- السراج الأرثوذكسي - https://www.alsiraj.org/blog -

سيرة القديس خادم الكهنوت الملوكي

القديس باسيليوس الكبير





 1 – حياته :


ولد القديس باسيليوس سنة 330 في قيصرية كبّاذوكية، وهي مقاطعة رومانيّة تقع غرب أرمنيّة، في عائلة وجيهة أرستقراطية، ولكنها مسيحيّة ملتزمة ومقدّسة. فكان جدّه لأبيه، ويدعى باسيليوس، قد ترك كلّ أملاكه الواسعة وأمواله للحفاظ على إيمانه في عهد الإمبراطور ديوكليتيانوس. أما جدّته ماكرينا فكانت تلميذة غريغوريوس صانع العجائب.
كان أبوه أستاذ الخطابة في قيصرية. وأمّه أماليا من عائلة أرستقراطية أيضاً؛ احتمل أبوها العذاب والاضطهاد، وكان أخوها أسقفاً قي قيصرية كبادوكية.
كان لعائلة باسيليوس تسعُ أولادٍ، خمسُ بناتٍ وأربعةُ ذكور. كرّس معظمهم حياته لخدمة الكنيسة وطوّبوا قديسين مع الأم أميليا والجدة ماكرينا. نعرف من بين الذكور: باسيليوس، غريغوريوس الذي صار فيما بعد أسقف نيصس (القديس غريغوريوس النيصي)، بطرس الذي صار أيضاً أسقف سبسطية، نافكراتيوس، ومن البنات نعرف القديسة ماكرينا أخته.
كان أبوه أستاذه الأوّل.. ولكن بعد وفاته سنة 345، نزل باسيليوس إلى قيصرية كبادوكية لمتابعة دراسته هناك، حيث تعرّف إلى صديقه القديس غريغوريوس النزينزيّ (اللاهوتيّ)، ثم انتقل إلى القسطنطينية ثم إلى أثينا التي كانت مركزاً في العلم والثقافة حيث كان صديقه غريغوريوس قد سبقه إليها.
أمضى باسيليوس ما يقرب الخمس سنوات في أثينا، فتوطدت بينه وبين غريغوريوس أواصر المحبّة والأهداف الروحية، حتى أن غريغوريوس نفسه يقول أنهما كانا روحاً واحداً في جسدَين. ويقول أيضاً: "عرفنا شارعَين في المدينة، الأوَّل يؤدّي إلى الكنائس والمذبح والثاني إلى الجامعة ومعلمي العلوم. أما الشوارع التي تؤدي إلى المسارح والملاعب والأماكن غير المقدسة فتركناها لغيرنا".
شكّل فيما بعد، مع صديقه غريغوريوس النزينزي وأخيه غريغوريوس النيصي تيّاراً فكريّاً لاهوتيّاً جمع بين مدرسة أنطاكيّة الأرسطيّة ومدرسة الإسكندريّة الأفلاطونيّة، سمّي هذا التيّار بـ"آباء كبّاذكوكيّة". ومن جهة أخرى، أدرج اسمه مع اسم صديقيه غريغوريوس النزيزي ويوحنّا الذهبيّ الفم تحت عبارة "الأقمار الثلاثة" للتأكيد على دور الثلاثة العظيم في الفكر اللاهوتي والرسالة الكنسيّة.
وصل إلى أثينا عام 355 تلميذ آخر وهو يوليان (الذي صار فيما بعد إمبراطوراً) لمتابعة دروسه، فكان الأمير الشاب على علاقة وثيقة بباسيليوس، واعتاد أن يدرس معه.. كما تحلّق في أثينا حوله عدد من الطلاب فألّفوا أوّل رابطة طلابية مسيحية في العالم.
ظهرت عبقرية باسيليوس في دراسته حتى أن غريغوريوس يقول أنه كان بارعاً في كل فرع من فروع العلم كما لو كان متخصصاً فيه وحده. بعد إنتهاء دراسته عاد سنة 356 إلى وطنه أما غريغوريوس فبقي في أثينا لوقت قصير يعلِّم الخطابة والبلاغة. وفي كبادوكية حرَّك مسلك أخته وأمّه دعوته الروحية فهما قد حوّلتا منزل الأسرة ليكون منسكاً وسط الطبيعة الهادئة فجذب هذا المنسك عدداً من النساء .
أخذ باسيليوس يدرس الكتاب المقدس فوجد فيه نوراً يختلف عن نور المؤلفات الوثنية فاعتمد، وقرر أن يبحث عن النساك المشهورين ليقتدِ بهم، فزار مصر وسوريا وأنطاكية وبلاد ما بين النهرين وعندما عاد إلى قيصرية كبادوكية رُسم شماساً وشارك في مجمع القسطنطينية سنة360. لكنه لم يبقَ في قيصرية بسبب إنزعاجه من اسقفها الآريوسي ، ثم باع كل ما يملكه ووزعه على الفقراء والمحتاجين ونسك أولاً في ممتلك لغريغوريوس صديقه، ولكنه عاد واختار منطقة في بلاد البنط لما تمتاز به من جمال طبيعي خلاّب، وربما فعل ذلك لاستمالة صديقه غريغوريوس فكتب اليه واصفاً المكان قائلاً: "أرشدني الله إلى منطقة تتفق تماما وأسلوبي في الحياة أنها حقاً ما كنّا نتوق إليه في أحلام يقظتنا، فما كان يظهره الخيال لي بعيداً أصبحت أراه أمامي ، جبلٌ عالٍ تكسوه غابة كثيفة ترويها في الشمال جداول دائمة الجريان وعند سفح الجبل يمتد سهل فسيح كثير الفاكهة بسبب الرطوبة ، أما الغابة المحيطة التي تتنوّع فيها الشجار وتزدحم فهي تعزلني في قلعةٍ حصينة".
"إذا كنت في حدود الليل تتأمل النجوم وجمالها الأخّاذ فأنك ترى الفنان الذي صمَّمَها وترى الذي زيّن السماء بهذه الورود ، وإذا كنت في الصباح المبكر فأنك تتعلم الكثير عن عجائب النهار . فمما هو منظور تصل إلى اللامنظور".
أما عن طعامه فأنه ما كان يتناول إلاّ ما هو ضروري لسدّ رمقه. ولم يكن ذلك الطعام سوى الخبز والماء يقول غريغوريوس أخوه أنه كان يقمع جسده فيعامله كما يعامل سيدٌ غضوبٌ عبداً هارباً.
زاره صديقه غريغوريوس فبقي بقربه سنة ونصف وهناك انصرفا إلى دراسة الكتب اللاهوتية دراسة عميقة، ونسّقا كتاب الفيلوكاليا، وعملا معاً على تنظيم الحياة الرهبانية.
تحلّق حول باسيليوس عدد كبير من مريدي الرهبنة، فوضع لهم القانون الكبير والقانون الصغير، فاشتهر بأنه منظِّم الحياة الرهبانية في الشرق.
سمع في تلك الفترة أن اسقف قيصرية قَبِل قانون الإيمان الآريوسي، فترك وحدته لإقناعه بالإيمان النيقاوي، فعاد الأسقف عن الدستور الآريوسي وهو على فراش الموت. ثم أقنعه صديقه غريغوريوس بالذهاب إلى قيصرية للعمل مع الأسقف افسافيوس ففعل ولكن سرعان ما نشب الخلاف بينهما لأن باسيليوس اكتسب شهرة واسعة فثار حسد الأسقف وانتهى الأمر إلى القطيعة، فعاد باسيليوس إلى منسكه لوقت قصير. كتب في هذا الوقت ضد الإمبراطور يوليان الذي تمسك بالوثنية. ولما التقى في الشرق الإمبراطور فالنس كثر الخطر على الإيمان القويم، فطالب الشعب بعودة باسيليوس، وبعد عدة محاولات، تم التوفيق بينه وبين الأسقف. فاستخدم باسيليوس كل علمه وفصاحته لإحباط الآريوسيين.

