تفسير العظة على الجبل
القديس يوحنا الذهبي الفم
ترجمة د/ جرجس كامل يوسف
لهروب من حب التظاهر والاستعراض
“ولما رأى (يسوع) الجموع صعد إلى الجبل، فلما جلس تقدم إليه تلاميذه، ففتح فاه وعلمهم قائلاً: طوبى للمساكين بالروح، لأن لهم ملكوت السماوات” (مت 5: 1-2).
1. انظروا كيف كان (الرب) رزينًا بغير تفاخُر، إذ لم يجمع الناس حوله، بل كلما تطلَّب الأمر شفاءهم كان يذهب هو بنفسه يجول في كل مكان، يفتقد المدن والقرى. وإذ أصبح الجمع الآن عظيمًا جدًا، جلس في بقعة محددة، لا في وسط أية مدينة أو ساحة، بل على جبلٍ وفي برية صحراوية، ليعلمنا ألا نفعل شيئًا لمجرد التظاهر والاستعراض، وحتى نعزل أنفسنا عن ضوضاء الحياة العادية، خاصة إذا كنا نتدارس الحكمة، ونتباحث في أمورٍ نحن في أمَسّ الحاجة إلى فعلها.
شوق إلى التعليم لا إلى المعجزات
لكنه حين صعد إلى الجبل وجلس، وتقدم إليه تلاميذه نرى مقدار نموهم في الفضيلة وكيف أنهم في لحظة قد صاروا إلى حالٍ أفضل، إذ كانت الجموع تلهث فقط خلف المعجزات، أما هم فقد اشتاقوا منذ تلك اللحظة أن يسمعوا أمرًا عظيمًا له شأنه. وكان هذا فعلاً هو السبب الذي جعله يجلس ليعلِّمهم، ويبدأ معهم هذا الحديث. لأنه لم يهتم بشفاء الأجساد فقط، بل كان يقوِّم نفوس البشر أيضًا، وما أن ينتهي من العناية بنفوس هؤلاء حتى يهتم بأجساد آخرين. ولهذا قام على الفور بتنويع العون المقدم لهم، وبالمثل كان يمزج التعليم الذي تحويه كلماته بإعلان مجده الذي تظهره أعماله.
يهتم بأجسادنا كما بنفوسنا
كما قام بإسكات أفواه الهراطقة الذين لا يعرفون الخزي، معلنًا أنه يهتم بأجسادنا ونفوسنا معًا، لأنه جابل الخليقة كلها. ومن هنا يدبر بعنايته الإلهية الفائقة كل طبيعة روحية وجسدانية، فيصلح هذه مرة، ويقوِّم تلك مرة أخرى.
يعلم بالصمت كما بالكلام
هكذا كانت طريقته في العمل، إذ قيل في الإنجيل: “فتح فاه وعلَّمهم قائلاً”. ونسأل لماذا أضيفت عبارة “فتح فاه”؟ ليخبركم أنه حتى في صمته الكامل كان يعلِّم، وليس فقط حين كان يتكلم، بل مرة حين “يفتح فاه”، وأخرى حين كان ينطق صوته بأعماله.
يعلِّم الجميع من خلال تلاميذه
حين تسمعون أنه علَّمهم، لا تفتكروا أنه كان يعظ تلاميذه فقط، بل كان بالأحرى يعلِّم الجميع من خلال تلاميذه.
لأنه حين كان الجمع عظيمًا جدًا من حشود كبيرة تزحف على الأرض، جعل تلاميذه صفوفًا (خوارس). فكان يسلمهم العظة، وإذ يتحدث إليهم كان يضمن أن ينتقل درسه عن إنكار الذات إلى بقية الحاضرين، الذين كانوا في مواضع بعيدة جدًا عن مكان حديثه. وقد أشار القديس لوقا حقًا إلى هذا الأمر حين قال: “رفع عينيه إلى تلاميذه وقال” (لو 6: 20). أي أنه كان يوجه كلماته مباشرةً إلى التلاميذ. وأعلن أيضًا القديس متى وبنفس الوضوح فكتب: “تقدم إليه تلاميذه، ففتح فاه وعلمهم، قائلاً”، لأنه هكذا كان الآخرون أيضًا يضمنون أن يكون اشتياقهم والتفاتهم إليه أكثر، مما لو وجّه حديثه إلى الجمع مباشرةً.
2. فمتى كان يبدأ حديثه إذن؟ وما هي الأسس التي أرساها لأجلنا حين كان يعلمنا؟ فلننصت بانتباهٍ شديدٍ إلى ما يُقال. لأنه وإن كان هذا الكلام قد قيل لهم، إلا أنه كُتب لأجل الآتين فيما بعد. ولهذا السبب وبالرغم من أن الرب كان واضعًا في اعتباره تلاميذه الأعضاء عندما كان يلقي عظته العامة، إلا أنه لم يحصر أقواله فيهم وحدهم، بل نطق بكل تطويباته بلا تحديد، فهو لم يقل: “طوباكم أنتم يا من صرتم مساكين” ولكن “طوبى للمساكين”. بل ويمكنني أن أقول: حتى وإن كان يعنيهم بالذات فيما قال، إلا أن العظة ستظل مشاعًا للجميع.
وبالمثل ما يقوله (الرب): “ها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر” (مـت 28: 20)، فالوعد هنا لم يكن موجهًا لمن سمعوه وحدهم، بل أيضًا لكل العالم من خلالهم.
وعندما يطوّب المضطهدين والمطرودين من أجل البرّ، لم يكن يعني تلاميذه وحدهم فقط، بل أيضًا من نال هذا الامتياز مثلهم، فهو يُعد إكليله لأجل كل الذين يبلغون نفس الدرجة من السمو.
لكي يكون هذا الكلام أكثر وضوحًا لديكم، ولكي يحثكم على المزيد من الاهتمام بأقواله، وهكذا أيضًا تفعل البشرية كلها… اسمعوه كيف يبدأ بالكلمات العجيبة
“طوبى للمساكين بالروح، لأن لهم ملكوت السماوات” [ع 3]
• فماذا يعني بـ “المساكين بالروح”؟ إنهم المتواضعون ومنسحقو القلب. لأنه يعني “بالروح” هنا نفس الإنسان وملكة الاختيار. ذلك لأنه يوجد كثيرون متواضعون ومذَلون ولكن ليس عن اختيار وطواعية، بل مُجبَرين تحت وطأة ظروف الحياة. إنه لا يقصد مثل هؤلاء في هذا الصدد، بل يطوِّب أساسًا هنا أولئك الذين باختيارهم يتواضعون ويذلون أنفسهم.
• ولكن لماذا لم يقل “طوبى للمتواضعين”، بل “للمساكين”؟ لأن هذه الأخيرة أكثر اتساعًا من تلك. فهو يعني هنا: أولئك الذين يمتلئون بالخشية والرهبة لدى سماعهم وصايا الله. هؤلاء أيضًا الذين يقول الله عنهم بفم نبيِّه إشعياء قابلاً إياهم بحق: “إلى هذا أنظر، إلى المسكين والمنسحق الروح والمرتعد من كلامي” (إش 66: 2). لأنه بالحقيقة توجد أنواع من التواضع: فيوجد المتواضع على قدر قامته، وآخر ينزل إلى أقصى حدود التواضع. هذا الأخير (الذي هو من القلب) يمتدحه النبي المبارك مصورًا لنا، لا مجرد خضوع النفس، بل انكسارها كلية، وذلك عندما يقول: “الذبيحة لله روح منسحق، والقلب المنكسر المتواضع لا يرذله الله” (مز 51: 17). وها الفتية الثلاثة يقدمون انسحاقهم هذا كذبيحة عظمى لله قائلين: “ولكن في نفس منسحقة وروح متواضعة ليتنا نكون مقبولين لديك” (دا 3: 39) هذا هو ما يطوِّبه المسيح الآن.
3. ولما كانت أكثر الشرور جسامة هي الكبرياء، تلك التي بسببها دخل الذين جلبوا الخراب على العالم: لأن إبليس إذا لم تكن له فضيلة التواضع الأولى، بل تبع الكبرياء، صار شريرًا، كما يعلن ذلك بولس الرسول بكل صراحة ووضوح قائلاً: “لئلا يتصلف، فيسقط في دينونة إبليس” (1 تي 3: 6). كذلك أيضًا الإنسان الأول لما انتفخ بواسطة الشيطان الذي أوعز إليه بتلك الأمنيات الكاذبة جُعل عبرة، وصار قابلاً للفناء (بعد أن أُعد أن يكون إلهيًا خالدًا)، وورث هؤلاء الذين جاءوا بعده الكبرياء والطمع وقد أقحم كل منهم بنفسه في طريق الضلال متوهمًا وراغبًا أن يكون مثل الله، لهذا أقول إن هذه الرذيلة هي أصل آثامنا، ومنبع كل شرورنا.
ولكي يعد الله الدواء الناجح للداء، وضع قانون التواضع أولاً كقاعدة قوية ومأمونة، وهذه إذ ترسخ كأساس فإن البناء الذي يُقام عليها سيكون مضمونًا ومأمونًا كله. أما إذا غاب الأساس، فلو بلغ الإنسان حتى عنان السماء في سيرة حياته، فإن كل شيء يتلف لا محالة ويهوي إلى نهاية سحيقة. لو اجتمع الصوم والصلاة والصدقة والعفة وكل صلاح آخر مهما كان – لو اجتمعت فيك كل هذه – ولكن بدون تواضع فإن كل شيء سيتلاشى حتمًا وينتهي إلى زوال.
كان هذا هو نفس الحال في مثل الفريسي، لأنه حتى بعد أن بلغ الذروة (في تقواه) رجع خاسرًا كل شيءٍ، إذ لم تكن له دعامة الفضائل، فكما أن الكبرياء هي أساس كل الشرور، هكذا التواضع هو مبدأ كل انضباط للنفس، من أجل ذلك أيضًا نجد أن الرب يبدأ باقتلاع التعالي من جذوره، من داخل نفوس سامعيه.
ورُب سائلٍ يقول: “وكيف يكون هذا وتلاميذه كانوا على أي تقدير متواضعين، لأنه في الحقيقة لم يكن لهم شيء يتفاخرون به، لكونهم صيادين فقراء، وليسوا ذوي حسب أو نسب، وأُمِّيين”. لكن حتى ولو كانت تلك الأمور لا تعني تلاميذ الرب، إلا أنها بالتأكيد كانت تهم الحاضرين، والذين سيؤمنون به بواسطة التلاميذ فيما بعد، حتى لا يحتقرهم أحد بسبب هذا الأمر حال كونهم فقراء وضعاء.
مع هذا كان من الأصوب أيضًا أن نقول إن تعاليم الرب كانت تعني تلاميذه، فحتى لو لم يكونوا حينذاك؟ لكن من المؤكد إنهم كانوا سيحتاجون بعد قليل إلى هذا الدعم بالآيات والعجائب التي يجرونها، والكرامة التي ينالونها من العالم وثقتهم في الله، لأنهم لم يكونوا قد حصلوا على الثروة ولا القوة ولا السلطان الملوكي بالكمال حتى الملء، ومع هذا وهو أمر طبيعي حتى وقبل صُنع الآيات أن يرتفعوا حينما كانوا يرون الجماهير الغفيرة من تابعيهم والمستمعين ملتفين حول معلمهم، لابد وأنهم كانوا يشعرون بشيء من الزهو الناجم عن الضعف البشري. لذا أراد الرب أن يقمع زهوهم على الفور.
كان يقدم أيضًا أقواله هذه لا بطريق إسداء النصح أو الوصايا، بل بطريق المدح والتطويب، جاعلاً كلمته هكذا أقل وطأة، وفاتحًا للجميع مجال تطبيق تعليمه الضابط للسلوك والعمل فلم يقل هذا الشخص أو ذاك مُطوَّب، بل قال: “أولئك الذين يعملون هكذا جميعهم مطوَّبون (طوباهم)”. حتى وإن كنت عبدًا رقيق الحال، أو متسولاً، أو مسكينًا، أو غريبًا، أو جاهلاً، فلا شيء يمكنه إعاقتك من أن تكون مطوبًا إذا ما تمثَّلت بهذه الفضيلة
“طُوبَى لِلْحَزَانَى، لأَنَّهُمْ يَتَعَزَّوْنَ” [ع 4]
4. حين كانت الحاجة مُلحَّة فإنه كما ترون يبدأ في التقدم إلى وصية أخرى، والتي تبدو ضد أحكام العالم أجمع، لأنه بينما يظن الكل أن الفرحين هم محل حسد الناس، وأن المرفوضين والفقراء والحزانى هم البؤساء، فإن الرب يدعو هؤلاء البؤساء مطوَّبين أكثر من غيرهم قائلاً: “طوبى للحزانى” [ع4].
الحزانى هم الذين يصفهم الجميع بأنهم تُعساء، ولهذا يصنع السيد المعجزات قبل أن يضع تشريعاته حتى إذا ما سن هذه التشريعات لهم يكتسب ثقتهم. (ما دخل هذه الجملة بما قبلها؟؟)
لا يتحدث هنا عن كل الحزانى، بل عن الذين يحزنون بسبب خطاياهم، لأن غير ذلك من الحزن مُحرَّم، مثل الأحزان لفقدان أشياء العالم. وهو ما أوضحه بولس الرسول صراحة حين قال: “حُزن العالم يُنشئ موتًا، أما الحزن الذي بحسب مشيئة الله (الصالح) فيُنشئ توبة للخلاص” (قابل 2 كو 7: 9-10). فالذين لهم الحزن للتوبة هم الذين يطوِّبهم الرب، وليس الذين يحزنون وحسب، بل يحزنون حزنًا عميقًا، لهذا لم يقل: “طوبى للذين يتأسفون”، بل “طوبى للحزانى”، أي الذين يئنون حزنًا على الدوام. هذه الوصية مناسبة لتعليمنا ضبط النفس الكامل. لأنه إن كان الحزانى لأجل فقدان أولاد أو زوجة أو قريب رحل عنهم لا يجنون من وراء أحزانهم هذه ربحًا أو متعة ما أثناء حزنهم، ولا يسعون وراء مجد، ولا تؤثر فيهم إهانات، ولا يتملك عليهم حسد، ولا يتأثرون بأي هوى، بل يستحوذ عليهم الحزن فقط إلى أقصى الحدود، كم بالأحرى أولئك الذين يحزنون بسبب خطاياهم كم ينبغي أن يكون الحزن، إنما يظهرون إنكارًا للذات أكثر من غيرهم.
وما هي مكافأة الحزانى؟ “إنهم يتعزون”. اخبروني إذن أين يتعزون؟ أقول لكم يتعزون هنا وهناك أيضًا، لأنه إذ يرى أن ما أُمر به يفوق القدرة والطاقة، فإنه يعد أن يجعل هذا الحمل خفيفًا. لهذا إن أردتم تعزية احزنوا. ولا تحسبوا في هذا القول انقباضًا، لأن الله حين يعزيكم فمهما توالت عليكم الأحزان بغير عدد كسقوط الثلج ندفأ، يجعلكم ترتفعون فوقها جميعًا. ولما كانت المنافذ التي يضعها الله أكبر من أمثالنا دائمًا، فقد أعلن حينذاك أن الحزن مطوَّب، ليس بحسب استحقاق ما نفعله، بل بحسب محبته الخالصة لنا. لأن الذين يحزنون على سوء أعمالهم ويكفيهم أن ينعموا بالمغفرة، وأن ينالوا سؤل قلبهم وما يطلبون، ولأن الرب يفيض حبًا نحو الإنسان، فإنه لا يحد مجازاته سواء من جهة رفع العقوبات عنا أو خلاصنا من خطايانا، بل يباركنا أيضًا، ويمنحنا تعزيات وفيرة. وهو يأمرنا أن نحزن لا بسبب خطايانا نحن فقط، بل بسبب خطايا الآخرين أيضًا. هكذا كانت نفوس القديسين مثل موسى وبولس وداود، فإن هؤلاء جميعًا قد حزنوا حقًا بسبب شرور لم يصنعوها.
“طوبى للودعاء، لأنهم يرثون الأرض” [ع5]
5. اخبروني عن أي أرض يتكلم الرب؟
يقول البعض إنها أرض رمزية. كلا ليس الأمر كذلك، لأننا لا نجد في الكتاب المقدس كله أي ذكر لأرضٍ رمزية، فما معنى القول إذن؟
إن الرب يُعد لنا مكافأة حسية، مثلما يقول القديس بولس الرسول أيضًا: “أكرم أباك وأمك” (أف 6: 2). ويضيف: “وتكونوا طوال الأعمار على الأرض”. والرب نفسه يقول للص أيضًا: “اليوم تكون معي في الفردوس” (لو 23: 43).
فهو لا يعدنا بالبركات العتيدة فقط، بل وبالحاضرة أيضًا. لأجل الذين يسعون وراءها من سامعيه ذوي الطبيعة الأرضية جدًا، أما الآخرون فيعدهم ببركات عتيدة: فمثلاً يقول في موضع آخر: “كن مراضيًا لخصمك” (مت 5: 25)، ثم يُعين مكافأة هذا الانضباط للنفس، فيقول: “لئلا يسلِّمك الخصم للقاضي، ويسلِّمك القاضي إلى الشرطي” (مت 5: 25). هل ترون كيف ينذرنا بالحواس، وبما يحدث أمام عيوننا؟ ويقول أيضًا: “من قال لأخيه رقا (يا أحمق) يكون مستوجبًا المجمع” (مت 5: 22). وبولس أيضًا يصف بالتفصيل الجوائز الحسية، ويستخدم أمورًا حاضرة في مباحثاته، مثلما يحدث عندما يتناول موضوع البتولية. فإذ لم يقل شيئًا عن السماوات هناك، فإنه يحثنا على بلوغها في الزمان الحاضر، قائلاً: “لسبب الضيق الحاضر”، “وأما أنا فإني أشفق عليكم، وأريد أن تكونوا بلا همّ” (1 كو 7: 26، 28، 32). هكذا السيد المسيح أيضًا يمزج الأمور الروحية بالأمور الحسية، إذ بينما نظن أن الإنسان الوديع يفقد كل ما لديه، يعده الرب بالنقيض قائلاً: كلا، بل الوديع هو من يمتلك خيراته في أمان، أعني هذا: الشخص الذي لا يكون مشهورًا أو متباهيًا، فإن مثل هذا النوع من الناس من غير الودعاء، غالبًا ما يفقد ميراثه وحياته كلها.
وقد اعتاد النبي في العهد القديم أن يقول باستمرار: “أما الودعاء فيرثون الأرض” (مز 37: 11). فإن الرب ينسج في عظته الكلمات التي اعتادوا على سماعها، حتى لا يتحدث إليهم بلغة غريبة. وهو يقول ذلك لا بغرض اقتصار المكافأة على أمور الزمان الحاضر، بل ليربط بها عطايا من نوعٍ آخر. فهو لا يستبعد الزمنيات عند حديثه عن الروحيات، ولا يجعل وعده قاصرًا على عطايا الزمان الحاضر. لأنه يقول: “اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره وهذه كلها تُزاد لكم”. وأيضًا: “ليس أحد ترك بيتًا أو إخوة، إلا ويأخذ مئة ضعف الآن في هذا الزمان، وفي الدهر الآتي الحياة الأبدية ” (مز 10: 29-30، لو 18: 29، 20).
“طوبى للجياع والعطاش إلى البرّ” [ع6].
6. أي نوعٍ من البرّ؟
إنه يعني إما كل الفضائل أو تلك الفضيلة المضادة للاشتهاء. لأنه وهو مزمع أن يعطي وصيته عن الرحمة، ليعلمنا كيف نصنع الرحمة، لا بغرض السلب أو الاشتهاء، يطوِّب المتمسكين بالبرّ.
ولنتأمل كيف يطرح الوصية بكل قوة، إذ لم يقل: “طوبى للذين بالبرّ يحفظون صومًا”، بل “طوبى للجياع والعطاش إلى البرّ”، أي الذين لا يصنعون برًا هكذا ببساطة، بل يشتاقون من كل القلب إلى إكماله. ولما كانت تلك هي أعظم صفة تميز الاشتهاء، ولما كنا غير مفتونين إلى هذا الحد بالطعام والشراب، مثلما نشتهي الربح، فنجمع لأنفسنا المزيد والمزيد، يأمرنا أن ننقل هذه الرغبة إلى شيء جديد، هو التحرر من الشهوة المادية. ثم يعين المجازاة أيضًا من الأمور الحسِّية قائلاً: “لأنهم يُشبعون”. هكذا لأنه من المعتقد أن الأغنياء يُشبعون من الاشتهاء – لكنه يقول كلا – بل النقيض هو الصحيح، لأن البرّ يُشبع النفس. لهذا إن كنتم تصنعون البرّ، فلا يرهبكم فقر ولا يرعبكم جوع. لأن الغاصبين هم الذين يخسرون كل شيء، تمامًا مثل من يشتهي البرّ ويحبه يمتلك كل خيرات الأرض في أمان. فإن كان الذين لا يشتهون خيرات الآخرين ينعمون هكذا بفيض البركة العظيمة، فكم بالأحرى وبالأكثر الذين يتخلون عن كل ما يخصهم للآخ.
“طُوبَى لِلرُّحَمَاءِ، لأَنَّهُمْ يُرْحَمُونَ.ّ” [ع7].
يبدو لي أن الرب لا يتحدث هنا عن الذين يصنعون الرحمة فقط بتقديم المال، بل الرحماء في أعمالهم أيضًا، لأن للرحمة طرق عديدة، وهذه الوصية واسعة، لكن ما هي مجازاة عمل الرحمة؟ “لأنهم يُرحمون”. تعويض عادل لكنه شيء أبعد مما يكون عن فعل الخير، لأنه بينما يصنع الناس رحمة كبشرٍ، ينالون رحمة من إله الجميع، وليست رحمة الإنسان كرحمة الله مطلقًا، فالفارق بينهما شاسع وكبير جدًا كبعد الشر عن الخير.
