يوماً من أفعالي القبيحة آنئذٍ اقتبل العماد”. إذا كانت الخطيئة حقاً خيراً فاحتفظ بها حى النهاية؛ أما إذا كانت تسيء إلى الذي يقترفها، فلماذا تتابع المجازفة في إهلاك ذاتك؟ لو أراد أحدٌ أن يتقيّأ مرارة، لا يعمل على زيادة إثارتها بما هو فاسد ومفرط، بل يحسن أن ينظِّف جسده من كل ما هو ضارّ بدل أن يعمل على تفاقم المرض. من الواضح أن السفينة تتحمّل وزناً معيناً من الحمولة، فاذا ما زاد غرقت؛ احترس أن تصيبك نفس المغامرة وانك بعد أن ترتكب خطايا أكثر مما يُغفر لك، تُصاب بالغرق قبل أن تصل إلى الميناء المرجوّ. ألا يرى الله ما يجري أو أنه لا يدري بأفكارك؟ أو إنه يساعدك على خطاياك؟ انه يقول: صنعتَ هذا فَصَمَتُّ فظننتَ أني مثلك (مز 49/21).

6- خطر إرجاء قبول السرّ

عندما تبحث عن صداقة إنسان، تجتذبه إليك لإحسانه؛ تقول وتفعل ما يستبين لك مستحباً لديه؛ عندما تسعى لتصبح أليف الله الذي ترجو أن تكون بمثابة ابن له، إذا اقترفت أعمالاً مناوئة له، وإذا أهنته بتعدّيك لشريعته الذي به تجرحه، أتأمل أن تحصل على صداقته؟ على أمل تحررك تيقّظ حتى لا تتراكم عليك كثيرة الزلاّت وأن تحشد الخطيئة وأن تحرم نفسك من الغفران. فان الله لا يُستهزأ به (غلا 6/7). لا تستغلّ النعمة بحيث تقول: “الشريعة جيدة ولكن الخطيئة مستحبّة أكثر”. اللذة هي شصّ الشيطان، تقود إلى الهلاك. اللذة هي أُم الخطيئة والخطيئة هي شوكة الموت. اللذة هي بؤرة حشرة الأبدية. الآن تَفتن من يتمتع بها، ولكن بعدئذٍ، تجعله يتقيأ مرارة. المماطلة في التأجيل إن هي إلا صراخ: لتمتلك الخطيئة أولاً عليَّ وسيملك الرب يوماً عليَّ. أُسلّح أعضائي بسلاح الظلم للكفر؛ ثم أُسلحها بنفس أسلحة البر لله. قايين كان يقرّب أيضاً محرقاته: النخبة الأولى لنعيمه الخاص، والثانية لله الخالق والموزّع. وأنت، على قدر استطاعتك، بدّد شبابك في الخطايا إلى أن يضعف فيك الجسد فحينئذ تقدّمه لله حينما يصبح غير صالح لشيء إلا لأن يهمل نتيجة انهاكك إياه وعدم منفعته. عفاف الشيخوخة ليس بعفاف وإنما هو عجز. لا يتوّج المائت ولا يتبرّر إنسان لعجزه عن عمل الشرّ. على قدر استطاعتك تغلّب على الخطيئة بالعقل. ان الفضيلة ترتكز على هذا: اجتنب الشرّ واعمل الخير (1 بط 3/1). عدم الشرّ، بحدّ ذاته، لا يستحق المكافأة ولا العقاب. إذا امتنعت عن الخطيئة بسبب سنّك، فهذه ثمرة ضعفك. اننا نثني على أهل الفضيلة لاختيارهم الحر ولا نثني على من دُفعوا إليها بحكم الضرورة.