لم تمنعه الاحتياجات اللاهوتية من الاهتمام بالعمل الاجتماعي، فأن المؤسسة العظيمة "الباسيلية" التي أقامها في ضواحي قيصرية لعلاج المرضى وإراحة المسافرين وإعالة الفقراء، قد وضع تصميمها في أواخر سنوات كهنوته. ومن ابرز حوادث تلك الفترة هي المجاعة التي اجتاحت كل الإقليم سنة 368، فلم يكتفِ بحثِّ الأغنياء والتجار على الرحمة بل باعَ ممتلكاته التي آلت إليه بعد وفاة أمّه ووزعها على المحتاجين.
توفى افسافيوس منتصف سنة 370 فطالب به معظم المؤمنين اسقفاً، لكن معارضيه كانوا من الأساقفة الآريوسيين وبعض المؤمنين الآريوسيين. وكان لأسقف نزينـز دور مهم في انتخاب باسيليوس اسقفاً لأنه حضر وهو على فراش المرض إلى الدورة الإنتخابية.
رسم اسقفاً عام 370، فبدأ عمله الصعب في مجالات متعددة. وكان هناك فريق من الأساقفة الذين رفضوا الاشتراك في تنصيبه يعاملونه بكل استخفاف. وصمّمت حكومة الإمبراطور على تقسيم منطقة قيصرية إلى قسمين لإضعاف باسيليوس. فاختيرت مدينة تيانا لتكون العاصمة الجديدة. وهكذا طالب اسقف تيانا بتقسيم كنسي يتبع التقسيم الإداري وأن تتمتع متروبوليته بامتيازات مساوية لامتيازات قيصرية. فقرر باسيليوس مقاومة هذا التقسيم وحتى يعزز موقفه رسَم صديقه غريغوريوس على سازيا. ورسم أخاه غريغوريوس اسقفاً على نيصّا. لكن صديقه غريغوريوس هرب من المدينة بعد أن لاقى صعوبات كبيرة فذهب باسيليوس في صراع مع الإمبراطور الذي كان يعبر آسيا الصغرى مصمما على ملاشاة الإيمان المستقيم فكان مصير كبادوكية متوقفا على باسيليوس. هدده الإمبراطور أما بالعزل أو الاشتراك مع الآريوسيين. واستدعاه مودستوس الحاكم وطالبه بالخضوع، وهدده بمصادرة أملاكه وبتجويعه وتعذيبه ونفيه. فردَّ باسيليوس أن لا شيء من هذه التهديدات ترهبه، فليس له شيء يصادر سوى قليل من الخرق وبعض الكتب، أما النفي فلا يضعه وراء أراضي الله، لأن الأرض كلها دار غربة، أما التعذيب فلا يخيف جسماً قد مات فعلاً.
أعلن مودستوس الحاكم قائلاً له أنه لم يكلمني أحد بهذه الجرأة حتى الآن. فأجابه القديس: ذلك لأنك ربما لم يؤتى لك أن تواجه اسقفاً حقيقياً. بعد التهديد لجأ الحاكم إلى الوعد لكن الوعد فشل أيضاً. وفي عيد الظهور الإلهي دخل الإمبراطور إلى الكنيسة محاطاً بالحاشية الكبيرة فرأى باسيليوس واقفاً على المذبح فلم يتحرك باسيليوس وظل جامداً كالتمثال وكان شيئاً لم يحدث.
كان الوفاق ظاهرياً بين الإمبراطور وباسيليوس. لكن القديس لم يسمح للآريوسيين بأن يشتركوا معه في الخدمة، لذلك أقنع الآريوسيون الإمبراطور بنفي باسيليوس فأمر بنفيه.
أعدّ القديس عدَّته للرحيل، لكن ابن الإمبراطور مرض مرضاً مفاجئاً، فعزت أمه الأمر إلى نفي باسيليوس، فأرسل الإمبراطور اثنين يتوسلان إلى القديس أن يصلي من أجل الطفل غير المعمَّد، فطلب باسيليوس قبل ذهابه أن يُعمَّد الطفل على يد كاهن مستقيم العقيدة، لكن الإمبراطور حنث بوعده وعمَّد الطفل على يد كاهن آريوسي، فساءت حالة الطفل ومات في تلك الليلة!.. أما الإمبراطور فلم يوقع قرار النفي.
تعب باسيليوس باكراً بسبب نشاطه المتواصل، ولم يعد جسمه قادراً على تحمل الأعباء، فدعا نفسه في سن الأربعين بالعجوز، ليشعر باقتربه من الموت فرقد ، سنة 379 عن عمر 49 سنة، ودفن في قيصرية .
2   مؤلفاته :