“طوبى للأنقياء القلب، لأنهم يعاينون الله” [ع8]
لاحظوا هنا أيضًا أن المكافأة روحية، فهو يدعو من بلغوا قمة الفضائل ولم يُضمروا في نفوسهم أي شر “أنقياء”، وكذلك من يضبطون أنفسهم في كل شيءٍ، ويتعففون عن الشهوات. لأنه ما من شيءٍ نحتاج إليه بالأكثر لنعاين الله مثل هذه الفضيلة الأخيرة. حيث يقول القديس بولس الرسول أيضًا: “اتبعوا السلام مع الجميع، والقداسة التي بدونها لن يرى أحد الرب” (عب 12: 14).
هنا يتكلم عن إمكانية رؤية الله بشكلٍ نسبيٍ ومحدودٍ، أي على قدر ما يتحمل الإنسان بسبب محدوديته البشرية. فكثيرون يمارسون عمل الرحمة ولا يسلبون أحدًا ولا يشتهون ما للغير، ومع هذا يوجدون متلبسين بخطايا الزنا والنجاسة. فلكي يُظهر (السيد الرب) أن عمل الرحمة وحده غير كافٍ، أضاف هذا التطويب. وهو نفس ما يعنيه بولس الرسول تمامًا في رسالته إلى أهل كورنثوس شاهدًا للمقدونيين أنهم كانوا أسخياء ليس فقط في العطاء، بل وفي كل فضيلة، لأنه بعد أن تكلم عن روحهم النبيلة التي أظهروها من جهة كرم عطاياهم الحاوية، يقول أيضًا: “بل أعطوا أنفسهم أولاً للرب، ولنا” (2 كو 8: 5).
“طوبى لصانعي السلام” [ع9].
7. هنا لا يُزيل عنا فقط الخصام والكراهية اللذين نحملهما في نفوسنا، من جهة بعضنا بعضًا، بل بجانب ذلك يطالبنا بشيءٍ أكبر، هو أن نجتهد لمصالحة الآخرين، أما المكافأة التي يكشف لنا عنها فهي أيضًا روحية: فما نوعها إذن؟ “لأنهم أبناء الله يدعون”. نعم، لأن هذا هو عمل الابن الوحيد، أن يوحِّد المتفرقين، ويصالح المتباعدين. ولئلا نتوهَّم أن السلام في كل الأحوال بركة مطوبة، أضاف قائلاً: “طوبى للمُضطهدين من أجل البرّ” أي من أجل الفضيلة، وإعانة الآخرين، ومن أجل كل عملٍ صالحٍ. فقد اعتاد الرب أن يعني بالبرّ كل عمل حكيم تمارسه النفس.
“طوبى لكم إذا عيّروكم وطردوكم، وقالوا عليكم كل كلمة شريرة من أجلي كاذبين، افرحوا وتهللوا” [ع11-12].
ويعني بقوله هذا: حتى وإن قالوا عنكم إنكم لصوص وغشاشون وخارجون على القانون، أو أي اتهام آخر، فطوباكم. هكذا يقول ولكن ما الشيء الأكثر حداثة من هذه الوصايا؟ بينما يتحاشى الآخرون هذه الأمور عينها، فإنه يعلن أنه علينا أن نرغب في أن نكون فقراء حزانى مضطهدين، وموضع شرور الناس وأقاويلهم. والرب بذلك لا يقنع حفنة من الناس بل العالم أجمع. وإذ سمع الجموع أمورًا محزنة ومؤلمة بعكس ما اعتادوا أن يسمعوه كانوا “مبهوتين” (قابل مت 7: 28)، إذ كان سلطان المتكلم عظيمًا.
وبالرغم من ذلك، وحتى لا تفتكروا أن مجرد الحديث بكلام الشر علينا يجعلنا مطوّبين، فقد وضع شرطين: أن يكون ما قيل من كلامٍ كذبًا، وأن يكون هنا الكلام أصلاً بسببه هو. بدون هذين الشرطين، يكون من تحدث الناس عليه بشر، من التعساء، ولا ينعم ببركة أبدًا.
ثم تأملوا المكافأة مرة أخرى: “لأن أجركم عظيم في السماوات”.
لكنكم حتى وإن لم تسمعوا أيّ ملكوت يُعطى لكم من الرب من بين بركاته، لا تيأسوا. لأنه بالرغم من تعدد أسماء المكافآت، فإنه يأتي بها كلها إلى ملكوته. فإن قال: “طوبى للحزانى لأنهم يتعزون”، و “طوبى للرحماء لأنهم يرحمون”، و “طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله”، و “طوبى لصانعي السلام لأنهم يدعون أبناء الله”، فإن لا شيء يمكن أن يعطي كل هذه العطايا وبسخاء إلا الملكوت، لأن جميع الذين ينعمون بتلك المكافآت سينالونها في الملكوت. فلا تظنوا أن هذه المجازاة هي للمساكين بالروح فقط، بل للجائعين من أجل البرّ، وللودعاء، ولأجل الجميع بلا استثناء، لأنه وهب بركته لهم جميعًا. حتى لا تفتكروا في أي أمور حسية. لأن مثل هذا الإنسان لن يُبارك، الذي يشغل رأسه بمثل تلك الأمور الزائلة في هذا الدهر الآتي والتي تبلى سريعًا كالظل.
8. لكنه حينما قال “لأن أجركم عظيم” أضاف أيضًا تعزية جديدة قائلاً: “فإنهم هكذا طردوا الأنبياء الذين كانوا قبلكم”، لأنه إذ كان الوعد أولاً بالملكوت هو وعد عتيد وكل ما يتعلق به ننتظره ونرجوه، فإنه يقدم لهم تعزية وراحة من عناء هذا الدهر ومن شركة الذين كانوا قبلهم يعانون من سوء المعاملة.
وهو يقول ما معناه: “لا تظنوا أنكم تقاسون هذه الأمور لعيبٍ ما في كلامكم وأفعالكم وقراراتكم، أو كأنكم معلِّمون لتعاليم شريرة ولهذا يضطهدونكم، بل بسبب شرور سامعيكم، فلا لوم عليكم إذا عانيتم من سوء أفعالهم، بل اللوم يقع على من يسيء معاملتكم. وتشهد كل الأزمنة الماضية على هذه الحقيقة، لأنهم لم يجدوا علَّة على الأنبياء من تعدي للناموس، أو لم يعثروا على مخالفات من عدم التقوى، ولكنهم رجموا البعض وطردوا البعض الآخر، وعذبوا آخرين بآلام بغير حصر. لهذا لا تدعوا هذه الأمور تزعجكم، لأنهم الآن يعاملونكم بنفس الفكر عينه.
أرأيت كيف يرفع السيد الرب معنوياتهم، بأن يجعلهم في شركة مع موسى وإيليا، وهكذا قال القديس بولس في رسالته إلى أهل تسالونيكي: “فإنكم صرتم شركاء كنائس الله التي هي في اليهودية، لأنكم تألمتم أنتم أيضًا من أهل عشيرتكم تلك الآلام عينها، كما هم أيضًا من اليهود الذين قتلوا الرب يسوع وأنبياءهم واضطهدونا نحن، وهم غير مرضيين لله، وأضداد لجميع الناس” (1 تس 2: 14-15). وهي نفس النقطة أيضًا هنا التي أرساها السيد المسيح، والتي في تطويبات أخرى قال: “طوبى للمساكين” و”للرحماء” وهو هنا لا يخاطب عموم الناس، بل يوجِّه حديثه إليهم هم أنفسهم، قائلاً: “طوبى لكم، إذا عيّروكم وطردوكم، وقالوا عليكم كل كلمة شريرة”، مشيرًا إلى أن هذه ميزة خاصة بهم، وأن المعلّمين يختصون بها عن سائر البشر. وفي نفس الوقت فإنه هنا وبشكل سري يشير إلى كرامته الخاصة، ومساواته مع الآب في الكرامة، إذ يقول: لأنهم مثلما تكبدوا لأجل الآب، هكذا أنتم أيضًا تحتملون هذه الأمور لأجلي. ولكنه حين يقول: “الأنبياء الذين قبلكم” فإنه يؤكد ضمنًا أن التلاميذ قد صاروا أيضًا أنبياء في هذا الزمان. وبعد أن شرح أن ذلك ينفعهم ويمجدهم لم يقل: “إنهم سيتجمهرون عليكم ويضطهدونكم ولكني سأمنعهم”. لأن الرب يمنحهم الثبات والاطمئنان، لا بهروبهم من كلام الشر عنهم، بل تحملهم لهذا الشر في شرفٍ، وتفنيدهم لهم بأعمالهم. فهذا أعظم بكثير من هروبهم. على سبيل المثال عندما يضربك الناس ولا تؤذيهم، فهذا أعظم كثيرًا من الهروب من تلقي الضربة.
عظمة المكافأة
“لأن أجركم عظيم في السماوات” [ع12]
9. ويذكر القديس لوقا البشير أن الرب قال ذلك في حزمٍ، وفي تعزية كاملة، لأنه كما تعلمون، لم يطوِّب فقط أولئك الذين يتكلم عنهم الناس بالشرور لأجل الله، بل يضيف: من يقول الناس عنهم قولاً حسنًا أنهم بؤساء. إذ لم يقل: “الويل لكم، إذا ما قال الناس فيكم حسنًا”، بل حين يفعل كل الناس ذلك؛ لأنه من غير الممكن أن الذين يحيون وهم يعلمون صالحًا يتكلم الناس عنهم حسنًا، يقول مرة أخرى: “إذا أخرج الناس اسمكم كشرير، افرحوا وتهللوا” (قابل لو 6: 22-23).
والرب يحدد المكافأة العظيمة، ليس لأجل المخاطر التي يواجهونها فحسب، بل لأجل ما وقع عليهم من تشويه السمعة، لهذا لم يقل: “إذا اضطهدوكم وقتلوكم”، بل “إذا عيَّروكم وقالوا عليكم كل كلمة شريرة”. لأنه من المؤكد فعلاً أن كلام الناس بالشرور على الآخرين هو أشد قسوة من أعمالهم الشريرة نفسها. لأننا مهما واجهنا من أخطارٍ، فإن هناك أمورًا كثيرة تخفف من وطأة الألم، مثلما يشترك الجميع في إدخال الفرح على نفوسنا، أو حين يصفق لنا الكثيرون، أو حين نكلل، أو يمدحنا الآخرون ويثنون علينا جهارًا. بينما حين يوبخنا الناس نفقد مثل هذه التعزيات، لأننا نبدو أمامهم وكأننا لم نحقق شيئًا عظيمًا. الأمر الذي يثير غضب الخصوم أكثر من إثارة مخاطرهم. فعلى الأقل نعلم أن كثيرين شنقوا أنفسهم، غير محتملين أن يقول الناس عنهم شرًا!
فلماذا تتعجبون من الآخرين؟ فإن هذا الخائن العاري من الخجل، والملعون الذي توقف إحساسه بالخجل، قد أسرع بعد فعلته إلى حبل المشنقة. وأيوب أيضًا، العنيد الذي لا يلين، الأصلب من الصخر، حين فقد كل أملاكه، وكابد تجارب مروعة وأسقامٍ يستحيل علاجها، وأصبح فجأة محرومًا من أطفاله، وقد نضح جسده بالدود في كل أجزائه، ولم تكف زوجته عن مهاجمته، لم يخضع لكل هذه البلايا، بل نفض عنه كل شيء أليم، لكنه حين جاءه أصدقاؤه يوبخونه ويدوسون عليه، ويقولون فيه رأيًا شريرًا متلذذين بتوبيخه، وأنه عانى كل هذه الآلام بسبب معاصيه، وأنه كان يدفع ثمن شروره، تعب الرجل العظيم كريم القلب وانزعج وتوتر.
وداود أيضًا بعد أن تجاوز محنته، توسل إلى الله طالبًا أن يُنزل عقابًا على تشويه سمعته وحدها. إذ يقول “دعوه يسب، لأن الرب قال له. لعل الرب ينظر إلى مذلتي، ويكافئني الرب خيرًا عوض مسبته بهذا اليوم” (2 صم 16: 11-12).
ويعلن القديس بولس عن نصرة أولئك الذين يجلبون على أنفسهم المخاطر أو الذين يُحرَمون من خيراتهم. بل الذين يحتملون أيضًا، إذ قال: “تذكروا الأيام السالفة التي فيها بعدما أُنرتم صبرتم على مجاهدة آلام كثيرة” (عب 10: 32-33). ويكمل “من جهة مشهرين بتعييرات وضيقات”. علي هذا الأساس وصف المسيح إذن المكافأة بأنها عظيمة. وبعد هذا ولئلا يقول أحد هنا أنتم لا تعطون تعويضًا، ولا تسكتون أفواه الناس، فهل تعينون لهذا الأمر مكافأة؟
لقد وضع السيد أمامنا مثال الأنبياء ليُظهر أن الله لم يقدم تعويضًا في حالتهم، وإذا كانت المكافآت جاهزة ومتاحة، فقد أدخل المسرة عليهم بأمورٍ مستقبلة. وأكثر منها الآن، حينما يصبح هذا الرجاء أكثر وضوحًا، ويزداد إنكارنا للذات.
لاحظوا أيضًا أنه وضع هذه الوصية بعد عدة وصايا مثلها، وقد فعل ذلك عن حكمة دون شك، ليظهر أنه من غير الممكن لإنسانٍ لا يتسامح ولا يتزود بالفضائل الأخرى، أن يواجه مثل هذه الصراعات والضيقات لهذا ترون أنه في كل حالةٍ، وبإعداد وصية ما لتمهد الطريق أمام وصية أخرى تالية، قد نسج لأجلنا عقدًا من ذهب. فنرى أن التواضع أولاً “يحزن” بسبب خطاياه، ومن يحزن يكون “وديعًا” و”بارًا” نادمًا ندمًا حقيقيًا. يكون أيضًا نقي القلب، ونقي القلب يكون صانع سلام. والذي يبلغ كل هذه الفضائل يصمد ضد الأخطار ولا يزعجه شر يتقوَّل به الناس عليه ويحتمل ضيقات شديدة بغير حصرٍ.
عمل على مستوى العالم كله “ملح الأرض”
10. وبعد أن قدم الرب النُصح اللائق في الوقت المحدد أخذ ينعش نفوسهم مرة أخرى بالثناء، ولما كانت وصاياه أعظم من وصايا العهد القديم، وحتى لا يضطربوا ويتحيروا متسائلين: كيف لنا أن نحققها؟ يقول لهم:
“أنتم ملح الأرض” [ع13].
يُلمح الرب بهذا إلى مدى أهميتهم القصوى للآخرين وكأنما به يقول: إن قيمتكم الاعتبارية ليست في حياتكم الخاصة منعزلين عن الناس. فها أنا أرسلكم لا إلى مدينة واحدة أو عشر مدن أو عشرين أو إلى أمة بأجمعها كما أرسلتُ الأنبياء قديمًا، بل إلى كل الأرض والبحر والعالم بأسره الذي انغمس في الفساد.
وبقوله: “أنتم ملح الأرض” يشير إلى أن الطبيعة البشرية كلها تفقد مذاقها الجيد وتفسد بسبب خطايانا، ولأجل هذا يطلب منهم تلك الفضائل لضرورتها القصوى لتقويم الجنس البشري كله، لكونهم صاروا قادة روحيين لهم ومَثل أعلى يُحتذى.
فالودعاء والمسالمون والرحماء والأبرار لا ينغلقون أبدًا على أنفسهم، ولا يقصرون أعمالهم الصالحة على ذواتهم، بل يعملون بكل ما في وسعهم أن تفيض هذه الينابيع الصالحة لخير الآخرين.
ثم أيضًا من هو نقي القلب، وصانع السلام، أو المطرود والمضطَهد لأجل الحق، إنما يضع حياته من أجل الصالح العام، وكأن الرب يقول لتلاميذه لا تظنوا إذًا أنكم قد خرجتم لأجل جهاد هيِّن أو أنكم صرتم مسئولين عن أمور تافهة بسيطة، بل أنتم “ملح الأرض”.
وماذا إذن؟ هل سيُصلحون ما فسد؟ كلا! لأنه لا يمكن إصلاح ما تلف مهما نثرت عليه من ملحٍ. فهذا ليس واجبهم، بل الذين قد سبق وتجددوا واُستعيدوا بالمسيح، وأوكل إليهم أمر رعايتهم – بعد تحررهم من المذاق الرديء – هؤلاء يملِّحونهم لصيانتهم وحفظهم وبقائهم على استمرارية جدة الحياة العذبة (freshness) التي قبلوها من الرب، لأن العمل الصالح الذي أتمه السيد المسيح هو أن يحرر أولئك الناس من فساد خطاياهم، أما (الرسل) فهم بخدمتهم الدؤوبة وعملهم الغيور، إنما يَضمنون عدم عودتهم مرة أخرى إلى فساد خطاياهم.
سموهم على الأنبياء
أترى كيف يتدرج الرب في الكشف عن سموهم على الأنبياء؟ في دعوته لهم ليكونوا معلمين، لا لفلسطين وحدها، بل للعالم أجمع. وليسوا كمعلمين بسطاء بل ذوي مهابة وسلطان يرهبه الجميع. وهذا هو العجب؛ أنه ليس بالمداهنة والإطراء والملاطفة، بل بشحذ هممهم بقوة كملح الأرض ليكونوا محبوبين وأعزاء على قلوب الناس جميعًا.
وكأن الرب يقول لهم:
“لا تندهشوا الآن إن كنتُ أخصكم أنتم بحديثي دون الآخرين، وأدفعكم إلى مخاطر عظيمة بهذا القدر”، حتى تدركوا إني سأرسلكم لا لترأسوا مدنًا وقبائل وأممًا كثيرة وأقيمكم رعاة عليها. حيث لا أريد أن تكونوا أنتم أنفسكم حكماء، بل أن تجعلوا الآخرين أيضًا كذلك. فإن مثل أولئك الأشخاص الذين اُستؤمنوا على خلاص الآخرين هم في حاجة شديدة أن يكونوا على قدر كبير من الفطنة، وينبغي كذلك أن تكون حياتهم زاخرة بالتقوى لينفعوا الآخرين أيضًا. لأنه إن لم تصيروا أنتم هكذا، لن تنفعوا حتى أنفسكم.
فلا تضيقوا ذراعًا بكلامي لكم، حتى وإن بدا لكم صعبًا بعض الشيء، فبينما من السهل على الذين فقدوا مذاقهم الطيب أن ينصلحوا بكم، فإنكم أنتم إن فسدتم تفسدون آخرين معكم، فأنتم بحاجة إلى اجتهاد أعظم بقدر ما كان ما اُستؤمنتم عليه جسيمًا.
فلهذا يقول الرب:
“ولكن إن فسد الملح فبماذا يُملَّح؟ لا يصلح بعد لشيءٍ إلا أن يُطرح خارجًا ويُداس من الناس” [ع13].
لأن عامة الناس (من غير المعلمين) حتى وإن تكرر سقوطهم، إلا أنه يمكنهم بسهولة نوال المغفرة، أما المعلم فإن سقط فهو بلا عُذر، بل ويُحرم من كل عفوٍ، ويكون عقابه أشد على كل إثم ارتكبه. ولئلا يتجنبوا ويحجموا عن الانطلاق للكرازة من قوله لهم: “إذا ما عيروكم وطردوكم وقالوا عليكم كل كلمة شريرة”، يصارحهم قائلاً: “ما لم تستعدوا بالمضمون أمام كل ضيقة فقد صار اختياركم عبثًا، فلا ينبغي أن تخيفكم السمعة السيئة، بل أن تخشوا المظاهر الكاذبة التي تفسد ملوحتكم وعندئذ تُداسون بالأقدام. أما إذا ظللتم تحتملون كل ما يأتي عليكم من محنٍ في وعيٍ روحيٍ يقظ، مهما قيل عنكم من كلامٍ شريرٍ، افرحوا وتهللوا. لأن تلك هي منفعة الملح؛ أن يكون ترياقًا للفساد ويجعل الفاسد عديم فساد. فإن جاءتكم من الناس ملامة أو تعنيف، لا يقدر أحد أن يضركم بأي حال، بل يشهد على ثباتكم. لكن إن تخليتم بسبب الخوف عن رزانتكم اللائقة بكم، لدفعتم الثمن باهظًا خصمًا من سمعتكم الطيبة فتصيرون سيِّئي الصيت، محتقرين من الجميع فهذا هو معنى “تداسون من الناس”.
11. ثم يسمو بهم إلى صورة أعلى:
“أنتم نور العالم” [ع14]
ومن جديد، هم “نور العالم” ليس لأمَّة واحدة أو لعديد من الدول، بل للمسكونة كلها.
وهم نور الذهن الأسمى كثيرًا من أشعة الشمس، كما سبق وشبههم “بالملح الروحي”. أما الآن فيدعوهم “نورًا” ليكشف لنا عن مدى عظمة وكمال التحلي بهذه المبادئ والنفع الجزيل الذي يجلبه العليم السامي الضابط للنفس وحافظها من الثروى إلى طريق الهلاك والذي يوضح الرؤية أمام البشر آتيًا بهم إلى الحياة الفضلى.
تدريبهم على حياة التدقيق
“لا يمكن أن تُخفى مدينة موضوعة على جبل، ولا يوقدون سراجًا ويضعونه تحت مكيال” [ع13-14].
بهذا الكلام يدربهم أيضًا على حياة التدقيق. ويعلمهم أن يكونوا شديدي الحرص في سعيهم كمن تتجه إليهم أنظار الجميع. وكأبطال يجاهدون في وسط العالم.
وكأنه يقول لهم “لا تنظروا إلى كوننا الآن جالسين هنا في بقعة صغيرة من أرجاء الأرض، لأنكم ستكونون محط أنظار العالم أجمع، كمدينةٍ قائمةٍ على قمة جبلٍ عالٍ، وكسراجٍ في بيتٍ على منارةٍ ينير لكل من فيه.
أين هم الآن الذين يصرون على إنكار الإيمان بسلطان المسيح؟ ليتهم يسمعون هذه الأمور، ويمجدون قدرته، ويندهشون لهذه الرؤية النبوية لما هو عتيد أن يكون. فهؤلاء الذين كانوا مجهولين حتى في وطنهم الخاص سوف يوفهم البرّ والبحر، وسيبلغ صيتهم إلى أقاصي المسكونة، ليس كمجرد شهرة، بل بسبب أعمال الخير التي سيصنعونها. فليس مجرد الشهرة، أو الاسم هو الذي يذيع في كل مكان صيتهم، بل ممارستهم فعلاً للأعمال الصالحة. والتي كانت واضحة للعيان – أمام الكل – وكأن لهم أجنحة يطيرون بها أسرع من أشعة الشمس، يجوبون المسكونة كلها يبذرون نور التقوى والصلاح.