من عيّن إذن حدود حياتك؟ من حدّد حلول شيخوختك؟ من تراه أهلاً بثقتك ممن حولك، ليكون كفيلاً لما سيحدث لك؟ ألا ترى أطفالاً خُطفوا وهم في المهد، وآخرين في قوة العمر؟ انك لا تستطيع أن تضمن حياتك ولا يوماً واحداً، فلماذا تنتظر أن تكون معموديتك هدية الحمى إليك؟ ففي هذه الآونة لا تقدر أن تتلفّظ بكلمات الخلاص، ولربما لا يكون باستطاعتك أن تسمع جيداً؛ المرض يصيب رأسك، فأنت عاجز عن أن ترفع يديك إلى السماء، وأن تنتصب على رجليك، وأن تجثو على ركبتيك لتعبد، وأن تستفيد من تعليم، وأن تعترف بوضوح، وأن تتجدّد بالله، وأن تكفر بالعدو، وأن تتاع بوضوح طقس عمادك، بحيث أن الحضور لا يعرفون إذا ماكنت متنبهاً للنعمة أو فاقد الحس مما يجري. وإذا ما قبلت النعمة بملء معرفتك، فأنت تملك الموهبة ولكن دون أن تفيدك شيئاً.

7- أمثلة الكتاب المقدس

6- إقتدِ بخصيّ سفر الأعمال. إذ وجد الكارز لم يحتقر تعليمه؛ لقد أصعد الغنيُّ الفقيرَ إلى مركبته، والرجلُ القدير والمشبع أصعدَ البسيطَ المزدرى؛ عندما تلقى إنجيل الملكوت، اقتبل الإيمان في قلبه ولم يُرجئ ختم الروح. في الواقع، لما وجدوا ماء، قال: هوذا ماء، كلامه صدر عن فرح عامر: هذا ما نبحث عنه، فما المانع من أن اعتمد (أعمال 7/36). عندما توفّر له ما أراد لم يعد من حائل دونه، لأن الذي يدعو يحبّ الإنسان، الشماس مستعدّ، النعمة فائضة، وهو كله رغبة؛ فلا مانع.

إذا وُجد عائق ليوقفنا وليسدَّ طريق الخلاص، فلنتغلب عليه بالمعرفة. إذا ما جعلنا نتردّد، لننتصب ونعمل، انه يضلّ قلوبنا بوعود جوفاء، فلا نجهلن مقاصده. ألا يوحي إليك بأن ترتكب الخطيئة اليوم ويقنعك بأن تحتفظ بالبر للغد؟ لهذا فإن الرب يسحق مشوراته السيئة فينا إذ يقول: اليوم، إذا سمعتم صوتي (مز 9/89) وهو نفنسه يجيب: اليوم، اسمعوا صوتي. إفهم عدوّك: انه لا يجرؤ أن ينصحك على أن تنفصل نهائياً عن الله (اذ يعرف أن المسيحيين يكرهون سماع مثل هذه الأقوال)، ولكنه يتابع مخططه بوسائل خدّاعة. انه ماهر في الاساءة ويفهم جيداً أن البشر يعيشون حاضرهم وان كل عمل يتم في الحاضر. فإذا ما سلبنا يومنا بمكر، يترك لنا الرجاء للغد، وإذ يأتي الغد، يصل إلينا من جديد شريكنا الشرير؟ يطلب اليوم له والغد للرب؟ وهلم جرا دون نهاية. يسلب الحاضرعلى حساب اللذة، ويترك الغد لامالنا، وهكذا عن جهل منا يحولنا عن سبيل الحياة.

8- اختبار الحياة

7- أخذت اراقب يوما قساوة أحد الكواسر. كان يأخذ صغار العصافير لطراوة لحمها، كان يتظا هر طريدة هينة للصيادين ثم يهرب منهم، بعيدا عن منالهم، لم يكن من السهل القبض عليه، إلا أن الصيادين لم يتخلوا عن غنيمتهم، كان يخيب أملهم ورغبتهم في القبض عليه، حتى يتمكن بهذه الواسطة أن يطير بصغار العصافير التي لم تكن لتهرب منه. أنت أيضاً، حذار عن أن تحصل لك مثل هذه المغامرة المزعجة عندما تتخلى عن خيرات ثابتة لأجل أمل غير أكيد.