جمع باسيليوس الفكر العملي إلى الدقة اللاهوتية والعقل المحلل وفي مؤلفاته يتبع طريقاً منهجياً ويستعمل لغةً نقيةً ورفيعةً جداً.
يمكننا تقسيم مؤلفاته كما يلي:

 أ – دفاعية :

"كتاب إلى الشباب"، هو عبارة عن محاضرتين وجّههما إلى شباب كبادوكية لما منع الإمبراطور يوليان من إعطاء دروس في المدارس العامة في الفيلولوجيا (أي علم اللغة أو الكلام) والخطابة والفلسفة. رأى باسيليوس أن يتبع الطلاب المسيحيون الدروس عند الوثنيين لكن يجب عليهم أن يكونوا متيقظين. وفي كتابه هذا يجد باسيليوس أن دراسة الفيلولوجيا الكلاسيكية نافعة ولكن إلى حدّ. فللحياة بعُدان، بُعدٌ للحياة الحاضرة وبُعدٌ للحياة المستقبلة، فاللاهوت المسيحي يعلّم أيضاً عن الحياة المستقبلة لكن الشباب قد لا يفهمون هذا التعليم لذلك يجب أن ينصرفوا إلى دراسة الفيلولوجيا الكلاسيكية، ويأخذوا منها ما هو حسن كما يفعل النحل بالزهر فيختارون نصوصاً تهدف إلى تدريبهم الخلقي.
"تفسير ستة أيام الخلق": كتاب من 9 خطب يشرح فيها سفر التكوين من1-26، يدحض فيه النظرية الفلسفية الكونية عن أزلية الكون ووجوده الذاتي، الأمر الذي يؤدي إلى "الثنائية" الغنوصيّة. فيدرس الخلائق تفصيلياً ويتكلم على حدوثها (خلقها). وفي الخطبة الأخيرة يعد أنه سيتحدث عن خلق الإنسان لكنه لم يفعل ذلك. يبدأ عظته بقوله: "الله هو الذي خلق السماء والأرض. فكّر البعض أن السماء وُجدت بفعل الصدفة، وبقوة ذاتية متحركة. لكن نحن أبناء الإيمان، فلا مجال للشك عندنا بأن سبب وجود هذا العالم هو الله وحده. وفي الحقيقة كثرت آراء العلماء، وتضاربت تعاليم الفلاسفة، ولم يجمعوا في وقت من الأوقات على رأي واحد، إذ كان كل رأي ينقضه رأي آخر ويخالفه تماماً. وهكذا سقطت كل الآراء بتفاعل ذاتي وتضارب غريب".

 ب – تفسيرية:

لا شك أن كتابة "ستة أيام الخلق" يمكن أن يدرج هنا لكنه من الكتب الدفاعية. هناك خِطب أخرى تفسيرية تشرح المزامير وضعها عندما كان كاهناً. يتحدث في خطبته الأولى عن أهمية شعر المزامير. أما في تفسيره للمزامير فيهتم في المسائل الفيلولوجية ويتوسع في المواضيع الخلقية .
ينسب إليه كتاب "تفسير لسفر إشعيا" لكن يصعب علينا أن نُبدي الرأي في أصالته لأن منهجه يقترب من منهج اوريجنس الإستعاري.

 
 

ج – عقائدية :

   

بعد أن أُبسل افنوميوس في مجمع القسطنطينية سنة 360 الذي حضره باسيليوس عندما كان شماساً، وضع افنوميوس دفاعاً ينطلق من المفاهيم الأرسطية الخاصة بجوهر الكائنات ووصل إلى النتيجة التي تقول أن الجوهر الإلهي يتمثل (يصبح مماثلاً) لعدم الولادة وأن جوهر الابن المولود مخالف لجوهر الآب. فكتب باسيليوس عام 364 داحضا استنتاجات افنوميوس وفرضياته الخاصة بقدرة الإنسان في الولوج إلى جوهر الله غير المدرك.
بعد أربع سنوات كتب افنوميوس دفاعاً ضد دفاع باسيليوس، لكن باسيليوس كان في آخر أيامه فتولى أخوه غريغوريوس الردّ عليها. كتب أيضاً "في الروح القدس" وهو أهمّ كتاباته.
 