ويبدو لي في قول الرب لهم: “لا يمكن أن تُخفى مدينة على جبل”، أنه يدربهم على الجرأة في الحديث وقوة كرازتهم وقدرته التي سيعلنها بواسطتهم. لأنه مثلما لا يمكن إخفاء مدينة قائمة على جبل، هكذا من المستحيل أن يلف الصمت كرازتهم ويحيطها الغموض. وكما سبق وتكلم معهم عن الاضطهادات والوشايات والمكايد والحروب المزمع أن يواجهوها، وحتى لا يظنوا أن تلك الأمور يمكنها أن تعوق كرازتهم، ولكي يشجعهم نجده يقول: إن حياتهم وكرازتهم بالإنجيل لا يمكن أن تُخفى، بل تنير كل العالم، ولهذا ستطير شهرتهم إلى الآفاق، و يُذاع صيتهم في كل الدنيا.
بهذا يعلق الرب عن قوته الشخصية التي ستُستعلن للعالم بواسطتهم.
“ولا يوقدون سراجًا ويضعونه تحت مكيال، بل على منارة ليضيء لكل من في البيت. فليضيء نوركم هكذا قدام الناس، لكي يروا أعمالكم الحسنة، ويمجدوا أباكم الذي في السماوات” [ع15-16]
وكأني به يقول لهم:
الحق إنني أشعلت النور من جانبي، أما اجتهادكم في الخدمة فهو الذي يحفظ دوام توهجه. ليس لأجل أنفسكم وحدكم، بل أيضًا من أجل أولئك الذين يمكنهم أن ينتفعوا بهذا الضوء الذي به يهتدون إلى الحق. لأن الوشايات لا يمكن أبدًا أن تحجب بهاء ضيائكم، إن كنتم تحيون حياة الاستقامة. فأنتم الملتزمون أن تهْدوا العالم أجمع إلى معرفة الحق. أظهروا إذًا للعالم حياة جديرة بنعمته، حتى إذا ما كُرز بها في العالم أجمع يرافقكم هذا النور نفسه على الدوام.
شهادة المقاومين لهم
يضع الرب بعد ذلك أمامهم نوعًا آخر من الربح، فبجانب خلاص البشر الجدير بأن يجعلهم يسعون بكل ما في عزيمتهم وجهدهم، هكذا يقول لهم، فليس فقط تُقوِّمون شأن العالم إذ ما عشتم بالاستقامة، بل أيضًا ستهيئون الفرصة لأن يتمجد الله بكم. أما إن فعلتم العكس تكونون سببًا في هلاك البشر، وبسببكم يُجدَّف على اسم الله.
ورُبَّ سائلٍ: كيف يمكن أن يتمجد الله بنا حتى لو تقاول الناس علينا شرًا؟ ليس كل الناس بل حتى الذين يفعلون ذلك بدافع الحسد فإنهم في قرارة أنفسهم سيعجبون بكم ويمتدحونكم.
ماذا إذن؟ هل يأمرنا الرب بالتفاخر والمجد الباطل؟ حاشا! فهو لم يقل: “اجتهدوا أن تروا أعمالكم الصالحة” ولم يقل: “أظهروها لهم”، لكنه قال: “ليضئ نوركم”، أي لتنْمُ فضيلتكم وتتوهج نارها، وينتشر نورها الفائق الوصف. لأنه عندما تتسامى الفضيلة لا يمكن أن تظل مخفية حتى ولو حاول الخصم أن يحجب نورها آلاف المرات. هكذا قدموا للناس حياة بلا لوم ولا عيب، فلا يجد العدو فيها فرصة ليقول عليكم كلامًا شريرًا بعد. حينذاك حتى إن وجد آلاف من المتكلمين بالسوء، فلن يستطيع إنسان أن يلقي عليكم أي ظل، ولن يقدر أن يحجب نوركم.
حسنًا قال: “نوركم”، فلا شيء يرفع من شأن الإنسان مثل الفضيلة حتى ولو تحايل الفرد على إخفائها. وكأن صاحبها مدَّثر بالشمس، وهكذا فإنه يلمع بنور أكثر بهاءً منها، فيسطع نوره على كل الأرض بل ويرتقي إلى عنان السماء نفسها.
هكذا كان يكثر من تعزيته لهم، وكأنه يقول: مهما كان التشهير يؤلمكم، فإن لديكم آخرين كثيرين يمجدون الله بسببكم وفي كلا الأمرين تكون مجازاتكم عظيمة. من جهة، لأن الله تمجد بكم، ومن جهة أخرى لأن الناس افتروا عليكم لأجل الله.
ولئلا نتعمد أن يوبخنا الآخرون عندما نسمع أن لنا بسبب ذلك مكافأة، فإنه في بادئ الأمر، لم يعبر عن هذا الرأي هكذا ببساطة، بل جعل له شرطين: أعني، حين يكون ما يُقال غير صحيح، وأن يكون لأجل الله. ثم يقرر بعد ذلك أن هذا الأمر ليس بالأمر الوحيد، بل إن هذا الكلام الطيب له ربحه العظيم، حين يعطي الإنسان المجد لله. ويُظهر الرب لهم هذه الأماني المباركة إذ يقول: “الدخول في الباب الضيق يجلب تشويهًا لسمعتكم، لكنه لا ينتشر بهذا القدر فيضع آخرين في الظلمة ولا يرون نوركم، لأنه حين يفسد ملحكم أي تفقدون مذاقكم يدوسونكم تحت الأرجل، لكن ليس حين يتهمونكم باطلاً، يفعلون حسنًا، بل بالحري يلتف حولكم كثيرون معجبون بكم، لا لأجلكم أنتم فقط، بل لأجل أبيكم الذي في السماوات. لم يقل الرب: “الله” بل “يمجدون أباكم” مُظهرًا أصل هذا الميلاد الشريف مسبقًا، والذي كان عتيدًا أن يجلبه لهم. وحتى يشير أيضًا إلى مساواته في كرامة الآب مثلما قال قبلاً “لا تحزنوا إذا ما قال عليكم الناس كلامًا شريرًا لأنه يكفيكم أنهم تكلموا عليكم بسببي” لهذا يذكر هنا الآب موضحًا مساواته له كما يفعل في كل موضع آخر.
12. وإذ نعلم مدى المنفعة التي نجنيها بسبب جديتنا هذه، وخطر تراخينا (لأنه لو كان الناس يجدفون على الرب بسببنا لصار حالنا أسوأ بكثير من هلاكنا).
علينا ألا “نكون عثرة لليهود وللأمم ولكنيسة الله” (1 كو 10: 32). وبينما تكون حياتنا التي يراها الناس أكثر إشراقًا من الشمس، فحتى إن تقوَّل الناس علينا بشرٍ لا نحزن لأنهم يشهدون بسمعتنا، فقط نحزن لأنهم شهروا بنا عن حق، لأنه من جهة إن كنا نحيا حياة الشر، ولم يتحدث علينا أحد بسوء لصرنا أشقى جميع الناس، ومن جهة أخرى إن كنا نسلك حسب الفضيلة حتى وإن تقوَّل العالم كله بشر، نصير في الوقت عينه محل حسد الناس أكثر من الآخرين، فنجذب إلينا الذين اختاروا أن يخلصوا، لأن حياتنا الصالحة هي التي تسترعى انتباههم وليس تشهير الأشرار بنا. لأنه ما من بوق يشهد على استقامتنا أكثر من أعمالنا التي نمارسها، فإن الحياة النقية أكثر شفافية من النور نفسه، حتى وإن فاق الذين يشهِرون بنا كل حد.
وأقول إن كانت كل الخصال السابق ذكرها هي من نصيبنا، وإن كنا ودعاء ومتواضعين ورحماء وأنقياء القلب وصانعي سلام، إن كنا نسمع التوبيخ ولا نخاصم أحدًا، بل بالحري نفرح ونسرّ، فإننا نجذب جميع الذين يلاحظون سيرتنا مثلما تجتذبهم المعجزات ويتعاطف الكل معنا حتى ولو كان وحشًا كاسرًا أو شيطانًا أو أي شيءٍ آخر. فإن كان البعض يتكلمون عليكم بالشر، فلا تنزعجوا آنذاك0 حتى إن هم وبخوكم علانية، فاهتموا أن تفتشوا في ضمائرهم، ستجدونهم يهتفون لكم، ويعجبون بكم، ويمدحونكم مديحًا لا حدود له.
تأملوا مثلاً، كيف يمتدح نبوخذنصر الفتية في أتون النار رغم عدواته وخصوماته معهم، لكنه حين رآهم واقفين في شموخ أعلن عن انتصارهم وكللهم بالتيجان، لا لشيء، إلا لأنهم لم يطيعوه وأطاعوا ناموس الله. لأن الشيطان حين لا يحقق شيئًا، يهرب خشية أن يكون سببًا في حصولنا على مزيد من الأكاليل. وبرحيله، فإن الذي كان الجميع يكرهونه وكان يحيا في عزلة بينهم نراه يسلك طريق الفضيلة، إذ انقشع الضباب من أمامه. فإن كان الناس لا يزالون يتجادلون ضدكم، ستنالون من الله أعظم مديحٍ وإعجابٍ. فلا تحزنوا بعد، أرجوكم لا تيأسوا، لأن الرسل أنفسهم كانوا بالنسبة للبعض “رائحة موت” (1 كو 2: 16)، ولآخرين “رائحة حياة” وإن لم يكن في نفوسكم شيء تتمسكون به، فيكفي أنكم تخلصتم من كل اتهاماتهم لكم، أو بالحري قد صرتم مطوَّبين بالأكثر. فليضيء نوركم إذن في حياتكم ولا تهتموا بالذي يقولون عنكم شرًا. لأنه من المستحيل، أقول من المستحيل أن من يمارس الفضيلة تخلو حياته من الأعداء – مع ذلك فإن الرجل الصالح لا يهتم بهذه الأمور – لأنه يزداد بها بريقًا ويفيض إشراقه بالأكثر.
السمو بالانشغال بالحياة السماوية
فإن كنا نشغل بالنا بهذه الأمور، فلنضع نصب أعيننا كيف نضبط حياتنا بالرصانة والجدية. لأننا بهذا نحيا الحياة السماوية ونقود معنا الجالسين في الظلمة، فهذه هي خاصية النور: أن ينير هنا وأن يقود تابعيه إليه. لأن الناس حين يروننا نزدري بكل شيء في هذا الزمان الحاضر. ونعد أنفسنا للدهر الآتي، تحثهم أعمالنا أسرع من أية عظة، لأن الإنسان حتى بعد انعدام أساسه، حين يرى من كان يعيش في بذخٍ يومًا ما، يتجرد الآن من كل الترف، ويتشح بأجنحته ويستعد لقبول الفقر والجوع والصعاب والأخطار والذم والذبح وكل شيء رهيب، يستطيع – إذا عاين كل هذا – أن يكتشف أمور الزمان العتيد، المستقبل الأبدي، لكن إن كنا ننغمس في أمور الزمان الحاضر، وننزلق فيها أكثر فأكثر لا يقتنع الآخرون بأننا مرتحلون في عجالة إلى وطن آخر.
فما هو عذرنا بعد إن لم نعش في مخافة الرب كما يليق، مثلما ساد مجد البشر بين فلاسفة الأمم. إذ تخلى بعضهم عن ثروتهم، واحتقروا الموت، ولكن كان غرضهم التباهي أمام الناس، لهذا كان رجاؤهم باطلاً.
فما العذر الذي ينجينا إذن، رغم عِظَم الأمور الموضوعة أمامنا، ورغم المبدأ السامي لإنكار الذات المتاح لنا نجد أنفسنا عاجزين حتى عن إتيان ما أتوه هم من أعمال، بل ونُهلك أنفسنا والذين معنا؟
خطأ المسيحي أخطر من خطأ الأممي
لأن الأممي (الوثني) إذا ارتكب خطية لا يقع عليه ضرر كبير، مثلما يخطئ المسيحي بنفس الخطية. فالأمم أصلاً قد فقدوا أخلاقياتهم، لكننا وبنعمة الله مكرَّمون ومطوَّبون بين الأشرار. لهذا إذا تقولوا علينا شرًا، وزاد كلامهم الشرير علينا إلى حد كبير، ونادوا علينا في تهكم مرير ساخرين: “يا مسيحي”، فإنهم ما كانوا يستعملون هذا النداء التهكمي لو توفرت لديهم سرًا فكرة سديدة عن عقيدتنا.
ألم تسمعوا كيف أن السيد المسيح قد أوصى وصايا عظيمة وكثيرة؟ فمتى تقدرون أن تنفذوا إحدى هذه الوصايا، هل وأنتم عازفون عنها كلها، منصرفون إلى اللهث وراء اللذة، متكالبون على جمع أموال الربا الفاحش، جالسون عند عتبات الصفقات التجارية متاجرون في قطعان العبيد، جامحون في دأب للتحف الفضية، مبتاعون بيوتًا وحقولاً وبضائع لا نهاية لها؟
وكنت أتمنى أن يكون هذا كل شيء، ولكنكم حين تضيفون إلى هذه المساعي التي لا لزوم لها، ظلمًا ونهبًا بإزالة علامات الأراضي واغتصاب بيوت الناس بالعنف، تعملون على تفاقم الفقر وازدياد حالات الجوع. فمتى تقدرون أن تثبِّتوا أقدامكم على هذه الأعتاب؟
لا تنتظروا المكافأة مني!
13. لكنكم ترحمون المساكين أحيانًا: أعرف ذلك مثلما تعرفون أنتم – لكن حتى هذا المسلك سيئ أيضًا – لأنكم تفعلون ذلك إما من باب الكبرياء أو المجد الباطل، فلا تنتفعون حتى بأعمالكم الصالحة، فأي حال أتعس من حالكم هذا، إنكم تحطمون سفنكم وأنتم في مرفأ الأمان. فإن فعلتم صلاحًا وأردتم منع ذلك، لا تنتظروا مني شكرًا لأن الله هو المدين لكم. إذ يقول: “اقرضوا الذين لا ترجون أن تستردوا منهم” (قابل لوقا 6: 34).
فإن كان الله هو المدين لكم، فلماذا تتركونه وتطالبونني أنا المسكين المائت بهذا الدين؟
ماذا؟ إن الله يُسرّ أن تأخذ الدين منه فهو ليس بالفقير، ولا الرافض أن يفي بالديون. ألا ترون عظم كنوزه الفائقة الوصف؟
ألا تنظروا سخاءه الذي لا يُنطق به؟
تمسكوا إذن بطلب الدين منه، فإنه من غير اللائق أن نتركه ونطلب سداد الدين من آخر سواه، فإنه يرى فيما تفعلونه خطأ، وكأنه يقول لكم: لماذا تفعلون هذا وبأي جحود تتهمونني، هل تزعمون أنني فقير؟ حتى إنكم تعتزمون أخذ الدين من آخرين؟ فهل تقرضون (الله الواحد) ثم تطلبون من آخر أن يسدد هذا القرض؟ لأنه رغم أن الإنسان هو الذي أخذ القرض، فإن الله هو الذي أوصاكم أن تعطوه، ومشيئته أن يكون هو المدين بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وفي الحقيقة، إن الرب يعطيكم أضعاف أضعاف الفرص لاسترداد الدين منه في كل حين وفي كل مكان. فلا تدعوا هذه الفرصة السانحة تضيع منكم هكذا بسهولة، ولا تبددوا هذا السخاء الوفير طالبين الدين ممن لا يملكون شيئًا. فلأي غرض تظهرون رحمتكم بالمساكين؟ ماذا؟ ألم أكن أنا الذي قلت لكم أعطوا، ألم تسمعوا ذلك مني، أن تستردوا عطاياكم مني أنا، ألم أقل “من يرحم الفقير، يقرض الرب” (أم 19: 17) وأنتم قد أقرضتم الله، فضعوا هذا الدين على حسابه، حتى لو لم يسدد لكم الدين كله الآن، حسنًا، إنه إنما يفعل ذلك لخيركم أيضًا. فيا له من مدينٍ، ليس ككثيرين يرغبون هكذا ببساطة أن يردوا ما اقترضوه من دين، بينما الرب يدبر كل شيء، لاستثماره في أمانٍ لأنه قرض مُعطى للرب. لهذا كما ترون يسدد بعضه هنا ويؤجل الدين للبعض الآخر.
لا تجبن عن أن تنقذ إنسانًا الظالم والمظلوم
14. وإذ نعلم هذه الأمور، فلنرحم بسخاء ووفرة، ولنقدم دليلاً على محبتنا الكثيرة للإنسان باستخدام أموالنا تارة، وأفعالنا تارة أخرى، فإن رأينا إنسانًا تُساء معاملته ويتلقى الضرب في ساحة السوق، فإن كنا نقدر على سداد الدين عنه فلنفعل. وإن كنا نقدر بالكلمات وباللسان أن نفض المشاجرة، فلا نجبن. فحتى الكلمة لها مكافأة، وما أكثر الكلمات التي ترفع التنهدات، حسبما يقول المطوَّب أيوب: “ألم أبكِ لكل متعثر، ألم أتنهد حين رأيت إنسانًا في ضيقة” (أي 30: 25).
لكن إن كانت هناك مجازاة للدموع والتنهدات، وللكلمات أيضًا، والاجتهاد الدؤوب وأعمال أخرى نضيفها، تكون المكافأة عظيمة جدًا. أجل، إذ كنا نحن أيضًا أعداءً لله، فصالحنا الابن الوحيد، طارحًا نفسه في الوسط متلقيًا عنا الجلدات والضربات ومحتملاً الموت لأجلنا.
فلنفعل نحن مثله، فنجتهد أن نخلصهم من شرور أصابتهم بغير حصر، وليس كما نفعل الآن، حين نرى البعض يمزقون ويضربون بعضهم أعمال، فنقف مكتوفي الأيدي. نتلذذ باحتقار الآخرين، صانعين حلقة “فرجة” شيطانية حولهم. إنه مشهد في منتهى القسوة حين ترون أشخاصًا يتخاصمون ويتنازعون، ويمزقون بعضهم بعضًا ويقطعون ملابسهم، ويلكمون وجوه بعضهم بعضًا، ورغم ذلك تحتملون مشاهدة هذا الشجار في هدوء؟ ما هذا؟ هل الذي يتصارع أمامكم دب؟ حيوان مفترس؟ حيَّة؟ إنه إنسان، شريك لكم في كل شيء، أخوكم في عضويته معكم (قابل أف 4: 25). فلا تقفوا متفرجين، بل فضوا المشاجرة، لا تتلذذوا بها، بل بالحري فرقوا المتجمهرين.
إن المتلذذين بهذه الفرجة هم من السادة والعبيد، يرفضون شركة المصالحة لأسباب واهية، أقول لكم هل إذا رأيتم إنسانًا يسلك بعدم لياقة، لا يعنيكم سلوكه – وكأن الأمر لا يعنيكم – ألا تتدخلون وتمزقون قوات الشيطان وتضعون حدًا لمشقات مثل هذا الإنسان؟
ورُبَّ سائلٍ: “ربما تلقيت أنا نفسي بعض اللكمات”، هل هذا هو تبريرك لعدم مشاركتك؟ ألا تقبل هذه المعاناة أيضًا. ألا تعلم أنك إذا احتملت آلام الآخرين، حُسب احتمالك هذا نوعًا من الاستشهاد. لأنك تتألم لأجل الله. فإن كنت متباطئًا في تلقي الضربات تذكر أن ربك لم يبطئ في تحمل آلام الصليب لأجلك. فالمتنازعون سكارى يسيرون في ظلمة، قد أعمى الغضب مشاعرهم، فسادَ عليهم وطغى، يحتاجون إلى سليم العقل ليساعدهم. ففاعل الشر والواقع عليه الأذى، كلاهما في حاجة إلى عون وتقويم: الأول حتى يكف عن شره والثاني حتى نخلصه من آلامه ومعاناته.
اقتربوا إذن، مدوا أيديكم أيها المنتبهون لنفوسكم لمساعدة ذلك الغافل كالسكير لأنه تحت سيطرة غضب أخطر من سكر الخمر. ألا ترون البحارة حين يواجهون حادثة تحطم سفينتهم، يفردون قلاعهم ويستعدون بأقصى سرعة لإنقاذ زملائهم من نفس المهنة من خطر الأمواج العاتية، فإن كان أبناء المهنة الواحدة هكذا يهتم بعضهم ببعض، فكم بالأكثر يكون واجب المشتركين في نفس الطبيعة أن يفعلوا كل هذه الأمور، لأننا هنا أمام سفينة محطمة فعلاً، تتعرض لخطر أكبر من ذاك، أمام إنسان تحت ثورة الغضب والاستفزاز يجدف ويلعن، ويطرح كل شيءٍ ويلقيه أرضًا، أو تحت ثورة الغضب يحلف كذبًا، وهو طريق يقود إلى جهنم. أو أن يضرب ضربته ويقترف جريمة القتل، فنراه كالذي يعاني من حطام سفينته.
انطلقوا إذن وضعوا حدًا للشر، أنقذوا الغرقى. حتى إذا نزلتم إلى أعماق الأمواج الهائجة تحطمون مسرح الشيطان، وتعزلون كل واحدٍ بمفرده، وتنصحونه أن يخمد نيران الغضب وأن يهدئ من ثورة أمواجه.
وحتى إن بَدت كومة النار مشتعلة بنار شديدة، وبدأ الأتون مشتعلة بضراوة، لا تخافوا ولا تفزعوا! لأن معكم كثيرين يهرعون لمساعدتكم. فابسطوا أيديكم وأنتم في بداية النزاع، وإله السلام يكون معكم قبل كل شيء. فإن بدأتم في إخماد النيران أولاً، فإن كثيرين آخرين أيضًا سيحذون حذوكم وتنالون أنتم مكافأة أعمالهم الحسنة. اسمعوا السيد المسيح وهو يوصي اليهود والذين كانوا يزحفون علي الأرض لنجدة حمار: “إذا رأيت حمار عدوك واقعًا تحت حمله لا تعدل عنه، بل ارفعه” (خر 23: 5).