لذا اتبعني إلى هنا، ضع اتكالك كله على الرب، اعطِ اسمك وسجّله في الكنيسة. الجندي يحصى على اللوائح، ويبدأ المصارع مصارعته عندما يلتزم، ويتسجل المواطن ويحصى بين أعضاء القبيلة. انك ستؤدي حساباً عن كل هذا كجندي للمسيح، كمصارع في التقوى، كمواطن للسماوات. قيّد اسمك في السجل حتى تشترك في التسجيل في كتاب السماء. تثقف وادرس الدستور الإنجيلي؟ عفّة النظر، ضبط اللسان، ضبط الأهواء، قهر الجسد، السيطرة على الكبرياء، صفاء الذهن، تلاشي الغضب. إذا كرهوك فاعمل أكثر؛ إذا هُضِمَتْ حقوقك، لا تقم دعوى؛ أحبّ إذا أبغضوك؛ إذا اضطهدوك لا تقاوم؛ إذا افتروا عليك صلِّ. أمت الخطيئة؛ اصلب ذاتك مع المسيح؛ حوِّل كل محبتك للسيد.

كل هذا شائك؟ وأية سعادة سهلة؟ مَن رفع نُصباً تذكارياً وهو نائم؟ مَن في الرخاوة وعلى سحر الناي كُلِّل لنشاطه؟ لا أحد يحرز نصراً إن لم يجاهد، الجهود تولّد المجد، والمحن تعدّ الاكاليل. “انه بمضايق كثيرة ينبغي لنا أن ندخل ملكوت السماوات” (أعمال 14/21). اني أتخذ لنفسي هذا القول، على أن غبطة الملكوت تعزي في المحن؛ وأما عذاب وحزن الجحيم فهما عقاب الخطيئة.

كل من ينظر موضوعياً يتبين له أن أعمال الشيطان تتطلب أيضاً جهداً من قِبَل عمال السوء. أية أعراق مجهدة تفرضها العفّة، بينما الماجن بتصبّب عرقاً، مجونه يذيبه. هل انضباط الجسد يتطلّب أكثر مما يهده فجور الفسق؟ كيف تتمثّل ليالي أولئك الذين يقضونها مجتهدين في الصلاة، بينما ليالي أولئك الذين يقضونها في الخطايا… إن خوفهم من أن يؤخذوا في الجرم المشهود وهيجان اللذة يُطردان عنهم كل راحة. إذا كنت إذن تهرب من الطريق الضيق الذي يقود إلى الخلاص وتبحث عن طريق الخطيئة الواسع، أخاف عليك، بعد أن تكون قد اجتزته حتى نهايته وفي رحابته، أن لا تجد مسكناً لك في نهاية الطريق.

ليس من السهل الحفاظ على الكنز. لديك معاونون إن شئت: الصلاة التي تسهر خلال الليل، الصوم الذي يحفظ البيت، وترنيم المزامير الذي يقود النفس. إجعل منها رفقاءك، لتسهر معك الليل تصون خيراتك الثمينة. قل لي أيهما أفضل، أن نكون أغنياء وأن نُشغف في حفظ خيراتنا الثمينة، أو أن لا تملك أيدينا رهناً لما نحتفظ به؟ لا أحد يتخلى عن خيراته خوفاً من أن يحرم منها، كما انه لا شيء يعوّض الأشياء الإنسانية إذا فكّرنا بامكانية خسارة ما نعمل في سبيله. في الواقع، القحط يهدّد الزراعة، والغرق التجارة، والترمّل الزواج، والفشل التربية، ومع هذا نضع أيدينا في العجين، متنشطين بأحلى الآمال، نودع نهاية آمالنا الله الذي يرعى أمورنا. أنت تعطي في كلامك أهمية كبرى للقداسة، وفي الواقع تقضي أيامك في ما يؤول إلى الحكم عليك. حذار أن يأتي يوم تندم فيه على أعمالك الهدّامة حيث لا يعود ينفع الندم.