 3 – تعاليمه :

أ – مسألة" الأزل" و"الدهر" و"الزمن":

 

نجد في مؤلفات باسيليوس ألفاظاً تتعلق بمفهوم الزمن مستقاة من الفلسفة الهلينية كـ: "السرمدية"، و"الدهر"، و"المدة الزمنية". لكنه كان يستخدم هذه الألفاظ على نحو يخالف المفهوم التقليدي للفلسفة فيعطيها المعنى الجديد.
أن اوريجنس وبعض الفرق المسيحية ميّزوا بين "الأزل" (AIZION) و"الدهر" (AION)، وعلى هذا الأساس وصلوا إلى القول بمرؤوسية الابن للآب، "لأن الابن مولود قبل الدهور وهذا لا يعني أنه منذ الأزل"؛ هذا التمييز استخدمه آباء الكنيسة لتأكيد المسافة الفاصلة بين الثالوث والعالم المنظور، غير أن الافلطونيين المحدَثين قالوا أن الأزلية أدنى من الأبدية. أما الفكر الآبائي الذي استخدم لفظة "الدهر" الـ AIONكما استخدمها الكتاب المقدس، فأشار إلى جزء كبير من الزمن ولم يُشر إلى وضع لا زمني.
اعتبر باسيليوس أن "الأزلي" هو فوق "الدهر" وفوق "الزمن"، فـ"الأزلي" بالمعنى الدقيق يعود إلى الله المثلث الأقانيم، لكن "الأزل" الـ AIZION يجب أن لا يتمثل (يتطابق) مع "اللامولود" (AGENNITON)، على عكس إفنوميوس وأتباعه الذين رفضوا أزليــة الابن لأنـه "مولود".
يحدد باسيليوس لفظة "اللامولود" بأنه ذلك "الذي لا بدء له ولا مسبب لوجوده"، أما "الأزلي" فهو "الذي له وجود اقدم من الزمن والأبدية". لذلك "فالابن هو مولود أزلي، أما الآب فهو غير مولود أزلي ولا بدء له". وطالما "أن الابن أزلي مع الآب فلا وجود لواسطة بين الآب اللامولود والابن المولود"، أي لا يوجد جزء من الزمان في العلاقة بينهما… "الإبن كائن قبل الدهر وكائن دائماً ووجوده لم يبدأ قط ولا واسطة بينه وبين الآب".
أمام إنكار "أزلية الابن". فيشير باسيليوس إلى أن الابن لا يمكن اعتباره أحدث من الآب من حيث وجوده لأنه سيوجد وقت يفرق فيه بين ولادة الابن وعدم ولادة الآب، فإذا وجد وقت كهذا فماذا نسميها؟ طالما أننا لا نقدر أن نسميها زمناً ولا دهراً. أما إذا قبلنا بأن هناك زمن يتوسط بين الآب والابن، فأننا نبرهن أن الكتاب خاطئ لأنه يعلم أن الابن خُلق قبل الدهور. إذاً، يستحيل على المرء أن ينكر أزلية الابن ويستحيل عليه أن يحاول تحديد الابن تحديداً زمنياً أو بالأحرى تحديد خالق الزمن تحديداً زمنياً. والأزلية تنسب أيضاً إلى الروح فهو كان موجوداً من قبل ويكون مع الآب والابن قبل الدهور. وطالما أن الأزلي يعود إلى الوضع الذي يسبق الدهر فالعقل لا يمكن أن يتجاوز معنى البدء وتخيله، لا يقدر أن يدخل إلى مكان لا وجود فيه إلى اللامكان والزمان ولا يقدر الإنسان أن يدرك شيء أقدم من البدء.
لذلك لا يمكن للقياس المنطقي أن يفهم أن هناك وقت لم يكن فيه الابن، لأنه يناقض الفعل كان. يعني أنه كان أزليّاً وغير زمني، لذلك قال الإنجيلي الكائن الذي كان والقدير. كما هو الكائن كذلك هو "الذي كان".
يقول في كتابه في الروح القدس في الفصل 14 "لا يمكن أن يكون الابن بعد الآب في الزمان، فهو خالق الأزمنة. لذلك لا يوجد زمان يمكن الإشارة إليه كوقت يفصل بين الآب والابن, فالضرورة تحتم وجود الآب مع الابن في وقت واحد حتى نقدر أن نتكلم على آب وابن. أليس تهوراً لا مثيل له أن تقاس الحياة التي تعلو كل الأزمنة بمقاييس زمنية, أليس تهوراً أن يُقال أن الآب يُقارن بالابن في الزمان؟ فالتسلسل والتتابع ينطبق على الخليقة في الزمن وليس على الكائن قبل كل الدهور

 

 ب – الله :

بما أن الله ذاتي الحقيقة فهو يستمد برهان وجوده من ذاته، لا يحتاج في وجوده إلا لوجوده؛ في حين أن الإنسان يستمد براهين وجوده من الخارج لأنه مخلوق والمخلوق لا يعرف جوهر الخالق.
وبما أن الله مثلث الأقانيم، فكل أقنوم يختلف عن الآخر "بطريقة وجوده"؛ والأقانيم واحدة في اتحادها. وحيث يكون الروح حاضر هناك يقيم المسيح، وحيث يكون المسيح هناك الآب.
إذاً، كل أقنوم يكشف عن الاقنومَين الآخرَين، لأنهم يشتركون في الجوهر والعمل.
ويشدد باسيليوس على الاختلاف بين تعدد الآلهة وتعدد الأقانيم، لأن العلاقة لا تُفهم على نحو بشري بل على نحو خلاصي .