وعليكم أن تدركوا أن الفصل بين شخصين متنازعين ومصالحتهما، لهو أهون كثيرًا من حمل حمار ساقط. فإن كان لزامًا علينا المساعدة علي رفع حمار عدوّنا، فكم بالأحرى نفوس أصدقائنا، وكم بالأحرى يكون سقوط المتخاصمين عظيمًا لأن أولئك لا يسقطون في الأوحال – بل في نيران الجحيم – غير حاملين أثقال غضبهم، فأنتم حين ترون أخاكم ساقطًا تحت الثقل والشيطان واقف بجواره يزكي نيران الكوة، فإنكم تجرون هاربين، في قسوة وبلا رحمة.
وهو تصرف ليس من الأمان فعله، حتى إن اختص الأمر بضرر واقع علي حيوانات ضارية، فالسامري الصالح حين رأى إنسانًا جريحًا لا يعرفه ولا يمت له بصلة قرابة لا من بعيد ولا من قريب، وقف وحمله علي حمارٍ، وأتى به إلي بيتٍ، إلى حانةٍ، واستأجر طبيبًا، وأعطاه بعض النقود ووعده بالمزيد، أما أنتم فترون إنسانًا لا يسقط بين لصوص، بل بين براثن عصابة من الشياطين قد استشاطوا غضبًا، وليسوا في برية، بل في وسط ساحة ولستم مضطرين إلى دفع نقود لفض النزاع، ولا إلى استئجار حمار، ولا أن تأتوا به عبر طريق طويل، بل أن تقولوا فقط بضعة كلمات: فهل تحجمون عن فعل ذلك؟ هل تمتنعون وتفزعون في قسوة وبلا رحمة؟ هل تظنون أن الله ليس هو صانع الخيرات؟
كيف انقلبتم إلى حيوان مفترس؟
15. لكن دعوني أخاطبكم فإنكم تجلبون علي أنفسكم الخزي هكذا علنًا، وأن أخاطب كل من يسلك سلوكًا مزريًا تشوبه الأخطاء. هل توجهون اللكمات؟ اخبروني، وهل تركلون بالأرجل وتعضون غيركم؟ هل أصبحتم خنزيرًا بريًا متوحشًا أو حمارًا بريًا؟ ألا تخجلون من أنكم انقلبتم إلى حيوان مفترس، وأنكم تخونون شرفكم الخاص؟ فبالرغم من أنكم فقراء، فأنتم أحرار. وبالرغم من أنكم أُجراء فأنتم مسيحيون.
كلا! بل لأنكم فقراء وجب عليكم أن تكونوا مسالمين، لأن التقاتل من طبع الأغنياء لا الفقراء. فإن الأغنياء أكثر من سبب يدفعهم إلى الصراع، أما أنتم فلا تعانون من ملذات الغنى، ولكنكم تنشغلون بجمع شرور الثروة والعداوة والمنازعات فتخنقون أخاكم من حلقه، وتحاولون شنقه، وتطرحونه أرضًا هكذا علنًا أمام الناس جميعًا، أفلا تظنوا أنكم بهذا تجلبون الخزي علي أنفسكم حينما تقلدون نزعة العنف عند البهائم، بل هذا أسوأ إذ تشتركون معًا في صفات وسلوكيات القطيع من فوضى ومشاجرات وصراعات ومنافسات وعداوة وإهانات، فلا نوقر السماء التي تتجه إليها دعوتنا جميعًا، ولا الأرض التي وهبها الرب لنا كلنا مجانًا بلا ثمن، ولا نُكرم طبيعتنا كبشرٍ، بل نغضب حين يكتسح حب المال كل ما نملك.
ألم تروا الذي ملك المواهب بغير حصر ولكنه مدين، وحينما سومح عن ذلك الدين خنق الخادم زميله بسبب مبلغ زهيد (مائة وزنة)، وكان شره عظيمًا فعوقب عقابًا أبديًا. ألا ترتعدون من هذا المثل، ألا ينتابكم خوف خشية أن يقع عليكم نفس الأمر، لأننا نحن أيضًا مدينون لربنا بديون هذا عددها، ومع ذلك فإنه يسامحنا ويتأنى طويلاً ولا يضايقنا، مثلما نفعل مع أتباعنا ورفقائنا، فلا يخنقنا ولا يمسك برقابنا، بل يسعى ليصلح فينا ولو أصغر عضوٍ أفسدناه.
اعفوا عن المدينين!
16. هيا أيها الأحباء – ونحن مفتكرون في هذه الأمور – أن نتواضع وأن نكون شاكرين للمدينين إلينا. لأننا إن عاملناهم برفق، تصير لنا فرصة اغتنام صفح وخير. وإذ نعطي قليلاً، نأخذ كثيرًا.
فلماذا نلجأ إلي العنف؟ رغم أن الآخرين مستعدون للسداد، بينما في استطاعتكم مسامحتهم لنوال كل الدين من الله. لكنكم تلجأون الآن إلى العنف والمخاصمات الكثيرة، فلا تسامحون فيما لكم من ديون. وتفتكرون في احتقار جيرانكم فيقع السيف علي رقابكم أنتم، وتزداد عقوبتكم في الجحيم، بينما لو أظهرتم جميعًا قليلاً من ضبط النفس هنا لجعلتم حسابكم يسيرًا. لأن الله يريدنا حقًا أن نكون أُمناء في هذا النوع من الخير، ليكافئنا بزيادة في حينه.
فإن كان لكم كثيرون مدينين بمالٍ أو بتعديات، أسقطوها كلها، واطلبوا من الله أن يعوضكم عن شهامة أعمالكم، لأنهم إن ظلوا مدينين لكم طويلاً، يكون الله أيضًا مدينًا لكم، لكن إن أطلقتموهم تحتجزون الله لديكم، وتطلبون منه التعويض العظيم المقدار عن ضبط النفس.
لأنه إن افترضا أن إنسانًا جاء وراءكم وأنتم تلقون القبض علي أحد المدينين لكم، وطلب منكم أن تعتقوا وتأخذوا الدين منه شخصيًا، مظهرًا أنه عادل يريد نقل حساب الدين عليه، فكيف لا يقدر الله أن يعوضنا مئة ضعف، بل أكثر من هذا بكثير لأجل وصيته، إن كان أحد مدينًا لنا ولم نشتكيه مهما كانت قيمة الدين كبيرة أو صغيرة، بل نعفيه من كل ما عليه من ديون؟
فلا تفكروا إذن في تلك الفترة الوقتية التي تنالونها حين تسوُّون ديونكم، بل بالحري، نفكر في فداحة الخسارة التي نتكبدها في الحياة الأخرى، فنؤذي نفوسنا بشدة فيما يخص الأمور الأبدية. ولكن إن ارتفعنا فوق الجميع، فلنسامح الذين يجب عليهم سداد الديون لنا، من أموال أو إساءات حتى نجعل من حسابنا حساب صفح وتسامح.
وما لا نقوى على فعله بالفضيلة، نناله إذا كنا لا نحمل أية ضغينة ضد أحد جيراننا، فننعم بالبركات الأبدية، بنعمة ومحبة ربنا يسوع المسيح للإنسان، الذي له المجد والقوة الآن وكل أوان وإلى دهر الداهرين آمين
العظة السادسة عشرة
3. الناموس القديم وناموس ربنا يسوع المسيح
“لا تظنوا إني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء” [ع17]
لماذا يقول ذلك؟ هل ارتاب أحد في الرب؟! أو من اتهمه حتى يدفع عنه هذا الاتهام؟ وهل ساور الناس الشك بسبب ما قيل قبلاً. كيف هذا؟ وهو يوصي الناس بالوداعة والتواضع والرحمة ونقاوة القلب والجوع والعطش لأجل البرّ. فهل يدل ذلك على مثل هذا الشك، أم أن العكس هو الصحيح، ولأي سبب يا ترى يقول ذلك؟ هناك سبب جدٍ معقول:
فهو مزمع أن يشرِّع لوصايا أعظم من وصايا العهد القديم قائلاً: “قيل للقدماء لا تقتل، أما أنا فأقول لكم لا تغضبوا”، وحتى يمهد لهم الطريق إلى حديث إلهي سماوي، وحتى لا تضطرب نفوس السامعين لغرابة ما يسمعونه ولئلا يتمردوا ضد ما يقوله، اتبعَ هذه الوسيلة ليعدهم إعدادًا جيدًا سلفًا.
فعلى الرغم من أنهم لم يكملوا الناموس فإن وعيهم مسودٌ من الناموس تمامًا. وبينما يقاومون الناموس كل يوم، كانوا يتمسكون بحرفيته، ولا يبدلونه أبدًا. وحتى لا يضيف أحد إليه أي شيء جديد، فإنهم ربما كانوا يدفعون رؤساءهم أن يضيفوا المزيد لا للأفضل بل للأسوأ. لأنهم هكذا اعتادوا أن يتخلوا عن الكرامة اللائقة بآبائنا بإضافاتٍ من عندهم، بل كانوا يتحررون من كثير من الأمور الموصى بها (مر 7: 11–13)، بإضافات في غير محلها. ولأن المسيح في المقام الأول لم يكن من السبط الكهنوتي، ولأن الأمور التي كان مزمعًا أن يقدمها كانت بمثابة إضافات، لا تقلل بل تزيد من الفضيلة، وإذ كان يعلم بسابق علمه أن تلك الأمور ستزعجهم، وقبل أن يدوِّن في أذهانهم هذه القوانين العجيبة، طرح أولاً ما تراكم عندهم من أمور ماضية، فما هو ذلك الشيء الراكد الذي كان يشكل عقبة؟
2. لقد ظنوا أنه يتكلم هكذا بغرض إلغاء أو نقض القوانين القديمة، لهذا راح يعالج شكهم هذا في كل مناسبة. فحين حسبوه مقاومًا لله، إذ بحسب ظنهم لم يحفظ السبت، وحتى يعالج ارتيابهم فيه كان يعلل ما يقول بأسباب تليق بشخصه وطبيعته مثلما يقول: “أبي يعمل… وأنا أعمل” (يو 5: 17)، وبعض أعماله تلك كانت أعمال تنازل وعطف، مثلما كان يأتي بالخروف الضال في يوم سبت (مت 12: 11) مشيرًا إلى أن عمله هذا لا يؤثر في حفظ السبت، فذكر لهم الختان كأمر له نفس التأثير (يو 7: 23).
حرصه أن يزيل كل لَبس لديهم أنه مقاوِم لله
لذلك نجده في أحوال كثيرة ينطق بكلمات أدنى من مرتبته، ليزيل كل لَبس لديهم أنه مقاوِم لله. ولهذا السبب فإن الذي أقام آلاف الموتى بكلمة واحدة منه، وحتى قبل أن ينادي على لعازر من القبر، صلى، ولئلا يظهر لهم وكأنه أدنى من الآب، وحتى يصحح هذا الشكل أضاف “قلت ذلك… لأجل هذا الجمع الواقف ليؤمنوا أنك أرسلتني” (يو 42: 11)، ولم يكن يعمل كل الأعمال كواحدٍ يعملها بقدرته الذاتية، حتى يقوِّم ضعفهم بشكل صحيح، ولا كان يفعل كل شيء بالصلاة، لئلا يترك في قلوبهم ارتيابًا شديدًا من جهته، وكأنه مجرد من القوة والسلطان، وكان يمزج هذا بذاك. بحكمة لائقة بشخصه، لأنه وهو يصنع الأعمال العظيمة بسلطانه كان يرفع عينيه نحو السماء.
هكذا حين كان يغفر الخطايا، ويعلن عن أسراره، ويفتح الفردوس ويطرد الشياطين، ويطهر الأبرص ويقيد الموت، ويقيم الموتى بالآلاف. كان يفعل كل ذلك بسلطانه وأمره، لكنه في أمور أقل من هذه بكثير حين كان يبارك الخبزات القليلة لتصبح كثيرة بوفرة، كان يرفع عينيه إلى السماء مشيرًا إلى أنه لم يكن يفعل ذلك عن ضعف، لأن الذي يقدر أن يحقق عظائم الأمور بسلطانه، كيف يصلي في الأمور الأقل؟ ومثلما كنت أقول لكم أنه يفعل ذلك ليخرس خزيهم، وأنا أطلب منكم نفس الشيء حيال كلماته عن الأمور الصغيرة. ومن حيث كلامه أو أعماله فإن هناك أسبابًا كثيرة نُعللها.
فمثلاً لا يليق بنا أن نعتبره غريبًا عن الله من حيث تعليمه وانتظاره للناس كلهم، ومن حيث تعليمه التواضع. ومن حيث أخذه جسدًا، وعدم قدرة اليهود سماع كل ذلك في الحال، وتعليمه لنا ألا نتحدث عن أنفسنا بكبرياء، ولهذا السبب عينه كان في كل الأوقات يتكلم بتواضع عن نفسه، أما عظائم الأمور فكان يترك للآخرين مهمة الحديث عنها. و في حديثه إلى اليهود والرد علي مجادلاتهم كان يقول: “قبل إبراهيم أنا كائن” (يو 8: 58).
أما تلميذه فكتب يقول: “في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله” (يو 1:1). وأيضًا هو نفسه الذي خلق السماوات والأرض والبحر، وما يُرى وما لا يُرى، فإنه لم يكن يعبر شخصيًا أو بذاته عن ذلك في أي موضع، لكن تلميذه كان يقولها بصراحة، ولم يخفِ شيئًا، وكان يؤكد ذلك المرة تلو المرة أن: “به كان كل شيءٍ، وبغيره لم يكن شيء مما كان، وأنه كان في العالم وكُوِّن العالم به” (يو 3: 1-10).
ولا نتعجب أن كثيرين آخرين قالوا عنه أمورًا أعظم من التي ذكرها هو عن نفسه في كل الأحوال. فما أظهره بأعماله وكلامه لم يجاهر به علانية. فالذي خلق كل البشر أظهر ذلك بكل وضوح مع المولود أعمي، لكن في حديثه عن خلقتنا في البدء لم يقل أنا صنعت بل قال: “الذي خلق من البدء، خلقهما ذكرًا وأنثى” (مت 19: 4). والذي خلق العالم كله بكل ما فيه من موجودات، أظهر ذلك باستخدامه الأسماك والخمر. والأرغفة (أرغفة القمح) وإسكات البحر وشعاع الشمس الذي سلطه علي عود الصليب، وأمور أخرى كثيرة لكنه لم يقل ذلك صراحة في أي موضوع تكلم فيه. مع أن تلاميذه ظلوا يعلنون ذلك باستمرار. هكذا فعل يوحنا وبولس وبطرس. وهم الذين كانوا يسمعون عظاته ليل نهار. ويرونه وهو يصنع المعجزات، وهم الذين شرح لهم الرب كل شيء علي انفراد ووهبهم قوة عظيمة لإقامة الموتى، وجعلهم كاملين، حتى تركوا كل شيء لأجله وتبعوه. فإن هؤلاء وحتى بعد أن مارسوا أعظم الفضائل في إنكار ذات، ولم تكن لديهم القدرة علي الشهادة بذلك، قبل حلول الروح القدس عليهم، فكيف يمكن لليهود العديمي الفهم البعيدين كل البعد عن هذا السمو، أن يقتنعوا بكلامه، ولا يزعمون أنه غريب عن الله، وهم كانوا حضورًا بلا ترتيب وعن غير قصد حين كان يقول أو يفعل شيئًا. إن لم يكن قد قصد هو عمليًا أن يمارس التواضع في كل حين، وكان تواضعه عظيمًا.
وعلى هذا الأساس نرى حتى وهو يبدو لهم أنه يكسر السبت، لم يأتِ بمثل هذا التشريع وكأنه عن عمدٍ مقصودٍ، بل يضع معه العديد من الأسانيد للدفاع عن الحق، فحين كان يوشك أن يلغي وصية ما، كان يتحفظ كثيرًا في كلامه حتى لا يربك السامعين. بل أكثر من ذلك أنه حين كان يضيف إلى الناموس السابق، تشريعًا أو قانونًا آخر كان يريد أن يظهر منتهى الانضباط، والانتباه، وليس فقط بغرض إنذار سامعيه، ولهذا السبب عينه، لا نراه يعلِّمُ في أي مكان بوضوح حول لاهوته، لأنه إن كانت إضافته للناموس تحيرهم كثيرًا – وهذا مؤكد – فكم بالحري إعلانه عن نفسه أنه هو الله.
3. لهذا السبب، نطق المسيح بأمور كثيرة، أدنى بكثير من الكرامة التي تليق به. وهنا وإذ يوشك أن يضيف إلى الناموس، أدخل عددًا وفيرًا من التصحيحات مسبقًا، فهو لم يقل إنه “لا يريد أن ينقض الناموس” مرة واحدة وكفى، بل كان يكرر هذا القول مرات عديدة، بل وأضاف شيئًا آخر أعظم، فعند قوله: “لا تظنوا إني جئت لأنقض”، أردف قائلاً: “ما جئتُ لأنقض بل لأكمل”، وهكذا أوقف عناد اليهود وسد أفواه الهراطقة الذين يقولون إن العهد القديم هو من الشيطان. لأنه إن كان المسيح قد جاء ليحطم طغيان إبليس، فكيف يبيد القديم، بل أن يكمِّله. لأنه لم يقل فقط: “أنا لا أنقضه” وكان يكفيهم هذا القول، بل يقول “بل لأكمل” وهي كلمات إنسان لا يناقض نفسه بل بالحري لديه كل الثقة فيما يقول. ورب سائلٍ: وكيف لا ينقضه؟ وما البرهان على أن الرب قد أكمل بالأحرى كلاً من الناموس والأنبياء!
قد أكمل الرب الأنبياء بقدر ما أكمل من أعمال أيدت كل ما قيل عنه “بالأنبياء”، حيث اعتاد الإنجيلي أن يقول في كل ما يجرى بواسطة الرب، “لكي يتم ما قيل بالأنبياء” وذلك حين وُلدِ (مت 1: 22-23)، وحين ترنم الأطفال له الترنيمة العجيبة عندما امتطى ظهر الأتان (مت 21: 5–16). وفي مناسبات عديدة أكمل أمورًا سبق التنبؤ بها والتي لم تكن لتتحقق كلها لولا مجيئه في الجسد0
أما الناموس فقد أكمله بعده طرق: إنه لم يتعدَّ أية فريضة في الناموس، بل أكمل الناموس كله0
اسمعوا ما يقوله ليوحنا المعمدان “يليق بنا أن نكمل كل برّ” (مت 3: 15) ويقول لليهود أيضًا “من منكم يبكتني على خطية” ( يو 8: 46) ويقول لتلاميذه كذلك “رئيس هذا العالم يأتي وليس له فيِّ شيء” (يو 14: 30) وقال النبي عنه منذ القديم: “أنه لم يعمل خطية” (إش 53: 9). وهذا كله جانب واحد من جوانب إكماله للناموس.
أما الجانب الآخر فقد أتم الناموس فينا، وهذا هو العجيب في أنه ليس هو نفسه فقط الذي أكمله، بل منحنا هذا بالمثل. وهو ما يعلنه بولس الرسول قائلاً: “لأن غاية الناموس هي المسيح للبرّ لكل من يؤمن” (رو 10: 4)، وقال أيضًا: “دان الخطية في الجسد، لكي يتم حكم الناموس فينا، نحن السالكين ليس بحسب الجسد” (رو 3: 8-4)، ثم قال: “أنبطل الناموس بالأنبياء، حاشا، بل نثبت الناموس” (رو 3: 31) لأن الناموس كان يهدف إلى أن يتبرر الإنسان، ولما لم تكن له القدرة على ذلك، جاءنا الرب عن طريق الإيمان، فأسس ما أراده الناموس وما لم يستطعه الناموس حرفيًا، أتمه المسيح بالإيمان، وعلى هذا الأساس يقول: “لم آت لأنقض الناموس”.
4. لكن إذا سأل إنسان بإمعان أكثر، فسنجد معنى آخر في سياق الأمر، خاص بقول المسيح: “ما جئت لأنقض بل لأكمل”، فما هو هذا المعنى وما هو مفهوم الناموس المستقبل الذي يوشك المسيح أن يسلمه لهم؟ لأن أقواله لم تكن نقضًا للسابق، بل امتدادًا له حتى الكمال، فمثلاً وصية “لا تقتل” لم ينقضها بقوله “لا تغضب” بل أكملها بالحري، إذ وضعها في صيغة أكثر أمنًا. وهكذا الحال بالنسبة للوصايا الأخرى.
هكذا ترون أنه كما سبق وطرح بذار التعليم دون ما شك، حتى إذا ما جاء الوقت الذي فيه يقارن بين الوصايا القديمة والجديدة ويتعرض للشبهة أنه وضعها متناقضة! فقد سبق فوضع النتيجة النهائية لصياغة الوصية القديمة بعد تكميلها بالجديدة، فقد نشر الرب قبلاً هذه التعاليم ٍبشكل سري مخفي: فمثلاً عندما قال: “طوبى للمساكين” كانت هي نفسها – وإن كانت بصورة أخرى – عندما طالبنا أن لا نغضب. و”طوبى لأنقياء القلب” تعادل “لا تنظر إلى امرأة وتشتهيها في قلبك”، ووصية النهي عن “كنز كنوزنا في الأرض” تتطابق مع “طوبى للرحماء”. فالحزن وقبول الاضطهاد والطرد والتعيير تتفق كلها مع “الدخول من الباب الضيق”، و “الجوع” و “العطش” من أجل البرّ هو نفس ما قاله الرب فيما بعد: “كل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوه أنتم أيضًا بهم” (مت 7: 12).
وعندما أعلن الرب “طوبى لصانعي السلام” كان يعني نفس الشيء عندما أوصى أن يترك المسيحي “قربانه على المذبح” ليتصالح مع أخيه الذي أحزنه، وأن “يتراضى مع الخصم”.
وإذا كان في بداية عظته قد بدأ بوضع المكافأة لمن يعملون الصلاح، فكما قال في ذلك الموضع: “الودعاء يرثون الأرض” هكذا هنا يقول: “من قال لأخيه يا أحمق يكون مستوجب نار جهنم” وهناك قال: “أنقياء القلب يعاينون الله” وهنا يعتبر كل من نظر نظرة شهوانية بغير تعفف زانيًا بالفعل. وإذ قال هناك “إن صانعي السلام يدعون أبناء الله” فإنه يحذرنا هنا من خطر الوقوع في يدي الخصم لئلا يسلمنا إلى الحاكم.