9- مَثَل العذارى

تأمّل مَثَل العذارى. لم يكن معهن زيت في قناديلهن؛ فعندما كان عليهن أن يلجن مع العريس، تنبّهن لما كان يفوتهن من الضروري، لذا فالإنجيل يدعوهن جاهلات، لأنهن، بينما ذهبن ليتمونَّ، أضعن الوقت، الذي كان فيه زيتهن يحترق، وهكذا أُقصين عن أفراح العرس. أنت أيضاً، انتبه، سنة عن سنة، وشهراً عن شهر، ويوماً عن يوم، من أن تصل دون أن تأخذ الزيت الذي ينير في يوم لا تنتظره، حيث تحرم من وسائل الحياة؛ العوز يصبح كلياً والعقاب لا يُشفق، الأطباء يتركونك وأخصاؤك يبتعدون عنك؛ بينما أنت يضيق نَفَسُك ويصعب تنهدك وتحترق وتذوب رويداً تحت حرارة حمى ملتهبة، فتئنّ من أعماق قلبك دون أن تجد سنداً؛ تحاول أن تهمس بشيء فلا أحد يسمعك؛ كلماتك تُحسب هذياناً. من يمنحك حينئذٍ العماد؟ من ينقلك من لاوعيك الذي أغرقك فيه مرضك؟ أقرباؤك تثبط هممهم، الغرباء لا يهتمون للمرض؛ الصديق يخشى ذكر الماضي كمصدر اضطراب؛ الطبيب نفسه يخدعك، وأنت نفسك لا تيأس لأنك متمسك بالحياة. هوذا الليل، ما من معين، وما من معمّد. الموت ينتصب فوق سريرك والحفارون يتنافسون. من سينقذك؟ الله! فقد ازدريته. ربما سمع لك إن أنت استمعت إليه؛ ربما يعطيك مهلة إذا ما استخدمت باستقامة اليوم الذي وهبك إيّاه.

10- خاتمة

8- لا يغرّكم أحد بالكلام الباطل (أفسس 5/6). ان الموت سيطبق عليك فجأة، والكارثة ستهاجمك كعاصفة هوجاء. سيأتي الملاك مغمض العينين، ليأخذك عنوة ويقود نفسك وقد استسلمت إلى الخطيئة وتقيّدت بالأرض وناحت في صمت عميق. ستمزق نفسك! سوف تئنّ وتتحسّر على أعمالك دون نتيجة، عندما ترى فرح الصديقين في نور توزيع المكافآت، وحزن الخطأة في أعماق الظلمات. ماذا تقول حينئذٍ والألم يحزّ في قلبك؟ “يا لتعاستي لأني لم ألقِ عني هذا الوزر الثقيل للخطيئة بينما كان متيسراً لي ذلك، بل حملت هذا الثقل على كتفي. ويل لي لأني لم أغسل أوساخي، وعليَّ الآن وسم خطاياي الاحمر، لقد كان باستطاعتي الآن أن أكون مع الملائكة، أنعم بالخيرات السماوية. يا لشقائي، بسبب لذة الخطيئة العابرة، أتعذّب إلى ما لا نهاية. لقد أُسلمت إلى النار بسبب لذّة الجسد. قضاء الله عادل. لقد دُعيت فما أطعت؛ كنت أعرف تعاليمه وما حفظتها؛ كانوا يلحّون عليَّ فاستهزأ بهم”.

قد تقول هذه الكمات وغيرها أيضاً منتحباً على ذاتك، إذا قضيت نحبك قبل العماد. أيها الرجل، اخشَ جهنم أو اسعَ في كسب الملكوت. لا تحتقر النداء. لا تقل، أرجو أن تعذرني بسبب هذا أو ذاك. أية ذريعة لا تفيدك للاعتذار. قد أتأثر حتى البكاء عندما أُفكر بأنك تفضل الأعمال الشائنة على مجد الله الكبير؛ غواية الفجور ترمي بك في أحضان الخطيئة وتقصيك عن السعادة المنشودة فلا تعود ترى جمال أورشليم السماوية، حيث ألوف الملائكة، وجماعات الأبكار، وعروش الرسل، وكراسي الأنبياء، وصوالجة الآباء، وأكاليل الشهداء، ومدائح الأبرار. تشوق أن تُحصى بينهم، مغسولاً ومقدساً بموهبة المسيح الذي له العزّة والمجد إلى دهر الداهرين. آمين.

ترجمة الأب سليمان أبو زيد