 

 ج – الخليقة (Cosmology):

 

يرفض باسيليوس بداية المنهج الأرسطي، الذي يبدأ بالتحليل الاختياري للظواهر الطبيعية، ويتقدم في دراسة الأوضاع الطبيعية حتى الغاية الأخيرة للظواهر. فـ"علم الكون" عند باسيليوس يقترب من منهج أفلاطون ولكن على أساس اختلافَين أساسيَين، يجعلان التشابه بينهما ظاهرياً:
تُفهم علة الخليقة عند أفلاطون من خلال الميثولوجية، أما باسيليوس فيدرس علة الكون من خلال الكشف أو الإعلان ويفسره تفسيراً واقعياً وليس مجازياً.
فلسفة أفلاطون لا تقبل الخلق، أما العقيدة المسيحية فتؤكد خلق المنظورات وغير المنظورات من العدم.

 

د- تركيب المادة وتشكيلها:

يؤكّد باسيليوس أنه من الصعب تفسير ماهية الكائنات لأنها لا تدرك بالنظر ولا تخضع لحاسة اللمس خضوعاً كلياً. ويعتبر أنه من المستحيل أن توجد طبيعة ذاتية الوجود. ويدحض أزلية المادة و يقول أنه من الكفر أن نساوي المادة بالله: "إذا اعتبرنا أن المادة تستوعب حكمة الله، فأن وجودها سيقابل قوة الله؛ أما إذا اعتبرناها اقل من حكمة الله، فأن الله يبقى عمله نصف منتهٍ؛ ولذلك يجب أن لا نتصوّر بأن الله يعمل مثلما يعمل الإنسان الذي يأخذ المادة من الخارج ويطبقها على نظامه و تفكيره. أما الله فقبل أن يخلق المنظورات عرف من أي نوع يجب أن يكون عليه العالم، ووفق هذا المخطط خلق المادة المناسبة له  ".

هـ – خلق الله للعالم

لم يخلق العالم لوحده أي بمعزل عن الإرادة الإلهي، لأن الخلق لا يضع الله تحت النواميس الطبيعية. فهذه النواميس لم توجد قبل المكان والزمان، ولا يمكن فصلها عن الخلق، ولذلك فإن بدء الخليقة لا يمكن فهمه ضمن الزمان، لأن البدء كان اللحظة الأُولى للزمن لأنه خُلق مع الكون.
أن البدء الزمني لا وجود له ضمن مسافة زمنية، ولا يمكن فهمه كفترة من الزمن وإلا استطعنا أن نميّز في البدء بدأً ووسطاً ونهاية.
إن عبارة "في البدء"، تظهر عند باسيليوس، أن العالم بدأ وجوده بلا زمن ومباشرة حالما أراد الله ذلك. الخليقة هي في الوقت نفسه كشف عن الله، الذي يتدخل في جوهر المخلوقات وكيانها، فيؤلّف بينها ويصوغها وفق ذاته وإرادته. وهكذا تخدم الخليقة الهدف الإلهي. ولا شيء يوجد خارج العناية الإلهية. فالعالم ليس وحده في مسيرته حتى النهاية، فالعناية الإلهية توجه الكائنات إلى الكمال.
إن الكوسمولوجيا الكتابيّة لا تهدف إلى إرضاء خلق الإنسان العقلي، فتعليم المسيحية عن الكون، هو قبل كل شيء كشف وإعلان وليس علماً. لذلك عندما يتحدث باسيليوس عن الخليقة لا يقدم لسامعيه معلومات علمية، ولا يهمه أن يفسر الظواهر الطبيعية إنما يعطي الأساس اللاهوتي لعلم الكون .

 

 و- الميزة الإنسانية والإلهية لعلم الكون:

لا يدرس باسيليوس العالم باستقلال عن الإنسان والله، وهكذا ينجح في إقامة علاقة بين علم الكون (الكسمولوجيا) وعلم الإنسان (الأنثربولوجية) المعرفة الإلهي (الغنوسيس). فعلم الكون بكونه كشفاً فهو يهدف إلى كمال الإنسان، فالعالم المخلوق ليس له قيمة بحدِّ ذاته إنما يأخذ قيمته من الإنسان الموجود فيه. العالم مكان لكمال الإنسان. النفوس الناطقة تتعلم في العالم ضمن الظواهر والمحسوسات. يقدر العقل أن يتوصل إلى وجود اللامحسوسات، فالمكان الترابي يصبح "المدرسة المشتركة لكل الناس". وفي هذه المدرسة يساعد الكشف الإنسان على اكتشاف الأبدية، والثبات في عالم التغيّر والفناء. فالعالم يأخذ بُعداً "غائيّاً" لأن القوى الإلهية تنكشف فيه وتفعل. العالم هو أيضا مدرسة لمعرفة الله لكن "المعرفة" التي يتلقاها من الإعلان الطبيعي محدودة، لأن أعمال الله لم تخرج من الجوهر الإلهي.
فالطبيعة لا تكشف عن هذا الجوهر كما أن البيت لا يكشف عن جوهر البناء. والإنسان عندما ينظر إلى الخليقة بنور الكشف الإلهي يمجد الصانع الحكيم، لأن جمال المخلوقات يذكّره بالجمال الفائق. إن العالم بعد السقوط يئنّ ويتمخّض مع الإنسان الذي افتقر من النعمة، لكن العالم هو المحل الأمثل لكي يدربه ويربيه. كل ما في الطبيعة يتطلع بشوق إلى الرجوع إلى واهب الحياة. فمعنى العالم لا يوجد في بدئه لكن في غايته. الغاية تعطي قيمة للحاضر ومعنى للماضي. فالتاريخ يسير في الزمن لأن جسد المسيح لم يكتمل بعد وملء الجسد يفترض اكتمال التاريخ كله. لذلك فنهاية العالم والزمان شيء طبيعي ولكنه مجهول. كل ما هو مركّب في طبيعته لا يمكن أن يكون أزلياً لأنه سينحلّ. فهذا العالم مائت لأن تكوين المنظورات مركّب وكل ما هو مركّب ينحلّ لكن حيث لا يوجد فناء فهناك الثبات أي ملكوت الله  .