وهكذا أيضًا مثلما يبارك ويطوِّب الحزانى والمضطهدين، نراه في المرة التالية وهو يؤسس نفس التشريع، يهدد بالهلاك أولئك الذين لا يسلكون الطريق الضيق، بل يدخلون من الباب الواسع، حيث يلقون في النهاية حتفهم. وحين يقول: “لا تقدرون أن تخدموا الله والمال” يؤكد نفس المعنى السابق في قوله “طوبى للرحماء” و “طوبى للعطاش والجياع إلى البرّ”.
وكما قلت، ولأن الرب مزمع أن يوضح تلك الأمور لهم أكثر، بل ولكي يضيف إليها المزيد؛ لأنه لم يعد يطلب من الإنسان أن يكون رحيمًا فحسب، بل طالبنا بالأكثر، أن نعطي ثيابنا، ولا يطلب أن يكون الإنسان وديعًا فحسب، بل أن نحول خدنا الآخر لمن لطمنا على خدنا الأول، لهذا يبدأ أولاً في إزالة أي تناقض ظاهري “لا تظنوا إني جئت لأنقض”، ثم يضيف: “ما جئت لأنقض بل لأكمل”.
تكميل الناموس كله
“فإني الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل” [ع18]. وكأنه يقول هكذا:
لا يمكن أن يبقى شيء ما من أمور الناموس متروكًا هكذا دون تكميل، بل لابد أن يتحقق ولو أدنى شيء فيه، وهو نفس الشيء الذي فاه به هو ذاته وأكمله بنفسه بمنتهى الدقة. وهو هنا يشير سرًا إلى زوال هيئة العالم كله، وتغييرها إلى الأكمل، وإنه لم يقل شيئًا بغير قصد ولغرضٍ سامٍ يقدم على تشريع عهد آخر جديد طالما أن نظام الخليقة كلها سوف يتغير، وهذا شيء لا يقارن بدعوة البشرية كلها إلى وطن آخر جديد تُمارس فيه حياة أكثر سموًا وكمالاً.
5. “فمن ينقض إحدى هذه الوصايا الصغرى، وعلّم الناس هكذا، يُدعى أصغر في ملكوت السماوات” [ع19]
وإذ يخلصهم من شرور الشك ويسد أفواه المعارضين، يستمر في تحذيراته الشديدة تدعيمًا للوصايا المُقدم على تشريعها. وهو يقول ذلك لا نيابة عن النواميس القديمة بل لأجل الذي يخاطبهم من أجل تفاعلهم معها وتحقيق الوصايا الكاملة. فأنصتوا لما يلي:
“فإني أقول لكم إن لم يزد بركم على الكتبة والفريسيين، لن تدخلوا ملكوت السماوات” (مت 5: 20). لأنه إن كان يقصد إلغاء ونقض ناموس العهد القديم، كيف يقول: “إن لم يزد بركم على…” لأن من يفعل نفس ما فعله القدامى لا يمكن أن يكون برّه زائدًا عنهم، فما هو المطلوب؟
ألا نغضب؟!
ألا نشتهي امرأة ما شهوة رديئة؟!
فإنه لأي سبب يا ترى يسمّي تلك الوصايا القديمة “الأصغر” رغم عظمتها وسموها؟ ذلك لأنه هو نفسه كان مزمعًا أن يُظهر لهم تحقيقه لنفس الوصايا. فكما وضع هو نفسه – وكان يتحدث عن ذاته بمقدار – هكذا كان يفعل بالنسبة لما يشرِّعه من قوانين، فحين علمنا أن نتواضع في كل شيء، وإذ استشعر شكًا ما حول هذه الوصية الجديدة، كان يتحفظ في كلامه بعض الشيء. لكن إذا سمعتموه يقول: “الأصغر في ملكوت السماوات” لا تفتكروا في الجحيم والعذابات، لأنه اِعتاد أن يقصد بكلمة “ملكوت” لا التنعم هناك فقط، بل أيضًا ما يحدث في يوم القيامة عند مجيئه المخوف. فكيف يمكن أن يُعقل أن من يدعو أخاه أحمق ويخالف وصية واحدة، ينزل إلى الجحيم؟ بينما من يكسر الوصايا كلها ويخالفها قد يدخل الملكوت؟ كلا، ليس هذا ما يعنيه أبدًا، بل إن مثل هذا الإنسان سيكون بمثابة “الأقل أو الأصغر” في ذلك الزمان. أي يعني أنه سيُطرح في النهاية خارجًا. وبالتأكيد أن الأخير سوف يُطرح في الجحيم: لأن السيد المسيح هو نفسه الله الذي يعرف بسابق علمه رخاوة الكثيرين، ويعرف مسبقًا أن البعض سوف يظنون أن أقواله مغالى فيها!
ولهذا هم يجادلون في الناموس قائلين:
ماذا لو أن أحدًا دعا آخر يا أحمق، هل يُعاقب؟ وإذا نظر شخص مجرد نظرة إلى امرأة، هل يصبح زانيًا؟ ولهذا السبب عينه، وحتى يستأصل كل تمردٍ على وصاياه، يضع مسبقًا أقوى تحذير ضد كل من يتعدى الوصية فيُعثر الآخرين.
من عمل وعلَّم
وإذ نصرف نحن بما يتحدونا إذا خالفنا وصاياه، فلنكف عن هذه المخالفة. وأن نمتنع عن إحباط همم حافظي الوصايا. والرب يقول: “لكن من عمل وعلَّم، فهذا يدعى عظيمًا في ملكوت السماوات”. لأنه لا يليق بنا أن ننفع أنفسنا فحسب، بل أن ننفع الآخرين أيضًا. لأن من يقود آخرين معه تعظم مكافأته، لأنه مثلما يدين المعلم أن يعلم دون أن يعمل بتعاليمه حسب المكتوب: “فأنت الذي تُعلم غيرك، ألست تُعلم نفسك” (رو 2: 21). هكذا من يفعل ذلك دون إرشاد الآخرين تنقص مجازاته جدًا. وعلى الإنسان إذن أن يكون متميزًا في العمل، لكي يصوِّب نفسه بنفسه، ثم يتقدم برعاية الآخرين وخدمتهم. على هذا الأساس شدد المسيح على العمل قبل التعليم، ليؤكد أنه إن كان هناك من يقدر على تعليم الناس كلهم فلا سبيل أن يفعل ذلك، قبل أن يعمل أولاً بما يعلِّمه. حتى لا يقول له أحد: “أيها الطبيب اشف نفسك” (لو 4: 23).
لأن الذي لا يستطيع أن يُعلِّم نفسه، ومع ذلك يحاول أن يقوِّم آخر سيسخر منه كثيرًا، ولن تكون لهذا الإنسان قدرة على التعليم على الإطلاق، فأعماله تناقض كلامه. لكنه إن كان كاملاً في الأمرين معًا “سوف يُدعى عظيمًا في ملكوت السماوات”.
برَ الناموس
6. “فإني أقول لكم، إنكم إن لم يزد برّكم على الكتبة والفريسيين لن تدخلوا ملكوت السماوات” (مت 5: 20)
يعني الرب بالبرّ هنا كل فضيلة، مثلما كان يتحدث عن أيوب أيضًا فقال: “كان بلا لوم، رجلاً بارًا” (راجع أي 1: 1). وبنفس هذا المعنى، يدعو القديس بولس أيضًا ذلك الإنسان الذي لم يوضع لأجله ناموس بارًا. إذ يقول: “إن الناموس لم يوضع للبار” (1 تي 1: 9). وفي مواضع أخرى كثيرة نجد أن كلمة برّ تشير إلى كل فضيلة عمومًا.
لكن لاحظوا أرجوكم، تسامي النعمة في أن “الرب” يجعل تلاميذه القادمين حديثًا أفضل من معلمي العهد القديم، لأنه يعني “بالكتبة والفريسيين” هنا ليس فقط الذين بلا ناموس، بل فاعلي الصلاح، لأنهم لولا إنهم يعنون الخير ما قال عنهم إن لهم برًا، ولا قارن البرّ الحقيقي بغير الحقيقي.
لاحظوا أيضًا هنا، كيف يأمر بالناموس القديم بعقد مقارنة بينه وبين ناموس آخر حيث يذكر أمورًا تتفق مع نفس السبط ونفس الجنس، حتى يكون تقريبًا على نفس الدرجة، فهو كما ترون لا يجد في الناموس القديم أي خطأ، بل يجعله أكثر حزمًا، لأنه لو كان الناموس القديم شريرًا لما طلب مزيدًا منه، ولا جعله أكثر كمالاً، بل لكان قد نزعه ونقضه. ورُبّ قائل يقول: “فإن كان الناموس بهذا القدر، فلماذا لا يستطيع – أي الناموس – أن يدخلنا الملكوت؟”
نعم لا يقدر الناموس أن يفعل ذلك بعد مجيء السيد المسيح، إذ يصبح الذين يعرفون المسيح أكثر تذوقًا لمزيد من القوة، وأكثر جهادًا لتحقيق مزيد من الصلاح. فكما كان الناموس القديم يصنع بأبنائه السابقين، هكذا الجديد يأتي إلينا بالمسيح الكامل. إذ يقول السيد المسيح: “إن كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب ويتَّكئون مع إبراهيم واسحق ويعقوب” (مت 8: 11). ويقبل لعازر أيضًا الجُعالة العليا، إذ تراه في حضن إبراهيم. وكل الذين أظهروا في التدبير القديم سُموًا ورفعة، يستضيئون بالناموس. فلو كان الناموس شريرًا أو غريبًا عن المسيح نفسه، لما أكمله حين جاء. لأنه لو كان يفعل ذلك لجذب اليهود فقط، وليس لكي يبرهن أنه صاحب الناموس الجديد ومكمله أيضًا، لكان قد تمم نواميس وعادات الأمم ليجذبهم هم أيضًا؟
واضح إذن من كل الاعتبارات أن الناموس فشل في أن يأتي بنا إلى الملكوت، لا لشر فيه أو عيب، بل لأن الوقت الآن هو وقت الوصايا العظمى. وإن كان الناموس أقل كمالاً من الجديد، فليس هذا بسبب شر فيه، وإلا كان الجديد يحسب هذا المبدأ هو شر أيضًا. لأن معرفتنا الآن، إذ ما قورنت بما هو عتيد وآتِ هي في الحقيقة معرفة ناقصة وجزئية، بل وتزول متى جاء الجديد، إذ يقول الرب على لسان بولس الرسول: “متى جاء الكامل فحينئذٍ يبطل ما هو بعض” (1 كو 13: 10). ومثلما يحدث للقديم متى حل الجديد، هكذا نحن أيضًا لا نلوم الناموس الجديد لأنه يدبر لنا أيضًا موضعًا في الملكوت، إذ يقول المسيح: “فحينئذٍ يبطل البعض (أو الجزء)”. لكننا ندعوه عظيمًا لأن المجازاة أيضًا أعظم، والقوة التي يمنحها الروح هي قوة أوفر، وتتطلب أن تكون أعمالنا المُرضية أعظم أيضًا. إذ لم يعد أمامنا الآن “الأرض التي تفيض لبنًا وعسلاً”، ولا العهد القديم المعزِّي والمريح، ولا كثرة النسل والأولاد، ولا القمح والخمر، وقطعان الماشية، بل السماوات بوفرة خيراتها، والتبني الذي لنا بالابن الوحيد، وشركة ميراث المجد والجلوس مع الرب في عرشه. وبتلك المكافآت التي لا حصر لها ولا يُحصى لها عدد، وإذ نقبل عونًا أوفر، فلنسمع بولس الرسول يقول: “لا شيء من الدينونة الآن، على الذين هم في المسيح يسوع، السالكين ليس حسب الجسد، بل حسب الروح…. لأن ناموس روح الحياة… قد أعتقني من ناموس الخطية والموت” (رو 8: 1-2).
الغضب والقتل
7. بعد تحذير الرب للمتعدين علي وصاياه، وبعد كشفه عن المجازاة العظيمة للذين يفعلون الصلاح، وبعد أن أشار إلى أنه يطالبنا بمعايير تفوق تلك المعايير القديمة، يبدأ السيد الرب منذ تلك اللحظة في التشريع لوصايا جديدة، ليس بطريقة مقارنة بسيطة هكذا مع الوصايا القديمة، بل وحتى يحببهم في كلا الأمرين، وحتى لا يتعارض تشريعه مع الناموس السابق، بل بالحري أن يتوافق توافقًا كاملاً. ومن جهة أخرى، أن الوقت كان قد أزف ليضيف وصايا جديدة تكون أكثر وضوحًا. لهذا فلننصت إلي كلمات المشرِّع التي يقولها لنا:
“سمعتم أنه قيل للقدماء لا تقتل” [ع21]
كان الرب نفسه هو الذي شرَّع الوصايا القديمة، لكنه لا يصرح بذلك شخصيًا حتى هذه اللحظة، لأنه لم يقل لهم “سمعتم أنني قلتُ لهم في القديم” حتى لا يصعب هذا القول عليهم، وحتى لا يضع عقبة في طريق سامعيه، ولكنه من جهة أخرى لا يقول لهم “سمعتم أنه قيل للقدماء بواسطة أبي”، ولم يقل أيضًا “ولكنني أقول لكم”، حتى لا يبدو وكأنه يفضل نفسه على الآب أبيه. لهذا يقول ببساطة وفي إيجاز إنه في الوقت المحدد جاء يقول لهم هذه الوصايا. لأنه بعبارة “قد قيل للقدماء” قد أشار إلى المدة الزمنية التي انقضت على استلامهم هذه الوصية، وهو يفعل ذلك ليخزي السامع الذي يحجم عن التقدم إلى المقام الأعلى لوصاياه، مثلما يقول لطفل بطيء النمو وكسول: “ألا تعلم كم قضيت وقتًا طويلاً في تعلم مقاطع الكلمات؟” وهذا ما يفعله بتصريحه سرًا بالتعبير “القدماء”. أما بالنسبة للمستقبل فإننا نجده يجمع كل هذه التعبيرات في رتبة أعلى في توجيهاته، وكأنه يقول لقد تعلمتم هذه الدروس بما فيه الكفاية. وعليكم أن تجاهدوا لتتعلموا دروسًا أعلى منها. وقد فعل حسنًا إذ بدأ بترتيب الوصايا، فقدم أولها والتي بدأ بها الناموس أيضًا. مظهرًا ما بينهم من تناغم: “وأما أنا فأقول لكم: إن كل من يغضب على أخيه باطلاً يكون مستوجب الحكم” (مت 5: 22). فهل ترون هذا السلطان في تكميل الوصايا. هل ترون مثل هذا التأثير الذي يتلائم مع خصال المشرِِّع؟ فمَن من الأنبياء تحدث بمثل هذا قط؟ ومَن من بين الأبرار فعل هذا؟ ومن وسط الآباء؟ لا أحد.
ولكن – وهذا ما يقوله الرب – ليس الابن كذلك. لأنهم إنما كانوا ينشرون وصايا سيدهم، ووصايا أبيه هو، وحين أقول “أبيه” أعني خاصته، إذ يقول المسيح “لأن ما لي هو لك، وما لك هو لي” (يو 17: 10). فإن كان لهم رفقاؤهم يشرّعون لهم، فإن له خدامه وعبيده الأخصَّاء.
فلنسأل الآن أولئك الذين يرفضون الناموس: هل وصية “لا تغضب” تناقض وصية “لا تقتل”؟ أم إن الثانية تتمم الأولى وتكملها؟ بل أن الثانية أعظم من الأولى: لأن من يكتم غضبه لا يسقط في خطية القتل، ومن يكبح لجام الغضب يتحكم في يديه، فالغضب جذر القتل وأصله. وتعلمون أن كل من يستأصل الجذر يستطيع أن ينتزع الأغصان، بل بالحري لا يجعلها تتكاثر أبدًا.
فالرب لم يضع تلك الوصايا لينقض الناموس بل ليكمله. لأن الكيفية التي يوصي بها الناموس هي هذه: إنه ينص على ألا يذبح الجار جاره، لهذا الذي يناقض الناموس هو من يأمر بالقتل. لكنه إن كان يطالب الإنسان ألا يغضب مجرد غضب، يكون قد أكمل فكر الناموس إلى التمام، لأن من يحرص على تجنب القتل، يسعى إلى الامتناع عنه تمامًا، مثلما يفعل كل من يطرح عنه مشاعر الغضب، فيسلم من السقوط في القتل.
8. ولننفذ مزاعمهم أيضًا، علينا أن نأتي بكل ادعاءاتهم، فإن كانوا يزعمون أن الله الذي خلق العالم و “الذي يجعل شمسه تشرق على الأشرار والصالحين. والذي يمطر على الأبرار والظالمين” (قابل مت 5: 4) هو إله شرير! وحتى المعتدلون منهم رغم إنهم يزعمون مثلهم، إلا أنهم رغم تأكيدهم إنه إله عادل وبار، يجردونه من الصلاح. وآخرون من بينهم حتى وإن كانوا لا يزعمون مثلهم، بل يجعلون ما للآب خاصًا بالمسيح، إلا أنهم يزعمون أن ذلك الإله الشرير يبقى على ما هو عليه، ويحفظ خاصته، أما الصالح الآخر فإنه يطلب ما للآخر ويرغب هكذا فجأة أن يصبح مخلِّصًا لأناس لم يخلقهم.
هل ترون كيف ينطق أولاد إبليس بما يتفوه به أبوهم. إذ يجردون الله من فعل الخلق، بينما يصرخ القديس يوحنا قائلاً: “إلى خاصته جاء” و “كُوِّن العالم به” (يو 1: 10–11). وفي موضع آخر، نراهم ينتقدون ناموس العهد القديم، والذي يأمر قائلاً: “عين بعين، وسن بسن” فيرتكبون إهانة صريحة بقولهم “كيف يكون صالحًا من يأمر بشيء مثل هذا؟
ونحن نرد عليهم فنقول “إن في ذلك التشريع أسمى مظاهر محبة الله للبشر” فقد شرَّع هذا القانون، لا لكي يقلع أحدنا عين الآخر، بل حتى تمنحنا خشية أذى الآخرين لنا من إيذائنا نحن لهم. فالله قد هدد أهل نينوى بالغرق، لا بغرض إهلاكهم (لأنه لو كانت تلك مشيئته نحوهم، لما تكلم بل صمت وفعل)، بل فعل ذلك ليجعلهم يصيرون أفضل حالاً بسبب مخافتهم، ومن ثم يُهدئ من غضبه ضدهم. ولهذا أيضًا عيَّن عقابًا ضد الذين يقلعون عيون الآخرين عن عمد، حتى إذا لم يرد عنهم مبدأ الصلاح عن إتيان هذه القسوة، قد يمنعهم الخوف عن إلحاق الأذى بأبصار جيرانهم، فإن كان في ذلك قسوة، فإنه من القسوة أيضًا أن يردع القاتل ويعاقب الزاني.
لكن أقوالهم هي أقوال إنسان عديم الفهم، قد بلغ جنونهم حدًا لا يوصف. فحاشا لي أن أقول إن هذه الوصايا فيها قسوة، بل يليق بي القول إن عكس ذلك يناقض الناموس.
وبحسب مفاهيم الناس، قد تقولون إنه قاسٍ لأنه يوصي أن نقلع عينًا بعينًا وسنًا بسنًا. وأقول إن لم يكن أمر بذلك، لكان بحسب حكم الناس قاسيًا كما تزعمون. ولنفترض زوال مثل هذا القانون، فإن لا أحد أصبح يخشى العقوبة التي يحكم بها مثل هذا التشريع، بل حصل للجميع من الأشرار على ترخيص بالسلوك وفقًا لميولهم الشريرة في أمان، ودون رادع، فشمل الترخيص أيضًا الزناة والقتلة والحانثين بالقسم، وقتلة أبويهم، أفلا ينقلب كل شيء رأسًا على عقب؟ ألن تمتلئ المدن وساحات الأسواق والمنازل والبحار والأرض بل والعالم أجمع بنجاسات وقتل بغير حصر؟ إن الجميع يدركون ذلك، لأنه ورغم القوانين القائمة والخوف الذي يعترينا من جراء التهديد بالعقاب، لا تزال ميولنا الشريرة خفية ودفينة يصعب التكهن بها حتى زال الأمان في وسطنا فلا رادع يمنع رذائل الناس، وعمت الفوضى السلوكيات كلها في العالم أجمع وشمل الخراب الإنسانية كلها، بل بالحري، إن القسوة لا تكمن فقط في السماح للأشرار بفعل ما يشاءون، بل في أمر آخر قد يبدوا أكثر مسالمة من ذلك، هو أن تتغاضى عن الذين لم يرتكبوا شرًا، فنهملهم ونتركهم يتكبدون الآلام والمعاناة هكذا دون سبب.
وإلا فاخبروني أنتم، هل نحشد كل أشرار العالم من جميع ربوع الأرض ونسلحهم بالسيوف، ونأمرهم بالذهاب إلى كل أطراف المدينة وذبح الجميع ممن يصادفونهم في طريقهم. فهل هناك حيوان أكثر افتراسًا من الشخص الذي يفعل ذلك؟ لكن لو كان هناك من يقيد في حزم شديد ويضبط أولئك المسلحين، وأن يكبل أيادي الجزارين، لأصبح هذا التصرف في منتهى الإنسانية.
أريدكم الآن تطبيق تلك الأمثلة على الناموس وبنفس القدر، لأن الذي أوصى “عين بعين” قد آثار فينا الخوف كقيد قوي صارم يكبل نفوس الأشرار الأردياء. وهو يشبه الذي يلقي بالقتلة في السجن، بينما الأبرياء من كل عقاب يسلحهم بالأمان، فيقوم بدور من يجزوهم من السيوف التي في أيديهم حتى لا يفتكوا بكل من في المدينة. أرأيتم أن الوصايا بمنأى عن القسوة، بل هي بالحري تفيد بالرحمة. فإن كنتم على هذا الأساس تدعون المشرِّع قاسيًا يصعب التعامل معه، فاخبروني أي وصية أشد وأقسى من “لا تقتل” أو “لا تغضب”؟ ومن يكون أكثر تطرفًا ذلك الذي ينفذ العقوبة بسبب القتل، أم بسبب مجرد غضب؟ ذاك الذي يعاقب الزاني بعد افتضاح أمره، أم الذي يأمر بالعقوبة بمجرد الشهرة وتدوم منه هذه العقوبة؟
ألا ترون أن تفكيرهم متناقض تمامًا؟ فكيف أن إله العهد القديم الذي يدعونه قاسيًا، يصبح هكذا رقيقًا ووديعًا، وأن إله العهد الجديد، الذي يقرون بصلاحه، يصبح صعبًا ومتشددًا، حسب ظنهم المجنون؟
بينما نؤمن نحن أن المشرِّع لكلا العهدين واحد ولا آخر سواه. وهو الذي شرَّعهما متوافقين معًا بمنتهى الدقة، وجعلهما يتفقان حتى مع اختلاف الزمانين – قديمه وجديده(مفروض ة بدل هيكل)(أو القديم والجديد) – لهذا فلا الوصية الأولى قاسية ولا الثانية مثلها، بل كل الوصايا قد شرَّعتها العناية الإلهية، عناية إله العهد القديم الذي بحسب تأكيد النبي:
“أقطع معكم عهدًا جديدًا، ليس كالعهد الذي قطعته مع آبائكم” (قابل إر 31: 31-32)، وإن لم يقبل بهذا من أصابه مرض بدْعة المانويَّة، فليسمع قول بولس الرسول الذي يذكر نفس الأمر في موضع آخر: “كان لإبراهيم ابنان، واحد من الجارية، والآخر من الحرة”. وكل ذلك رمز؟ لأن هاتين ترمزان إلى العهدين (قابل غلا 4: 22)، ورغم أن الزوجتين مختلفتين، لكن الزوج واحد، هكذا أيضًا فإن العهدين وإن اختلفا، لكن المشرِّع واحد، وحتى نبرهن لكم أنهما من نفس الأصل العادل، فإنه يقول في واحد منهما: “عين بعين” ويقول في الآخر: “من لطمك على خدك الأيمن فحوٍّل له الآخر” (مت 4: 39).
لأنه مثلما كان يكبح جماح المخطئ خوفًا من وقوع الألم على آخرين، هكذا الحال أيضًا في هذه الوصية. فهو حين يأمرنا أن نحوِّل الخد الآخر، يجعلنا نسمح لمن يلطمنا أن يبلغ ذروة غضبه. لكنه لم يقل إن هذا الضارب سيفلت من العقاب، بل بالأحرى، لا تعاقبه أنت في الحال، حتى تثير خوف من يلطمك – إن قاوم – ولتنال تعزية من تلقِّيك هذه اللطمة.
9. وما سبق أن ذكرنا، بخصوص الوصايا، يدفعنا إلى الاستمرار في إكمال الحديث عنها. فلنلتقط أول الخيط في قوله “من يغضب على أخيه باطلاً، يكون مستوجب الحكم” هكذا قال السيد المسيح. والإنسان بحسب طبيعته لا يقدر أن يتحرر تمامًا من الشهوات، فنحن قد نتسلط عليها، لكننا لا نقوى على التجرد منها نهائيًا – فهذا مستحيل – وأيضًا لأن هذه الشهوة نافعة، إن عرفنا كيف نوظفها حسنًا.
فمثلاً دعونا نتأمل الخير الكبير الذي نجم عن غضب بولس الرسول، والذي شعر به تجاه أهل كورنثوس، في تلك الحادثة الشهيرة، وكيف حررهم خوفهم من مأزق شديد، وبنفس الأسلوب استرد شعب غلاطية، الذي كان قد انحرف، فأنقذ آخرين أيضًا معهم، فما هو إذن الوقت المناسب للغضب؟
هو حين لا ننتقم لأنفسنا، وحين نكبح جماح وثورة الآخرين بسبب نزواتهم المخالفة للناموس، وحين نحثهم على السهر واليقظة إذا ما أصمدوا.(صمدوا)
لكن ما هو الوقت الغير مناسب للغضب؟
حين ننتقم لأنفسنا، والذي يحذرنا منه القديس بولس أيضًا: “لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء بل أعطوا مكان للغضب” (رو 12: 19). وإن كنا نعتمد على ذواتنا، فقد حذرنا منها أيضًا واِنتزعها من وسطنا بقوله: “لماذا تُظلِمون بالحري؟ لماذا تُسلِبون بالحري؟ (1كو 6: 7). لأنه مثلما يكون هذا الخير الأخير فائضًا عن الحاجة، هكذا يكون الخير الأول نافعًا وضروريًا. لكن معظم الناس يفعلون النقيض! فصاروا مثل حيوانات مفترسة تؤذي نفسها بنفسها، لكنهم حين يرون الأذى يلحق بالآخرين يسامحون ويجبنون. وكلا الأمرين مناقض لناموس الإنجيل، وأن يغضب الإنسان لا يصنع التعدي، ولكنه إن غضب في غير أوان الغضب (المقدس ) فهذا هو التعدي. لهذا السبب يقول المرنم النبي أيضًا: “اغضبوا ولا تخطئوا” (مز 4: 5 س)
10. “ومن قال لأخيه رقًا” (Raca) يكون مستوجب المجمع” [ع22]
وهو يعني بالمجمع هنا، محكمة العبرانيين، وقد ذكر ذلك الآن، حتى لا يبدو في كل موضع وكأنه غريب أو دخيل.
لكن كلمة “رقًا” ليست من الكلمات التي تسبب إهانة كبيرة، بل بالحري تُظهر بعض الازدراء أو التحقير الخفيف من جانب قائلها، مثلما يحدث حين نصدر أمرًا لخدام البيت أو لأي شخص آخر أدنى رتبة منا، نقول بالعامية: غور من هنا، أو “قل لبني آدم ده” هكذا فإنهم يستخدمون اللغة السريانية فيقولون رقًا وهي لفظة تحل محل الضمير “أنت” لكن الله محب البشر، يريد أن يحذف من قاموسنا حتى أدنى الأخطاء، ويطالبنا بالسلوك اللائق بعضنا نحو البعض، وباحترام واجب، واضعين في الاعتبار التخلص أيضًا من الأخطاء الأكبر “ومن قال يا أحمق يكون مستوجب نار جهنم”، وقد تبدو هذه الوصية عند الكثيرين قاسية ومزعجة. أن نجازي لمجرد كلمة، بمثل هذه العقوبة الجسيمة. ويزعم البعض أن هذا الكلام قيل على سبيل المبالغة أو الغلو. ولكنني أخشى أن تُخدع أنفسنا بهذا الكلام، فنعاني فعلاً من عقوبة شديدة. لأنني أريد أن تخبروني كيف تبدو الوصية ثقيلة الحمل؟ ألا تعلمون أن كل العقوبات ومعظم الخطايا تبدأ من الكلام؟ أجل، فالكلام أصل التجديف، وبالكلام ننكر الله ونخاصم الناس ونوبخ ونحلف باليمين ونشهد بالزور، فلا تقولوا إذن إنها مجرد كلمة قلناها، لا تأثير خطير لها، فهذا ما تودون الاستفسار عنه، فهل تجهلون أنه في وقت العداوة، وحين يشتعل الغضب وتتوقد النفس – فتبدو حتى أقل الأشياء فادحة – ومن غير اللائق التهاون في محاسبة الآخرين علي التوبيخ، فإن تلك الصغائر قد تؤدي إلى القتل وتهلك مدنًا بأكملها.
وإذا كانت أثقل الأمور تبدو في وجود الصداقة خفيفة، فإن أتفه الأمور تبدو غير محتملة في وجود العداوة. ومهما بدت الكلمة بسيطة في ظاهرها، فإن قائلها لابد يقصد معنى شريرًا من قولها، ومثلما الحال مع النار، فإن مستصغر الشرر إذا صادف ألواحًا خشبية تعد بالآلاف لأتى عليها كلها، وإذا اشتد اللهب وارتفع فإنه يحرق الخشب والحجر أيضًا معه وكل ما يصادفه في طريقه، ومهما حاولنا إطفاء النار لازدادت اشتعالاً. ويعلم الجميع أن الخشب والكتان والمواد القابلة للاشتعال، بل والماء نفسه يزيد النار اشتعالاً، هكذا الحال مع الغضب، الذي يجعل الإنسان في لحظة طعامًا للشر المُتسيطر. ومن بين كل الشرور التي ذكرها المسيح، فإنه قد أدان الغضوب بلا سبب، وجعله “مستوجب الحكم” وأن من يقول رقًا يكون مستوجب المجمع (أي المحكمة العليا اليهودية). وهي أمور ليست بالجسيمة إذ يكون عقابها هنا، لكن كل من يدعو الآخر رقًا أو أحمقًا فقد صعد إلى نار جهنم، وهي أول مرة يذكر فيها المسيح لفظة جحيم، فقد تحدث طول الوقت عن الملكوت، حتى جاء ذكر الجحيم هنا، ليشير ضمنًا إلى أن الملكوت هو هبة محبته الخاصة لنا، وعنايته الفائقة بنا، أما الجحيم فهو بسبب إهمالنا.
11. انظروا كيف يتدرج الرب شيئًا فشيئًا في إظهار عقوباته، حتى لا يكون أحد له عذر، وليُظهر أن رغبته الأكيدة ليست في تهديده لنا بالعقوبات، ولا بغرض أن نتهمه بأنه دائم التحذير لنا بلا أدنى سبب، إذ يقول كما تلاحظون: “آمركم ألا تغضبوا بلا سبب، حتى لا تجلبوا الحكم على أنفسكم”. لقد احتقرتم الوصية الأولى (القديمة)، فانظروا ما جلبه الغضب، لقد قادكم على الفور إلى التحذير من الشتيمة، لأنكم تدعون أخاكم “رقًا” مرة أخرى، فها أنذا أحذركم من عقوبتها: وهو “حكم المجمع”، فإن أهملتم هذا وفعلتم ما هو أشد، فإنني لم أنزل عليكم تلك العقوبات المحدودة هنا، بل العقاب الأبدي الذي لا يزول في الجحيم. لئلا تنزلقوا أيضًا إلى القتل، لأنه ما من شيء في العالم أكثر إيلامًا من الإهانة، فهي تؤذي نفس الإنسان إلى أقصى حد، وحين تكون الكلمة المنطوقة أيضًا أكثر إيذائًا وجرحًا من الإهانة، فإن ثورة الغضب تصبح أشد أذى وإيلامًا. فلا تظنوا أن دعوتنا للآخر بالأحمق هي من الأمور الهينة، لأنه إن كان العقل والفهم هو ما يميزنا عن البهائم وهو الذي يجعلنا بشرًا عاقلين مدركين، وإن كنا بنفس هذا العقل نسلب أخانا ونجرده من شرفه، فلنهتم لا بالكلمات وحدها، بل بأمورنا التي تؤثر في مشاعر الآخرين، ولنتأكد أن الكلمة الجارحة تسبب جرحًا غائرًا وشرًا مستطيرًا، لهذا يتحدث بولس الرسول عن المطرودين من الملكوت، لا من الزناة والفاسقين وحسب، بل من “الشتَّامين” أيضًا. ولهذا الكلام سبب حكيم: فالشتَّام يفسد جمال المحبة الأخوية ويلحق بجاره آلامًا مبرحة، وعداوات لا نهاية لها. ويمزق أعضاء المسيح إلى أشلاء، ويبدد كل يوم السلام الذي يريده الله، مُمهدًا للشيطان أرضية صالحة بسبله الشريرة، فيجعل إبليس الأقوى. لهذا نجد أن السيد المسيح يمزق أوصال الشيطان، فيشرِّع هذا الناموس بجديد، لأن الرب يهتم جدًا بالمحبة، فهي أم كل صلاح، وهي العلامة أو البادﭺ الذي يعرف به الناس تلاميذه والرابطة التي تجمعنا كلنا معًا. لهذا يشرِّع الرب ناموس المحبة ليستأصل كل جذور الكراهية المفسدة لكل شيء.
فلا تظنوا أبدًا أن هذه الأقوال مغالى فيها، بل بالحري تفكروا فيما تجلبه من خيرات. وتعجبوا من اللطف الذي تحويه. لأن كل اهتمام الله هو باتحادنا وترابطنا معًا.
لهذا يهتم الرب جدًا بهذه الوصية في شخصه الذاتي وفي تلاميذه، وفي العهدين القديم والجديد، بل ويعاقب بشدة كل من يحتقر وصية المحبة لأن نزع المحبة يفتح الباب على مصراعيه أمام كل الشرور بل ويكون جذرًا وأصلاً للشر. لهذا قال أيضًا: “لكثرة الإثم تبرد محبة الكثيرين” (مت 24: 12). لهذا صار قايين قاتلاً لأخيه، وهكذا فعل عيسو، كذلك إخوة يوسف، وكل الجرائم التي ارتكبناها والتي بغير حصر، وتسببت في حل أواصر المحبة بيننا – لهذا يؤصل (يستأصل) (رب المجد) للأمور التي قد تضر بالمحبة – ونراه يفعل ذلك في كل أحاديثه وبمنتهى الدقة.
12. فلا هو توقف (فلم يتوقف) عند تلك الوصايا فقط – السابق ذكرها – بل يضيف (أضاف) إليها وصايا أخرى أكثر منها، ليؤكد على أمور يريد الإشارة إليها. أعني بعد أن هدَّد “بالمجمع” و “بالحكم” و “بالجحيم” أو جهنم. أضاف ما يتفق مع قوله السابق قائلاً:
“فإن قدَّمتَ قربانك إلى المذبح، وهناك تذكّرتَ أن لأخيك شيئًا عليك فاترك هناك قربانك قدام المذبح واذهب أولاً اصطلح مع أخيك، وحينئذٍ تعال وقدم قربانك” (مت 5: 23-24) يا لصلاح الرب ومحبته الفائقة للإنسان. فهو لم يهتم بالكرامة الواجبة له، بل بالأكثر اِهتم بمحبتنا لجيراننا، فلم ينطق بالتهديدات السابقة وكأنه عدونا أو كأنه يرغب في عقابنا، بل بدافع عاطفة حب رقيقة جدًا. فهل هناك أقوال تضاهي رقة كلامه الذي يقول: “فلتقاطع خدمتك ليدوم حبك للآخر؛ لأن المحبة ذبيحة أيضًا، حين تتصالح مع أخيك”. أجل.
ولهذا السبب لم يقل “بعد القربان أو التقدمة”، بل والقربان موضوع على المذبح، وليس بعد رفعه، ولا بعد تقديم الذبيحة أو رفع التقدمة، بل بينما هي في وسطنا، يأمرنا أن نسرع إلى المصالحة.
تُرى ما هو الدافع الذي لأجله يوصيكم أن تفعلوا ذلك. وما هي الأسباب؟
يتراءى لي أن هاتين الغايتين يرسمهما لنا سرًا هنا:
أولاً: تشير مشيئته كما قلتُ قبلاً إلى أنه يضع المحبة في أعلى مقام سام، ويعتبرها أعظم ذبيحة، والتي بدونها لا يقبل منا أية ذبيحة أخرى.
ثانيًا: يضع الرب على كاهلنا هذه الضرورة لأجل المصالحة، لأن كل من أمره بألا يرفع تقدمته قبل أن يتصالح سيهرع إلى مَنْ أحزنه ليزيل العداوة إن لم يكن بدافع المحبة نحو جاره، فلكي لا تكون ذبيحة بغير تقديس. لهذا السبب اِهتم المسيح بالأمر اهتمامًا بالغًا، وأنذرنا بإحكام ليوقظنا، وحين (فحين) قال:
“اُترك هناك قربانك” لم يكتف بذلك بل قال “قدام المذبح”. ربما في نفس المكان الذي كان يُروِّع جاره فيه. وقال “اذهب” ليس هذا فحسب، بل أضاف “أولاً” أي على الفور. ثم قال: “وقدم قربانك” معلنًا بكل مجاهرة أن المذبح لا يقبل من هم في عداوة مع آخرين.
فليسمع المعمََّدين هذا أيضًا – أجلّ، لأن الأمر متعلق بهم – فهم بالمثل يقدمون قربانًا وذبيحة، أعني صلاة وصدقة – فهذه أيضًا ذبائح – فالنبي يقول في المزمور: “تمجدني ذبيحة تسبيح، وأيضًا الذبيحة لله “ذبيحة تسبيح” و”رفع يديَّ ذبيحة مسائية” (مز 141: 2).
فالصلاة إذن ذبيحة ترفعونها في تعقل، ومن الأفضل أن تتركوا صلاتكم لأنه لهذه الغاية قد صارت كل الأمور، بل لهذه الغاية قد صار الله إنسانًا وعمل كل ما عمله ليجمعنا في واحد. لهذا وفي هذا الموضوع يرسل فاعل الشر إلى المظلوم.
وفي صلاته يعتاد المظلوم إلى الإثم ليصالحهما معًا. ومثلما يقول: “اغفر للناس زلاتهم” هكذا أيضًا يقول: “إن كان قد فعل شيئًا ضدك، اذهب إليه” أو بالحري يبدو لنا هنا وهو يرسل المتألم من الأذى. ولسبب ما لم يقل “صالح نفسك مع أخيك”، بل “تصالح مع أخيك” وبينما يبدو هذا القول موجهًا إلى المعتدي، فإن القول كله يتناول المتضرِّر.
هكذا يقول السيد المسيح: إن تصالحت معه بمحبتك له، سأكون مسامحًا لك أيضًا. وتكون قادرًا على تقديم ذبيحتك بثقة كاملة، لكن إن كنت لا تزال مضطربًا، فتذكر إنني وإن كنت قد أمرت أن تهتم بأموري الخاصة اهتمامًا طفيفًا، لتصيروا أصدقاء وتلطِّفوا من غضبكم.(الجملة ناقصة) ولم يقل: إذا عانيتم من الأخطاء الأشد، تصالحوا، بل حتى وإن كان ما أساء إليك به تافهًا ولم يضف سواء كان بحق أو بغير حق، بل قال فقط: “إن كان لأخيك شيء عليك” لأنه إن كان بحق، فحتى في هذه الحالة لا يليق ولا يجب أن نرجئ المصالحة. لأن المسيح أيضًا قد غضب منا بالحق. ورغم ذلك فقد بذل نفسه ذبيحة لأجلنا. “غير حاسب تلك الخطايا” (2 كو 5: 19). وللسبب عينه، يحثنا بولس الرسول أيضًا وبطريقة أخرى على المصالحة “لا تغرب الشمس على غيظكم” (أف 4: 26).
ومثلما فعل المسيح بحديثه عن تقديم القربان على المذبح، هكذا بولس في حديثه عن ذلك النهار، يحضنا على فعل نفس الأمر، لأنه في الحقيقة يخشى أن يُخيم الليل على المضروب وحده، فيجعل جرحه أشد إيلامًا. لأننا في النهار يتشتت فكرنا مع كثيرين غيرنا – فنبتعد بعيدًا عن مشاكلنا – لكن في الليل وحده يشتد التفكير في النفس، وترتفع الأمواج وتثور العواطف أكثر، وحتى يمنع بولس الرسول حدوث ذلك، ألزمه أن يمضي الليل في التصالح فلا يصبح النهار إلا ويكون قد تصالح، وحتى لا تتوفر للشيطان فرصة بعد علينا، وهو بعد في وحدته، فيشعل أتون غضبه بدرجة أشد.
هكذا السيد المسيح، طلب أن يؤجل تقديم القربان دون تأخير ولو بسيط، حتى لا يصير هذا الشخص أكثر إهمالاً، فيؤجل المصالحة يومًا بعد يوم، لأن الرب يعلم أن الأمر يتطلب علاجًا سريعًا وحاسمًا، وكطبيب ماهر لا يعالج أمراضنا فقط، بل ويقيمنا منها ويشفيها(ويشفينا). وحتى يمنع المناداة بكلمة يا أحمق وقاية لنا من العداوة، يأمرنا بالمصالحة كوسيلة لاستئصال الأمراض التي تسبب نفس العداوة.
ونلاحظ أنه وصف كلتا الوصيتين بمنتهى الحزم والدقة. فمثلما كان الحال في السابق، حين توعد المخالفين بالجحيم، هكذا أيضًا هنا لا يقبل القربان قبل المصالحة، مؤكدًا على عدم رضاه الكامل إن لم نتصالح أولاً، وبهذا يجتث جذر الشر وثماره معًا، وأول كل شيء يقول: “لا تغضب”، ثم، “لا تخاصم”، لأن الواحدة إنما تسند الأخرى: فمن العداوة يأتي الخصام، ومن الخصام تأتي العداوة. ولهذا يعالج جذر العداوة ثم ثمرتها، مانعْنا من ثورة الشر. وحتى إن استفحلت العداوة وأتت بثمارها الشريرة كلها، فإنه يحرقها ويخمدها بكل الوسائل.
13. وبعد أن تحدث المسيح عن الحكم ثم المجمع فالجحيم. وبعد أن تحدث أيضًا عن قربانه الخاص. يضيف أمرًا جديدًا فيقول: “كن مراضيًا لخصمك سريعًا ما دمت معه في الطريق” (مت 5: 25).
وحتى لا تقول عن خصمك، وماذا لو تضررت منه؟ “ماذا لو كنت قد طُرحت في السجن بسببه وقتلت أمام المحكمة”؟ لقد أبعد المسيح هذا العذر أيضًا؛ إذ يأمرنا ألا نعادي أحدًا. ولما كانت هذه الوصية عظيمة، فإنه يقدم نصحه من واقع الحياة، ومن الأمور الحاضرة أكثر من المستقبلية، وكأنه يقول: “لماذا تقولون إن خصمكم أقوى وإنه يدفعكم إلى ارتكاب الخطأ؟
بالطبع، إنه سوف يدفعكم إلى مزيد من الأخطاء إن لم تنهوا الأمر، وقد يجبركم على المثول أمام المحاكم، لأنه في الحالة الأولى. إذا دفعتم بعض المال لحفظتم أنفسكم أحرارًا. لكنكم تحت طائلة القانون بحكم القاضي، سوف تقيدون وتنالون عقوبة أشد، لكنكم إن تجنبتم المواجهة والخصام، لجنيتم ثمرتين صالحتين:
أولاً: أن تتخلصوا من معاناة الألم.