 

ز- اكتمال العالم:

من أصعب المسائل في اللاهوت المسيحي هو عودة كل شيء إلى الله. نعرف أن أوريجنس لم يخرج عن مفهوم الدوران فاعتبر أن المادة هي:
نتيجة التبدل والتغير وعدم ثبات الأرواح التي خُلقت.
المادة هي عقاب لأنها ابتعدت عن الله.
الامتحان التدريبي الذي يساعد في الإصلاح الروحي هي المادة.
أما عند باسيليوس فالأساس مختلف لأن الكمال لا يعود إلى حياة روحية، غير مادية، قبل خلق العالم أو إلى حالة ما قبل السقوط فقط، فالخليقة تسير كلها في المسيح إلى الله.والكمال الإنقضائي المنتظَر هو أسمى من الكمال قبل السقوط وملكوت الله لا يُقارن بالفردوس.
اتّبع باسيليوس خط الرواقيين فيما يخص النار (بدون النار لن يُخلق عالم جديد)، وعودة الكائنات إلى الله هو وضع ثابت لا وجود فيه لسقوط ونهوض.
"نؤمن بالله.. ونؤمن بأنه خلق السماء والأرض. فلنُمجّد حكمة الله الخالق وعظمة الخليقة؛ إن جمال الخلائق تكشف لنا كم هو جميل الذي أوجدها؛ كما أن عظمة الأشياء المخلوقة تبيّن لنا طبيعة خالقها الغير المتناهية" (عظة على أيام الخليقة 1/2).. "من خلال هذه الحقائق الواضحة تكتشف نفسك، وبالوقت نفسه تكتشف الله.. فتعبده، وتعتبره السيّد المطلق للحياة والمصير، وتعترف بأنه الأب الحنون المحسن" (6/1  )

ح – الأنثروبولوجية

يقول باسيليوس في عظته "على أصل الإنسان" "صحيح أنك (أيها الإنسان) كائنٌ صغير لكنّك عالَمٌ كبير (1/2).. "فنحن نحوز على صورة الله بقوّة الخلق، ونحوز على مثال الله بقوّة الإرادة" (1/17)…
يقول القديس باسيليّوس الكبير: "لا بدّ لك أيها الإنسان أن تقتنع من هذه الحقيقة، بأنك في هذه الحياة مسافر يبغي عالم الأبد، بأن كل شيء ستتركه وراءك. إنك أثناء سفرك في هذه الحياة، تشاهد أشجاراً وأغراساً، جداول وأنهاراً،..، أشواكاً ونتوءات. وكلّها تستوقفك قليلاً، ثم تتركها وتستأنف لتتابع مسيرة سفرك. هكذا الحياة، فكلّ شيء فيها يمضي: السعادة والشقاء، فالسعادة لساعات قليلة والعذاب لن يدوم طويلاً" (عظة5/4).. بهذا تقوم عظمة الإنسان وفخره وقيمته: أن يعرف ما هو عظيم حقّاً أي الله، ويجعله هدفاً له، وأن يطلب مجد الله فقط.. فمن رام أن ينال المجد فليطلبه في المسيح يسوع. لأن مجدنا الكامل هو في الله.. أمام هذه الحقيقة يزول كلّ داع إلى الكبرياء.. لأن فخرك ورجاءك هما في أن تُضحّي بأنانيتك، وتطلب الحياة الجديدة مع المسيح الذي قبلنا منه سلفاً المماثلة ببعض الصفات، إذ أننا نحيا في نعمة الله وصداقته" (عظة 313).
"لا تحتقر كُتب الحكماء والفقهاء، فهي مصادر نور تضيء الطريق أمامك لفهم حقائق الكتاب المقدّس. لذلك أنصحك بمطالعة كتب الشعراء والمؤرّخين والخطباء والفلاسفة، لأنك تستطيع بواسطتها تهذيب قلبك وتقويم حياتك. وهي تقوم مثل مدخل لفهم تعليم الله في الكتاب المقدّس. وهكذا إذا كان هناك توافق وتكامل بين العلوم الإنسانيّة والعلوم الإلهيّة ازددت أنت فهماً لتعليم الوحي المقدّس" (عظة 12 عن العلوم الإنسانيّة   )…   