ثانيًا: أن يكون العمل الصالح من نصيبكم أنتم، وليس كنتيجة قهرية مجبرون أنتم عليه من جانب خصمكم. لكن إن لم ترتدعوا بهذه الأقوال، فإنكم لا تخطئون في حقه بقدر ما تخطئون في حق أنفسكم.
ترون هنا أيضًا كيف يُعجل السيد بإثارة (؟)، فهو يقول: “كن مراضيًا لخصمك” ثم يضيف على الفور “سريعًا” ولا يكتفي بهذا الأمر، بل بالسرعة المقررة لإنهاء المصالحة. ولهذا يضيف قائلاً أيضًا: “ما دمت معه في الطريق” هكذا فإنه يحثه ويدفعه بشدة وبحزم على ذلك. لأنه ما من شيء يقلب حياتنا رأسًا على عقب، مثل التأجيل والتسويف في إنجاز أعمالنا الصالحة، فقد يتسبب التأجيل فعلاً في خسارتنا لكل شيء. لهذا يقول القديس بولس “لا تغرب الشمس على عداوتكم”.
وكما يقول المسيح قبلاً: “تصالحوا قبل تقديم قرابينكم”.
هكذا يقول هنا أيضًا، تصالح سريعًا ما دمت مع خصمك في الطريق؛ قبل أن تبلغ أبواب المحكمة، وقبل أن تقف خلف القضبان، وتصبح في قبضة الحاكم. لهذا وقبل أن تبلغ هذا الحد، دع السيطرة في يدك أنت. لكن إن وطأت قدماك عتبة القضاء، ما عدت تقدر على ترتيب أمورك بإرادتك، حتى لو بذلت جهودًا مضنية، ما دمت في قبضة الآخرين. لكن ما معنى “كن مراضيًا لخصمك”؟ إن الرب يعني الاتفاق مع خصمك حتى لا تُعاني مُعاناة مُرة. أو أن تلتمس العذر للآخرين وكأنك في محله، وحتى لا تفسد العدل بمحبتك لذاتك – بل بالحري – أن تتعامل مع قضية الآخرين على أنها قضيتك، فتحرر نفسك وتنجو بذاتك من الأمر.
فلا تندهش لهذا الأمر العظيم، فقد أطلق برأيه هذا كل بركاته، حتى إذا ما أعد نفوس سامعيه ولطفهم (ما تشكيلها؟) يجعلهم أكثر استعدادًا لقبول وصاياه. ويقول البعض إن الرب يرمز سريًا إلى الشيطان نفسه بإطلاق اسم “الخصم” عليه، بينما أمرنا ألا نتعامل معه؛ بألا تكون لنا معه شركة.
الآن هذا هو معنى “كن مراضيًا له”؟ فلا مساومات ممكنة بعد رحيلنا عنه، ولا ننتظر منه شيئًا، إلا العقوبة التي لا يمكن لأية صلاة أن تنجينا منها. لكن يبدو لي أنه يتحدث عن قضاة هذا العالم، والطريق إلى محكمة العدل، والسجن الذي نعرفه. لأنه بعد أن أنذر الناس بشتى الطرق والوسائل، فإنه ينذرهم أيضًا بأمور تحدث في هذه الحياة. وهو نفس ما يفعله بولس الرسول في حديثه عن الحاضر والمستقبل، للتأثير في سامعيه، ومثلما حين يردعه عن الشر، يشير إلى ذاك الذي يميل إلى الشر، وهو الخادم المتسلح، إذ يقول: “ولكن إن فعلت الشر فخف لأنه لا يحمل السيف عبثًا، إذ هو خادم الله” (رو 13: 4).
وإذ يربطنا أيضًا بالقضية التي تشغله، فإنه لا يعوض خوف الله فقط، بل الوعيد أيضًا للفريق الآخر، وعنايته وسهره. “لذلك يلزم أن يُخضع له، ليس بسبب الغضب فقط، بل أيضًا بسبب الضمير” (رو 13: 5)، لأنه كما قلت سابقًا فإن الأكثر انحرافًا عن التعقيل سرعان ما تقوِّمهم هذه الأمور. وهي أمور ظاهرة ومتاحة. لهذا السبب فإن المسيح لم يذكر الجحيم فقط، بل ذكر أيضًا محكمة العدل، وذكر الجر إلى السجون، وكل ما يلاقيه الإنسان من معاناة. وبهذه الوسائل كلها، يستأصل جذور القتل، لأن الذي لا يخاصم ولا يَمثل أمام القضاء – ولا يطيل العداوة – لا يمكن أن يقتل أبدًا. من هنا نعرف أن منافع جيراننا هي منافعنا، لأن من يتصالح مع خصمه ويتراضى معه ينتفع هو بالأكثر جدًا؛ إذ يصبح حرًا بفعل إرادته من محاكم القانون، والسجون والبؤس الذي يلاقيه هناك.
14. إذن فلنطع أقواله، ولا نناقض أنفسنا، ولا نكثر من الخصام، لأن تلك الوصايا، حتى وإن كانت قبل كل شيء وصايا بمجازاة، فإنها في حد ذاتها لها نفعها وبهجتها. حتى وإن بدت في معظم الأحوال ثقيلة الحمل، وما تسببه من متاعب جمة، فإنه من الواجب عليكم أن تنفذوها لأجل خاطر المسيح. حينئذٍ يتحول الألم إلى فرح، فلو كان هذا هو فكرنا دائمًا لما شعرنا بثقلها أبدًا، بل نجني لذة عظيمة من كل جانب؛ إذ لن يبدو تعبنا تعبًا بعد، بل كلما زاد زادت مسرتنا وصارت أكثر حلاوة مع الأيام. فإن لازمتكم عادات شريرة وشهوة الغنى وحاربتكم، قاوموها بالفكر القائل: “ما أعظم المجازاة التي ننالها، إذا ما احتقرنا الملذات الزائلة التي لا تدوم إلا فترة”. قل لنفسك: “لماذا تكتئبين يا نفسي لأنني حرمتُكِ من اللذة” أجل، افرحوا وتهللوا لأنني آتي بكم إلى السماء. أنتم لا تفعلون ذلك لأجل خاطر إنسان، بل لأجل خاطر الله. كونوا إذن صابرين بعض الشيء، وسترون كم هي عظيمة أرباحكم. تحملوا في هذه الحياة الحاضرة؛ وستنالون ثقة لا يُنطق بها. لأننا إن كنا نخاطب أنفسنا هكذا. فلا نهتم فقط بأثقال الفضيلة، بل نفكر أيضًا في أكاليلها، لانسحبنا فورًا من مجالات عمل الشر. لأن الشيطان إن كان يخدعكم بلذة زائلة، فإنه يجلب عليكم آلامًا أبدية تدوم طويلاً، أما نحن فإننا إن كنا نتعب يسيرًا ونتألم قليلاً، فإن مسرتنا ونفعنا يدومان إلى الأبد.
فأي صفح نناله إن كنا بعد هذا التشجيع لا نعمل الصلاح؟! نحن نعلم أن أتعابنا وأعمالنا تكفي لمقاومة الشر، ونحن موقنون أننا نفعل ذلك لأجل الله. لأن الإنسان إذا علم أن الملك مدين له، يعتقد أنه في مأمن مدى حياته؛ إذ جعل الله المُنعم الأبدي مدينًا له. وهو عمل عظيم بما لا يُقاس، يفوق كل الأعمال الصالحة مهما صغرت أو كبرت.
فلا تتذرع بأنك مثقل بالمتاعب والآلام، عالمًا أنك بسبب رجاء الأمور العتيدة، ومعونة الله لنا في كل مكان – إذ سهل لنا طريق التقوى – يضع يده في كل عمل نعمله. فإن بذلتم ولو أقل جهد من الغيرة والحمية، لأصبح كل شيء بعده سهلاً. إذ جعلكم السيد المسيح تتعبون قليلاً أيضًا لهذا الغرض، لتظفروا بالنصرة. ومثلما يتوقع الملك حضور ابنه بين صفوف المحاربين، هكذا يسمح له أن يطلق سهمه ويضرب ليكون النصر حليفه. بينما الملك (الرب) يفعل كل شيء بنفسه. هكذا يفعل الله في حربنا ضد الشيطان، وهو يطلب منكم شيئًا واحدًا فقط: أن تظهروا كراهية صادقة ضد هذا العدو. فإن فعلتم أنتم ذلك لصالح الرب، فإنه ينهي الحرب كلها بنفسه.
حتى وإن اشتعل فيك الغضب، واشتهيت الغنى، وثارت فيك عاطفة الاستبداد والسيطرة، فإن رآك تتجرد بنفسك وتستعد للعدو، فإنه يأتيك سريعًا، ويسهل عليك كل شيء، بل ويرفعك الله فوق ألسنة اللهب والنار. مثلما فعل مع الفتية الذين طرحوا في أتون النار في بابل؛ أولئك الذين لم يحملوا معهم شيئًا في النار إلا مشيئتهم الصالحة. ولكي نطفئ نحن أيضًا أتون اللذة المضطربة هاربين من الجحيم المعد هناك، وحتى نجتذب إلينا إحسانات الله بمشوراتنا واهتماماتنا وأعمالنا الصالحة، وبمقاصدنا الكاملة في الأعمال الحسنة، وبصلواتنا كل حين، وإن بدت لنا بعض الأعمال أنها فوق الاحتمال الآن، فإنه سرعان ما يجعلها سهلة لطيفة هينة ومحبوبة للغاية. وطالما نحن تحت نير الشهوة، نظن أن الفضيلة بعيدة المنال ومرهقة وبالية. ونعتقد أن الرذيلة هي مشتهانا ومصدر مسرتنا البالغة، لكننا لو ابتعدنا قليلاً عنها، لظهرت لنا كريهة تعافها النفس، ولرأينا الفضيلة سهلة لطيفة ومشتهى نفوسنا حتى المنتهى.
وهذا ما يمكنكم أن تتعلموه من الذين عملوا أعمالاً صالحة؛ فمثلاً انصتوا إلى قول القديس بولس وكيف كان يخجل من شهوات تخلَّص منها: “فأي ثمر كان لكم حينئذٍ من الأمور التي تستحون بها الآن” (رو 6: 21)
لكنه رغم تعبه، كان يؤكد أن الفضيلة خفيفة، لهذا كان يدعو مشقة وتعب ضيقاتنا بأنها وقتية وخفيفة. وكان يتهلل في آلامه ويتمجد في ضيقاته ويتفاخر بالضربات التي يتلقاها لأجل المسيح (قابل 2 كو 4: 17، 12: 10، رو 5: 3، غلا 6: 17، كو 1: 24)
فلكي نثبت نحن أيضًا في هذه العادة، فلنضبط ذواتنا كل يوم بتلك الأقوال: “ننسى ما هو وراء ونتقدم إلى ما هو قدام، ونسعى نحو الغرض لأجل جُعالة دعوة الله العليا” (في 3: 13-14)، التي يهبها الله لنا بنعمة ومحبة ربنا يسوع المسيح للإنسان، الذي له المجد والقوة إلى أبد الآبدين آمين.
العظة السابعة عشرة
الزنا
“سمعتم أنه قيل للقدماء: لا تزنِ، وأما أنا فأقول لكم: إن كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه” (مت 5: 27-28).
وبعد أن أنهى الرب الوصية السابقة، ورفعها إلى مستوى الذات، فإنه يتقدم في الحديث وفي الترتيب منتقلاً بشكل يتفق مع الوصية التالية، وهو هنا أيضًا يطيع الناموس.
وقد يقال، مع ذلك فهذه ليست الثانية، بل الثالثة، لأن الأولى ليست هي “لا تقل”، بل “الرب إلهنا رب واحد” (تث 6: 4)، لهذا فإنه أمر جدير بالاستفسار أيضًا، لماذا لم يبدأ بتلك، ولماذا جاءت بعدها؟
ذلك لأنه قد بدأ من هنا. ولابد أن يوسع من دائرتها ويجمعها في نفسه مع أبيه، لكن لم يحن الوقت بعد ليعلِّم الناس مثل هذا الأمر عن نفسه. وأيضًا كان يمارس لبرهة تعليمه الأخلاقي فقط، قاصدًا من هذا أولاً، وكذلك من معجزاته أن يقنع السامعين أنه ابن الله.
فإن قال على الفور: “سمعتم إنه قيل للقدماء” أو “أنا الرب إلهكم، لا يكون لكم إله غيري” لكني أقول لكم اعبدوني مثلما تعبدونه، لو كان قال ذلك قبل أن يعمل شيئًا أو يتحدث بشيء، لجعل الجميع يظنون إنه مجنون فهم قد وعوا أن به شيطان (يو 8: 48)، حتى بعدما سمعوا تعليمه ورأوا معجزاته العظيمة وحتى دون أن يصرح لهم بلاهوته علنًا. فكيف لو حاول أن يقول شيئًا من هذا القبيل قبل كل ما فعله، لقالوا فيه ما لم يقولوه قبلاً ولظنوا فيه ما لم يظنوه.
لكن الرب يحجز تعليمه حول موضوعات بعينها في الوقت المناسب، ليجعل تعليمه مقبولاً من الجميع. لهذا السبب فإنه قد تجاوزها بسرعة، وبعد أن كان يؤسس تعاليمه بمعجزاته وبتعليمه الفائق، بدأ فيما بعد يكشفها بالكلمات أيضًا، وكشف عن الأسرار في الحاضر باستعلان معجزاته وطريقة تعليمه ذاتها، وهكذا وفي حين حسن وبالتدريج وبشكل هادئ. وبدأ يشرح القوانين الجديدة والتي صاحبتها تصويبات الناموس بسلطان، ليقود سامعيه ويرشدهم بالتدريج إلى عمق تعليمه إن كانوا منتبهين ومتفهمين لما يقول. لكن الكتاب يقول: “كان يعلمهم كمن له سلطان، وليس كالكتبة” (مت 7: 28)
2. وبسلطان عظيم يليق بمشرِّع الناموس يقدم الرب الشهوة؛ فهي التي تسيطر على جوانحنا الطبيعة وبقوة، وهي السبب في آلامنا التي تخص جنسنا البشري كله. وها هو يصدر بشأنها أوامره الحازمة والصارمة، فإنه لم يقل لعقوبة الزاني وحسب، بل ما يفعله مع القاتل، يفعله هنا بالمثل في عقاب النظرة الشهوانية غير العفيفة، ليعلمكم أن لديه من التعليم ما هو أكثر من الكتبة في أي موضع من مواضع التعليم. ولهذا يقول: “من ينظر إلى امرأة ليشتهيها، فقد زنى بها في قلبه”. أي كل من يجعل شغله الشاغل الالتفات إلى الأجساد المثيرة ويتصيد الملامح الجميلة،(الجملة ناقصة المعنى) لأن المسيح جاء ليحرر النفس مع الجسد من الأعمال الشريرة، ولأننا نقبل نعمة الروح القدس في القلب، فإن الرب يطهر قلوبنا أولاً. ورب سائلٍ، “كيف نتحرر من الشهوة؟”
أجيب أولاً، بالإرادة تموت الشهوة فينا أو تبقى خاملة بلا نشاط. والمسيح لا ينتزع الشهوة منا تمامًا، بل تلك الميول الشهوانية التي تثيرها النظرات، لأن من ينشغل برؤية المفاتن المثيرة هو الذي يوقد أتون الشهوة الجسدية فيقع أسيرًا لها، وسرعان ما تتحول الشهوة فيه إلى حيز التنفيذ. لهذا لم يقل: كل من يشتهي ليرتكب الزنا، بل كل من نظر بشهوة.
وفي حالة الغضب تمييزًا خاصًا قائلاً: “بلا سبب” و”باطلاً” لكن الرب هنا يستأصل الشهوة مرة وإلى الأبد. ومن المعروف يقينًا أن الغضب والشهوة من الصفات الطبيعية للإنسان، وكلاهما موضوع فينا للمنفعة: فبالغضب نطارد الشر ونقوِّم السالكين بعدم استقامة، وبالشهوة ننجب نسلاً لنحفظ جنسنا البشري من الأمور الفائقة العظيمة، وتحتاج إلى كل اهتمامنا وإدراكنا. فالرب لم يقل ببساطة “كل من يشتهي” لأنه من الممكن للإنسان أن يشتهي حتى لو كان وحيدًا في الجبال، بل قال: “كل من ينظر بشهوة” أي ذلك الذي يشعل الشهوة في داخله، ذلك الشخص الذي لا يضطره أحد إلى ذلك، بل يأتي بالوحش الكاسر إلى فكره الذي كان هادئ من قبل، فليس من طبيعة الإنسان أن تهيِّج الأفكار، بل من تورط النفس في الشهوة الردية. وهذا ما يؤكده الكتاب المقدس في العهد القديم أولاً قائلاً: “لا تشته جمال امرأة قريبك” (جا 9: 8).
ولئلا يقول قائل: ماذا لو اشتهيت دون أن أقع في الأسر؟ إن الرب يعاقب النظرة الردية لئلا تقع أنت في الخطية، وأنت تظن أنك في مأمن منها.
ورُبّ قائل آخر: “ماذا لو نظرت واشتهيت فعلاً، لكن دون أن أفعل شرًا؟” حتى إن فعلت ذلك، فأنت محسوب من الزناة، لأن مشرِّع الناموس يقول ذلك، وليس من حقك أن تطرح أية أسئلة أخرى، لأنك إن نظرت مرة أو مرتين أو ثلاث لاستطعت أن تضبط نفسك، لكنك إن كنت تفعل ما تفعله باستمرار وتُشعل أتون الشهوة فإنك ساقط لا محالة؛ لأنك لا تفوق طبيعة البشر فأنت منهم. ونحن إذا رأينا طفلاً يمسك سكينًا، نضربه أو ننتهره حتى لو لم يؤذي نفسه بها، ونمنعه من أن يكرر ذلك مرة أخرى أبدًا. هكذا يفعل الله معنا، إذ ينتزع منا النظرة الردية، حتى قبل الفعل، لئلا نسقط في أي وقت؛ لأن من يشعل مرة لهيب الشهوة، حتى وإن غابت عنه المرأة التي نظر إليها، فإنه يصنع في عقله خيالات مستمرة لأمور مخزية، ينتقل بسببها إلى ذات الفعل، لهذا ينزع السيد المسيح الفكر الذي يحتضنه القلب.
فما القول فيمن يعيشون مع عذارى ويشاطرونهن المسكن؟ ألا يكونوا بموجب سلطان هذا القانون مذنبين آلاف المرات بالزنا، فهم يرونهن كل يوم وينظرون إليهن بشهوة، لهذا السبب فإن أيوب المبارك (أي 31: 1) يرسي قانون منذ البداية ليسد كل جوانب التحديق في العذارى، لأن جهاد النفس ضد النظر أمر عظيم، إذ يحرم الإنسان نفسه من مصدر اللذة، ونحن لا نجني مسرة أبدًا من النظر، بل نقع في خطأ تزايد الرغبة، فنجعل خصمنا أقوى، ونوفر للشيطان مجالات أوسع ولا نقوى على طرده، إذ أتينا به إلى عمق أعماق كياننا الداخلي، وتركنا له عقلنا مفتوحًا على مصراعيه.
لهذا يقول الرب يسوع: “لا تزْن بعينك ولا تقترف إثمًا بعقلك”، بل النظرة الشهوانية، لأنه لو لم يكن يعني ذلك، لقال ببساطة: “من نظر إلى امرأة” واكتفى بهذا القول، لكنه أضاف “ليشتهيها” أي كل من ينظر ليمتِّع نظره؛ لأن الله لم يخلق عينيك لهذا الغرض أبدًا، أي لكي تكون سببًا في الزنا، بل لتعاين بها مخلوقاته وتُمجد الخالق. ومثلما يشعر الإنسان بالغضب عشوائيًا دون مقصد، هكذا يمكنه أن ينظر عشوائيًا وبلا تعمد، وهذا عكس ما يفعله حين ينظر بشهوة. فإن كنت ترغب في النظر للمتعة، انظر إلى امرأتك – خاصتك – وأحببها على الدوام، فما من ناموس أو قانون يحرِّم عليك ذلك. لكن إن كنت تلهث في فضول خلف محاسن الأخريات، فإنك تؤذي زوجتك، لا تدع عينيك تتجولان في كل مكان، وتؤذي مشاعر من ينظر إليها بشهوة. إذ تتلامس معها على خلاف الناموس. حتى وإن لم تلمسها باليد، فقد تحرشت بها بعينك (حرفيًا: عانقتها وقبلتها) (caressed)، لهذا يحُسب ما تفعله زنا. وعاقبة هذا الجرم الفادح ليست هينة؛ إذ يمتلئ صاحب هذا الأمر بالاضطراب والانزعاج ويسقط في دوامة تجربة شديدة، ويصير ألمه عنيفًا، ولا شيء من قيود العالم وسجونه أقسى من قيود العقل. وحتى إن مضت التي أطلقت سهم الشهوة الأليمة، يبقى الجرح ولا يزول. أو بالحري ليست هي التي أطلقت السهم، بل أنت الذي أصبت نفسك بجرح مميت – نظرتك الشهوانية غير العفيفة – أقول هذا لأعفي السيدات المحتشمات من المسؤولية.
لأنه من المؤكد أن إحدى النسوة قد تخرج لتلفت الأنظار والعيون إليها، فتسبب للناس في الطريق عثرة السقوط في النظر، حتى وإن لم تصدم المارين في الطريق، فإنها تسبب في إنزال أقصى العقوبة بهم، لأنها خلطت السم وأعدت الشراب المسموم، وحتى إن لم تقدمه في قدح، أو بالأحرى كانت قد قدمت الكأس المسمم ولكنها لم تجد من يشرب من يدها.
3. ورُبّ قائل: “لماذا لم يتحدث مع النساء أيضًا”.
نقول رغم أنه كان يخاطب الرجال فقط، حول قوانين مطروحة وشائعة للجميع، إلا إنه عند مخاطبته للرأس، يجعل وصاياه عامة لكل الجسد – إذ خلق الرجل والمرأة وجعلهما كيانًا واحدًا ولا يمكن التمييز بينهما في أي مكان – لكن هذا لا يمنع أن الرب وبخ النساء أيضًا، كما في إشعياء (إش 3: 16) حيث يقول الكثير ضدهن، ساخرًا من ملابسهن ومظهرهن وطريقة مشيهن، وثيابهن المذيلة والتي يجرجونها خلفهن على الأرض، وأقوالهن المتراقصة ورقابهن الممدودة.