ط – المفاهيم الاجتماعية

يقول باسيليوس أن الإنسان كائن غرس الله فيه الصفة الاجتماعية عند الخلق عندما قال: "ليس حسن أن يكون الإنسان وحده على الأرض". وأعطاه الكلمة لكي يكشف عن إرادة قلبه وينقل للآخرين خفايا ذاته، وأعطاه المواهب الروحية لكي يتكامل البشر. وأبناء المجتمع يستطيعون أن يكونوا نفساً واحدة إذا ما اقتدوا بحياة الملائكة والقديسين. لكن الحياة الحاضرة هي مواجهة مع المشاكل الروحية والاجتماعية.
المُلكية في المسيحية ليست جماعية لكن استخدامها هو جماعي. الفرد هو وكيل الخيرات الأرضية ومدبرها وليس مالكاً لها. والمدبر الأمين يحمل المسؤولية مقتدياُ بحكمةِ المدبّر الأكبر.
يقول: "من لا يُلبس العريان ولا يُطعم الجائع ليس سوى مختلس يعري الثوب عن مرتديه".
المحبة اللاأنانية التي تجاهد من أجل الآخر، وتحزن على ضرره، وتفرح لنجاحه، هي مبدأ جديد أدخله يسوع إلى العالم. من يحب يخدم أحباء الله. في المحبة قضاء على التصرف المشين ضد القريب.
هذه المحبة اللاأنانية تتبرعم أيضاً في العائلة المسيحية وتأخذ ملء أبعادها في محبة الرجل وطاعة المرأة اللتين تؤلفان واقعاً واحداً الرجل بمحبته يطيع المرأة والمرأة بمحبتها تطيع الرجل.
لكن باسيليوس لم ينسى الواقع البشري الضعيف في المؤسسة الزوجية لهذا تراه يغضّ الطرف عن بعض الشواذ الذي يسود بين الزوجين شرط أن يخضع أصحابها لممارسات التوبة التي تفرضها الكنيسة لترفع أبناءها من مستوى الدنيويات إلى العلويات. فعذر مثلاً رجلاً هجرته زوجته فتزوّج أخرى، ولم يعتبر هذه الأخيرة زانية، إنما فرض عليهما ممارسات توبة شديدة، تخفيفاً لوضعهما الشاذ قانوناً والمستعصى حلّه إجتماعياً ورعوياً.  

 ي – قداسة العمل

يقول القديس باسيليّوس الكبير: "يجب علينا أن نعمل باجتهاد، لأنه لا يسوغ لنا أن نتّخذ العبادة حجّة للبطالة والهرب من المسؤوليّة. بل علينا أن نجعلها موضوعاً للجهاد، والأتعاب الجمّة، والصبر على المضايق… مثل هذا المنهج ينفع لا لإماتة الجسد فقط، بل لممارسة محبّة القريب أيضاً: لكي يُسعف الله الأخوة المحتاجين، ويقدّم لهم الكفاف على أيدينا… وهكذا تستحق أن تسمع قوله عزّ وجلّ: "تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملك المعدّ لكم منذ إنشاء العالم، لأني جعت فأطعمتموني وعطشت فسقيتموني.." (مت25/34)… فكما أن القوت اليوميّ ضروريّ لكلّ إنسان، كذلك ضروريّ له الكدّ بحسب طاقته. إن سليمان لم يكتب عبثاً في مديح المرأة النشيطة: "إنها لم تأكل خبز الكسل" (أمثال 31/27)… إن الذي خوّلنا القدرة على العمل يطلب منّا أعمالاً تناسب قدرتنا هذه" (القوانين المطوّلة، سؤال 37)… "لا عُذر للمتكاسل الذي يعيش في البطالة بينما هو قادر على العمل" (عظات على أيام الخليقة – 7).
كما يدعو باسيليوس إلى فضيلة "الإتقان": "على أن كلّ أحد يلتزم أن ينتبه لعمله الخصوصي ويهتمّ له برغبة ويتمّمه من دون ملامة، بغيرة ونشاط وعناية وسهر.. كما أن عليه أن يعمله على مرأى من الله.. خيرٌ لنا أن نباشر عملاً واحداً بضبط وإحكام من أن نقوم بأعمال كثيرة من دون إتقان" (القوانين المطوّلة، سؤال 41).. "فالعمل إذن انطلاقاً من هذا المفهوم يُنظّم بأحسن طريقة العلاقات المجتمعيّة، ويُضفي عليها جوّاً من التعاضد والانسجام" (القوانين المختصرة، 207).  

ك – الأسرار

يعلّم باسيليوس حول الأسرار فيقول في سرّ المعمودية مثلاً :"يقول الرب: إذهبوا وتلمذوا كل الأمم وعمّدوهم باسم الآب والإبن والروح القدس. فالمعمودية هي ختم الإيمان، والإيمان هو اعتناق الألوهة. فيجب إذن أن يؤمن المرء أولاً، ثم يوسم بالمعمودية… واليك في منتهى الوضوح موضوع بحثنا: لماذا يُضم الماء إلى الروح القدس؟ لأن للمعمودية غاية مزدوجة: محو جسد الخطيئة فلا يعود يثمر للموت، والحياة بالروح القدس ليثمر فينا ثمار القداسة. إن الماء ، بقبوله الجسد، يمثّل صورة الموت، كما لو كان الجسد في القبر. والروح القدس ينفخ في النفس قوة محيية فيجدّدها وينقلها من حالة الموت في الخطيئة إلى الحالة الأصلية، أي صداقة الله الحميمة. فهي الولادة من فوق، أي من الماء والروح: نموت في الماء ولكن الروح ينشئ فينا الحياة. بثلاث غطسات وثلاث تسميات يتم سرّ المعمودية العظيم، لكي تُمثَّل صورة الموت ويستنير المعتمدون بحصولهم على معرفة الله.
وفي سر الشكر يقول: "إن التناول كل يوم والشركة في جسد المسيح ودمه القدوس لحسن ومفيد… على إننا نتناول أربع مرات في الأسبوع: في يوم الرب، والأربعاء، والجمعة والسبت، والأيام الأخرى، إذا كان تذكاراً.  

ل – اليوم الثامن.. يوم الرب

الممارسة في الخدم الإلهية والصلوات يوم الأحد تعكس مضمون هذا النهار المميز، يقول باسيليوس: "إننا نقيم الصلوات وقوفاً في اليوم الأول من الأسبوع ، ليس فقط لأننا نحن قائمون مع المسيح الملزمين بابتغاء ما هو فوق ، بل إننا نذكر أنفسنا، ونحن واقفون وقت الصلاة في اليوم المكرّس للقيامة، بالنعمة التي وُهبت لنا وأيضا لأن ذلك اليوم يبدو على نحو ما صورة للجيل الآتي. بما أنه بدء اليوم، فقد دعاه موسى لا "الأول" بل "واحداً"، إذ قال: وكان مساء وكان صباح يوم واحد، كما لو كان اليوم عينه يعود غالباً. وعلاوة على ذلك، إن هذا اليوم الواحد والثامن ليمثّل في ذاته ذلك اليوم الواحد والثامن الحقّ الذي يأتي المرتل بذكره في بعض عناوين مزاميره، وهو عبارة عن الحالة التي ستتبع هذا الزمان، أي ذاك اليوم الذي لا نهاية له، ولن يعرف مساءً ولا صباحاً، أي ذاك الجيل الذي لا يزول ولا يشيخ.
فمن الملازم أن تعلّم الكنيسة أبناءها أن يقيموا الصلوات وهم وقوف في ذلك اليوم، وإذ ينطبع في ذهننا تذكر لا ينقطع للحياة التي لا نهاية لها ، فلا بدّ أن نعدّ الزاد لذلك الرحيل.

 

م – الحياة المشتركة:

 

يقول القديس باسيليّوس: "إن العيشة المشتركة هي الأفضل لأسباب كثيرة: أولاً لأنه ليس لأحد منا يقدر أن يقوم وحده بكل حاجاته.. فإن ما عندنا من مواهب (في عيشة التوحّد) يصبح غير نافع، وما ينقصنا لا نقدر أن نستغني عنه، لأن البارئ رتّب أن يحتاج بعضنا إلى بعض. وفضلاً عن ذلك فإن ناموس محبّة المسيح لا يدع كلاًّ منّا يطلب ما هو له… ثم إنه في الوحدة لا يستطيع كلّ أحد أن يطَّلع على نقائصه بسهولة، لعدم وجود من يؤنّبه ويُصلحه بدعة وإشفاق.. فالصديق أولى بأن يُعالج النقائص على طريقة ناجعة
من ينال موهبة من المواهب لا ينالها لأجل نفسه بل بالحريّ لأجل الآخرين، بحيث أنّ القوّة الممنوحة لواحد بالروح القدس تنتقل ضرورة في العيشة المشتركة إلى الجميع معاً.. (إذّاك) فإنه لا يتمتّع بموهبته الخصوصيّة فقط بل يُضاعفها بإشراك الآخرين فيها، ويجني ثمراً من مواهبهم كما يجتني من موهبته….
إن الرب لفرط محبّته للبشر لم يكتفِ أن علّمنا بالكلام فقط بل أعطانا القدوة البيّنة والفعّالة في التواضع والمحبّة إذ ائتزر هو نفسه بمنديل وغسل أرجل تلاميذه".. (القوانين المطوّلة، السؤال السابع).
يقول القديس باسيليوس في صلاته الإفخارستيّة الرائعة: " أما نحن المشتركين في الخبز الواحد والكأس الواحد فاجعلنا متحدين بعضنا ببعض في شركة الروح القدس الواحد"…
لا يتوانى باسيليوس أن يجعل من المشاركة أفقاً يشمل الجماعة البشريّة بأوسع مداها، فبعد أن يذكر، في افخارستيّته، المُمَجَدين في السماء يصلّي فيقول: "نطلب إليك يارب، فاذكر كنيستك المنتشرة من أقاصي المسكونة إلى أقاصيها.. أذكر المحسنين.. ذاكري البائسين.. الذين في البراري والجبال والمغاور وكهوف الأرض.. العائشين في البتوليّة والورع والنسك والسيرة الحميدة.. الحكّام.. الجنود.. الشعب الحاضر والغائبين منهم لأسباب صوابيّة، وارحمهم وارحمنا بكثرة رحمتك. إملأ خزائنهم من كل خير. إحفظ زواجهم في سلام ووئام. ربِّ الأطفال. هذّب الأحداث. شدّد الشيوخ. عزِّ صغيري النفوس. إجمع شمل المشتتين. إهدِ الضالين.. أعتق المعذّبين.. رافق المسافرين.. صُن الأرامل. إحمِ اليتامى. أنقذ المسبيين. اشف المرضى. وأذكر أللّهمّ.. الذين في أي ضيقٍ وشدّة وعُسر، وجميع المفتقرين إلى حنانك العظيم، ومحبينا، ومبغضينا، والذين أوصونا نحن غير المستحقين أن نصلّي لأجلهم… والذين لم نذكرهم نحن عن جهل أو عن نسيان أو لكثرة الأسماء، فاذكرهم أنت.. فكن أنت كلاًّ للكلّ، يا عالماً بكلّ إنسان وحاجته وكل بيت وبغيته.. يا سيّد الكلّ.
4 –  خاتمة :

نختم بقول لقديسنا يؤكد فيه أن أهم قيمة أرادها الله للإنسان، هي ذاته: "انتبه لذاتك.. فهي الكنز الثمين والخير الأعظم، وهي تستحق أن توليها أشدّ الاهتمام. فاحرص عليها أكثر من حرصك على الأمور التي تحيط بك، والتي تخصّك. فالفرق عظيم بين ما أنت عليه، وبين ما يحيط بك، وما هو لك.. لا تنس أنك خُلقت على صورة الله ومثاله… اهتمّ بذاتك فوق كل شيء .. زيّنها بالفضائل، نقها من الخطيئة.." (عظة 3/3).