اسمعوا أيضًا الطوباوي بولس (أي 2: 9) وهو يضع عدة قوانين حول الملابس والحُليّ ومصوغات الذهب وتسريحة الشعر وصبغته، وأسلوب الحياة المرفَّهة وأشياء أخرى كثيرة من هذا القبيل، ليوبخ خبث النساء بعنف (قابل تي 2: 3–5).
السيد المسيح أيضًا ومما يلي من أقوال، يقصد نفس القصد ولكن بشكل خفي لأنه حين يقول: “اِقلع العين التي تعثرك، واَلقها عنك” إنما يدلل على غضبه ضدهن، أي ضد بعضهن ممن يعثرن الرجال. ولهذا يضيف أيضًا “فإن كانت عينيك اليمنى تعثرك، فاقلعها والقها عنك” (مت 5: 29).
ورُبّ قائل: ماذا لو كانت قريبتي، ماذا لو كانت تخصني بأي شكل ما؟ أقول لهذا وضع الرب هذه الوصايا والأوامر، فهو لا يتحدث هنا عن الأعضاء الجسدية (الأطراف مثلاً)، حاشا لأنه لم يذكر أيضًا أن جسدنا ملوم لأي سبب من الأسباب، بل يضع الفكر الشرير موضع الاتهام. لأنه ليست العين هي التي ترى، بل الفكر والعقل. وكثيرًا ما يلتفت كياننا كله إلى الشيء المرغوب، أما عيوننا فلا ترى إلا ما هو مائل أمامنا. ولو كان السيد المسيح يتحدث عن أعضاء الجسد، لما ذكر ذلك عن عين واحدة، ولا عن العين اليمنى فقط، بل عن العينين، لأن من يتأذى بعينه اليمنى، لابد وأن يتضرر أيضًا بعينه اليسرى. فلماذا ذكر العين اليمنى، ثم اليد؟ ليريكم أن حديثه ليس عن الأعضاء أو الأطراف، بل عن القريبين منا، وكأنه يقول: “إن كنت تحب شخصًا ما – وكأنه محل عينك اليمنى- وإن كان ذا قيمه بالنسبة لك – حتى أنك تحسبه محل يدك – لكنه يؤذي نفسك، فإنك حتى تقطعه. وتأملوا تأكيده للأمر إذ لم يقل “ابتعد عنه”، بل وحتى يؤكد على الانفصال الكامل عنه يقول “اقطعه” (pluck it out)، “والقه عنك”. مظهرًا أن الأمر حاسم وبتار، لكنه يظهر الربح من جهة أخرى، سواء جاءنا من الصالح أو الشرير – مستمرًا في تقديم الصورة المجازية – (الميتافور) إذ يقول:
“لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يلقى جسدك كله في جهنم” (مت 5: 29-30)، فهو لا يقدر أن يخلص نفسه وحتى يفشل في تحطميك، القِ هذا العضو عنك. فأيّ عطف هنا إذا غرق الاثنان وهلكا معًا، بينما إذا انفصلا فإن واحد على الأقل سوف ينجو. ورُبّ قائل: لماذا اختار بولس إذن أن يكون ملعونًا لأجل إخوته (قابل رو 9: 3)، نقول: ليس من قبيل الخسارة يفعل ذلك، بل لأجل خلاص الآخرين. أما في الحالة الأخرى فالخسارة من نصيب الطرفين. لهذا لم يقل الرب فقط “اقلعها” بل “القها عنك” أيضًا. حتى لا تقبل هذا العضو فيك مرة أخرى إذا ما استمر على ما هو عليه. وهكذا تخلصه هو من حمل ثقيل وتحرر نفسك من الهلاك.
وحتى نرى مزيدًا من منفعة هذا القانون (الناموس) اسمحوا لي أن نجرب ما قيل بشأن الجسد ذاته – على سبيل الافتراض أعني – أن نمنح الإنسان حرية الاختيار، بين الاحتفاظ بعينه مع الطرح في الأتون والهلاك، وبين اقتلاع العضو الفاسد والاحتفاظ بباقي الجسد. فهو سلوك إنسان لا يكره عينيه بقدر ما يحب باقي جسده كله.
وينطبق نفس المثال على رجال أو نساء نحبهم أو نعرفهم، فإن كان صديقك يؤذيك بصداقته ويظل هكذا دون علاج، فإن قطعه عنك يحررك من رداءة سلوكه. أما هو فيتحرر من أثقال عسرة الحمل، فتتخلص من هلاكك ومن أعماله الشريرة.
فما أعظم الناموس وما ألطفه وما أجمله وهو يعتني بكم، فما يبدو للناس قساوة يكشف عن عمق المحبة نحو الإنسان. فليسمع هذه الأمور المسرعون إلى اللهو في المسارح كل يوم والزناة، لأنه إن كان الناموس يوصي بقطعه عنكم، أعنى الذي يؤذينا بارتباطنا به، فما عذر الذين يرتادون تلك الأماكن، ويجتذبون إليهم كل يوم حتى الذين لا يعرفونهم، فيوفرون لهم فرص الهلاك بغير حصر، لهذا حرم السيد المسيح النظرة الشريرة لما يعقبها من خطايا، ولهذا يأمر بالناموس الجديد أن نقطعها عنا ونطرحها بعيدًا. وهو الذي نطق بأقوال المحبة التي لا تُحصى لها عدد، لتدركوا في كل وقت قوة رعايته الإلهية. وسعيه الدائم إلى منفعتن
4. “وقيل من طَلَّقَ امرأته فليعطها كتاب طلاقٍ. وأما أنا فأقول لكم إنَّ من طَلَّقَ امرأتهُ إلا لعلة الزنا يجعلها تزني. ومن يتزوج مطلقةً فإنه يزني” [ع32-31]
وبعد أن أوضح جيدًا الأمور السابقة، بدأ الرب في عرض مفهوم الزنا بشكل جديد، فقد كان هناك ناموس قديم معمول به (تث 24: 1-4). أن من يكره امرأته لأي سبب من الأسباب (حتى لو كان تافهًا) يمكنه أن يطلقها، وأن يأتي بزوجة أخرى إلى البيت بدلاً منها. ويأمره الناموس أن يفعل هكذا ببساطة، بل أن يعطيها كتاب طلاق حتى لا تعود إليه أبدًا، حتى يبقى الزواج في شكله الشرعي قائمًا، لأنه لو لم يشًرِّع الناموس ذلك، لكان من الشرعي(الشرع) أولاً أن يطلِّقها ويرتبط بأخرى، ثم يعود فيأخذ الأولى التي طلقها، فتعم الفوضى بشكل كبير، ويتزوج الرجال زوجات الآخرين باستمرار، ولأصبح الأمر بمثابة زنا مباشر. لهذا يشرِّع الرب كتاب الطلاق كنوع من تلطيف الأمور، فالطلاق ليس بالأمر الهيِّن، لكن الناس أساءوا استغلاله لشرورهم العظيمة. ولأسباب أخرى غير اللطف، أعني أن الرب قصد أن يترك الزوج الكاره زوجته في بيته، ويطلقها حتى لا يقتلها بسبب كراهيته لها. لأنه هكذا كان طبع اليهود الذين لم يشفقوا على الأطفال وذبحوا الأنبياء “وسفكوا الدماء كالماء” (قابل مز 79: 3)، وهم لا يرحمون النساء بل يبطشون بهن. لهذا يسمح السيد المسيح بالضرر الأقل ليزيل الضرر الأكبر، حتى لو لم يشرعه الناموس الأصلي؛ إذ يقول:
“لقساوة قلوبكم أوصى موسى أن يُعطى كتابُ طلاق” (مت 19: 8). حتى لا يذبح الرجال نساءهن في البيوت، بل بالأحرى يطلقوهن (أيّ يسرِّحوهن بمعنى يطلِّقن سراحهن).
هكذا لا يحرم الرب القتل فقط، بل ينزع كل مشاعر الغضب، وإلهنا يشرِّع هذا الناموس في يسر. ويستحضر في الأذهان كلمات سابقة مؤكدًا أن أقواله ليست مناقضة لما سبقها، بل تتفق معها وتقويها، ولا تنقضها بل تكملها. تأملوا في كل مرة يخاطب فيها الإنسان فيقول:
“من يطلق امرأته يجعلها تزني. ومن يتزوج بمطلقة يزني” ففي الحالة الأولى ورغم أن الرجل لم يتزوج بأخرى بعد، فإنه ملوم لمجرد الفعل إذ جعل زوجته تقترف الزنا، ويصبح من تزوج بمطلقة (لم يطلقها زوجها شرعًا) زانيًا، لأنه أخذ زوجة لا تزال على ذمة رجل آخر! فزوجها لم يطلقها، وحتى لا تتشبث المرأة برأيها إذا أُلقي باللائمة على الزوج الذي يطلق. لهذا أغلق في وجهها الأبواب أمام من يقبلها في بيته. إذ يقول: “ومن يتزوجها (أيّ التي لم تطلَّق شرعًا) يجعلها تزني”. والمسيح بذلك يريد عفة المرأة حتى لو ضد رغبتها، وحتى لا تصبح في متناول الجميع. وحتى تعي جيدًا أن عليها واجب الحفاظ على زواجها وزوجها الذي كان من نصيبها أصلاً¬. وحتى لو كانت موجودة من بيت زوجها ومطلقة، فإنها ولو ضد إرادتها تحاول أن تبذل أقصى ما في وسعها لأجل استمرار الزواج.
وإن لم يكن السيد المسيح قد أفصح عن هذه الأمور كلها؛ فلأن المرأة مخلوق ضعيف رقيق قد لا تهتم بهذه القضية بشكل كبير. ولهذا يهدد الرجال حتى يقوم من إهمالها بشكل كامل. مثلما يكون لإنسان ابن ضال يتركه ويوبخ الذين تسببوا في ذلك، والذين منعوا الأب أن يتصل به أو يتحدث إليه أو يوبخه؟؟، فإن تضايقتم من هذا التصرف، أرجوكم تذكروا أقوال الرب السابقة، وكيف يطوب سامعيه. وسترون أنه من السهل على من يلتزم بكل الوصايا الوديع والمسالم والمسكين بالروح والرحيم ألا يطلق امرأته. فمن الذي اعتاد التصالح مع الآخرين، لا يمكن أن يتخاصم مع زوجته. وينير المسيح بصيرتنا ومداركنا حين يتطرق إلى قضية إطلاق المرأة (أو تسريحها)، حين يقول “لا يتم هذا إلا لعلة الزنا” لأنه إذ أوصى منذ البدء أن يحتفظ الزوج بها في بيته، لكنها إن كانت تدنس نفسها مع كثيرين، لانتهى بها الأمر إلى الزنا. هكذا تتفق تلك الأقوال مع سابقاتها لأن من ينظر إلى امرأة غيره بعيون عفيفة، لن يرتكب الزنا، وبذلك لن يعطي لزوج المرأة الأخرى أية فرصة لطلاقها. بهذا يشدد الرب على هذه الجزئية دون تحفظ ويجعل من المخافة حصنًا منيعًا، ملقيًا على الزوج خطرًا جسيمًا إن طلق امرأته. إذ يحسب مسئولاً مسئولية شخصية عن زناها. لهذا يصحح المسيح الوضع لئلا يفتكر أحد في قوله “تقلع عينيك” بمعنى “تتخلص من زوجتك” جاعلاً بيد الرجل أن يدعها تمضي ويطلقها. (إن كانت زانية، أو إن كان هو زانيًا) وليس أمامه من حل آخر يلجأ الزوج إليه.
5. “أيضًا سمعتم أنه قيل للقدماء لا تحنث بل أوف للرب أقسامك. وأنا فأقول لكم لا تحلفوا البتة” [ع34-33].
قبل أن يتحدث السيد المسيح عن السرقة، تناول موضوع شهادة الزور متجاوزًا وصية “لا تسرق”. ترى لماذا يفعل ذلك؟ لأن من يسرق يحلف باطلاً في هذه المناسبة، أما من لا يعرف كيف يشهد بالزور أو يتحدث زورًا، لا يعرف بالأكثر كيف يسرق.
لهذا تجاوز الرب الحديث عن السرقة إلى شهادة الزور لأن منها تتولد السرقة. لكن ما معنى “أوف للرب أقسامك” (انظر عد 30: 2، تث 23: 23) حيث نقرأ:
“إذا أقسم رجل قسمًا، أن يلزم نفسه.. فلا ينقض كلامه”، “وأما أنا فأقول لكم لا تحلفوا البتة”. وحتى يبعدهم عن القسم بالله، يقول: “لا بالسماء لأنها كرسي الله، ولا بالأرض لأنها موطئ قدميه، ولا بأورشليم لأنها مدينة الملك العظيم (قابل إش 26: 1، مز 18: 2) مقتبسًا من الكتابات النبوية، ومشيرًا إلى أنه هو ذاته لا يناقض القدماء. والسبب في ذلك؛ أنهم اعتادوا القسم بتلك الأشياء، والرب يعلن في نهاية الإنجيل عن هذا (مت 23: 16) ويوضح جسامة هذا الأمر لا بسبب طبيعتها الجسيمة بل بسبب علاقتها بالله. ولنتأمل كيف تم الإعلان عنها بمثل هذا القدر من التنازل؛ إذ كان طغيان الوثنية شديدًا، وكان لا بد أن ينفي أيّ استحقاق بالكرامة لهذه الأشياء والأوثان. لهذا يذكرها هنا لمجد الله، لأنه لم يقل:
“لأن السماء جميلة وبديعة وعظيمة” ولم يقل “لأن الأرض نافعة”، بل “لأن السماء عرش الله، والأرض موطئ قدميه” هكذا يحثهم في الحالتين إلى الاتجاه نحو ربهم ثم يكمل قائلاً:
“ولا تحلف برأسك؛ لأنك لا تقدر أن تجعل شعرةً واحدةً بيضاء أو سوداء” (مت 5: 36).
وهو هنا لا يثير الإعجاب بالإنسان حين يذكر القسم برأسه، (وإلا صار الإنسان معبودًا)، بل يشير إلى مجد الله وللتأكيد على أن الإنسان لا يسود حتى على نفسه، ومن ثم لا تمتلك السيادة حتى تحلف برأسك. لأنه مثلما لا يعطي أب ابنه لآخر، هكذا لا يعطي الله عمله الخاص به لك. فرغم أن الرأس رأسك أنت، إلا إنها مملوكة لله، وما دمت لست سيدًا على رأسك في هذا الشأن، فلا قدرة لك على التصرف فيم لا تمتلكه، ولا في أدنى شيء آخر؛ لأن الرب لم يقل: “أنت لا تقدر أن تجعل شعرة واحدة تنمو” بل يقول: “أنت لا تقدر حتى أن تعدل من صفاتها”.
ورُبّ قائل: لكن ماذا لو أقسم إنسان قسَمًا تحت إكراه؟ إذن فليكن خوفك من الله أقوى من الإكراه على القسَم، لأنك إن اعتدت على الأعذار، لن تنفذ وصية واحدة من وصايا الرب. فبالنسبة لزوجتك، ستقول: ماذا لو كانت مشاكسة وعنيفة؟ وبالنسبة لعينك اليمنى ستقول: ماذا لو كنت أحبها، حتى وأنا في النار فعلاً؟ وعن النظرة الشهوانية غير العفيفة تقول: ماذا لو كنت لا أقوى على الامتناع عن النظر؟ وعن غضبك ضد أحد الإخوة تقول: ماذا لو كنت متسرعًا لا أقدر على ضبط لساني؟.
وبوجه عام تدوس هكذا على كل أقوال الرب، مع أنك لا تقدر أن تتدرج بنفس الحجم بالنسبة لقوانين البشر ولا تقول: ماذا لو كان هذا أو ذاك هي الحالة؟ ولكن سواء أردت أو لم ترد فإنك تقبل الملكوت، وتكون مضطرًا أن تقع تحت نيرها كلها. لأن من سمع بالبركات السابقة، ووضع على عاتقه تنفيذ وصايا المسيح، لن يكون مُكرهًا على المعاناة من جراء أيّ قانون عالمي؛ إذ هو يوقرها ويحترمها كلها.
“بل ليكن كلامكم نعم نعم، لا لا. وما زاد على ذلك فهو (يأتي) من الشرير (الشيطان)” (مت 5: 37). فما الذي يزيد على “نعم” وعلى “لا” إنه القسم وليس الحنث بالقسم. لأن الحنث بالقسم معلوم لدى الجميع، ولا يحتاج الإنسان أن يعرف أنه من الشرير. بينما ما زاد على ذلك لا لزوم له إذ يتجاوز الحد المسموح.
ورُبّ قائل: هل القَسم من الشرير؟ وإذا كان من الشرير فكيف يكون من الناموس؟
حسنًا، فإنكم ستقولون نفس الشيء عن الزوجة أيضًا، كيف ما كان مسموحًا به قبلاً قد صار الآن زنى؟ فما قولك: لقد كانت الوصايا التي قيلت قديمًا تتعلق بأناس استلموا الناموس وهم ضعفاء. ولأنه لا يليق بالله أبدًا أن نعبده على بخار ذبيحة – مثلما لا يليق التلعثم أو (اللثغة في النطق) بفيلسوف – لهذا يكشف الرب الآن أن هذا النوع من الأمور هو زنا وأن القسم من الشرير، إذ تقدَّمت الآن مبادئ الفضيلة. لكن لو كانت هذه الأمور منذ البدء هي نواميس الشرير، لما أدت إلى مثل هذا الصلاح العظيم.
أجل، فلو لم تكن تلك الوصايا رائدة وسبَّاقة في المقام الأول، ما نلنا نحن ما نلناه الآن بهذا القدر من السهولة. فلا تُحققوا الآن في سموها، وقد مضى على استعمالها زمان طويل، بل حين كان الأمر يتطلب وجودها. أو بالأحرى إن أردتم ولو حتى الآن، لأن الآن وقت مناسب، لأن ظهورها في وقت مثل هذا هو أعظم مديح لها. لأنها لو لم تقوَّم سلوكنا جيدًا، وتهيئنا لقبول وصايا أعظم، لما ظهرت هكذا على ما هي عليه.
فالثدي مثلاً له وظيفة هي توفير الطعام للطفل ليساعده على النمو والنضج، وهي وظيفة يكملها على أتم وجه. لكنه وبعد أن يكبر الطفل قد يبدو بعدها بلا فائدة وقد يسخر منه الأبوان اللذان كان يعتقدان مثلاً بضرورته للطفل! بل وقد يسيئان استخدامه ويسخران منه كل السخرية. قد لا يكتفيان بكلمات تحقير يقولانها أمام الطفل بغية فطامه، فيدهنانه بعقاقير مُرة ليطفئوا اشتياق الطفل إليه. هكذا يقول السيد المسيح إنها (الوصايا) من الشرير، لا ليشير إلى أن الناموس القديم هو من الشرير، بل ليقودهم بعيدًا عن فقرهم القديم بكل جدية. لكن اليهود عديمي الإحساس والإدراك والمتحفِّظين في كل طرقهم، فقد دهن كل مدنهم برعب الأسر والسبي كما بعقار مر، ليجعل الدخول إليها صعبًا. ولكن إذا فشل معهم هذا الأسلوب، ولم يروعهم بل اشتاقوا أن يعودوا إلى ما اشتهوه مثلاً تمامًا مثلما يَهرع الطفل إلى الثدي، فقد أخفاه عنهم تمامًا. وانتزعه منهم ليبعد معظمهم عنه (تم تدمير أورشليم عام 70م الكاتب الأصلي).
ومثلما نفعل نحن مع قطيعنا، فالكثيرون حين يحبسون العجول، ثم يحثُّونهم في الوقت المناسب على الفطام من اللبن القديم الذي اعتادوا على تناوله(الجملة ناقصة؟؟؟؟).
لكن لو كان الناموس القديم ينتمي إلى الشيطان، لما أبعد الناس عن الوثنية، بل بالأحرى كان سيلقي بهم في أحضانها فهذه هي شهوة الشيطان.
لكننا الآن نرى التأثير العكسي للناموس القديم. فلهذا السبب عينه قد سن هذا التشريع عن القَسم، حتى لا يحلفوا بالأوثان. (إر 4: 2). إذن لم تكن فوائد الناموس صغيرة بل كبيرة جدًا. ولهذا كانوا يأتون إلى الطعام القوي. وهو ما اِهتم به الناموس قديمًا.
وقد يقال: وماذا بعد، أليس القَسم من الشرير؟ بلى، إنه فعلاً من الشرير – وهو المفهوم الذي يدركه الآن من بلغوا حد الانضباط إلى درجة عالية، لكن لم يكن الأمر كذلك قديمًا.
ورُبّ قائل: “هل نفس الشيء يكون في وقت ما صالحًا، وفي وقت آخر شريرًا؟
كلا، بل النقيض تمامًا هو الحق. فما الذي يمنع أن يكون الأمر صالحًا وغير صالح معًا؟ بينما تصرخ كل الأشياء أنها كذلك. الفنون، ثمار الأرض، وكل الأشياء الأخرى؟
تأملوا مثلاً ما يحدث لبني جنسنا، فمن الجيد أن يحملنا الوالدان ونحن صغار، لكن لا يصلح هذا الأمر بعد ذلك. وفي مستهل حياتنا نأكل الطعام اللين طعام الصغار نتناوله بالفم وهو صالح لنا، لكن بعد ذلك يصبح غير صالح. وفي طفولتنا من النافع والصالح أن نهرع إلى أثداء أمهاتنا لنرضع اللبن الصحي، لكن لا يصلح هذا الأمر بعد أن نكبر، بل يضرنا ويؤذينا.
أرأيتم كيف تصلح أشياء لزمن ما ولا تصلح هي نفسها لزمن آخر؟
أجل؛ فثوب الطفل يليق بك ما دمت صغيرًا، لكن حين تصبح رجلاً لا يصلح هذا الأمر، بل يصبح مخزيًا. ثم فكروا في عكس هذا الأمر. فهل يصح أن يتناول الطفل طعام البالغين؟ هل يمكنك أن تعطي طفلاً ثوب إنسان بالغ ليرتديه؟ إنه سيصبح محل سخرية كبيرة. وكذلك قد يسبب السير به خطرًا محدقًا به؛ إذ قد يتعثر ويسقط. وهل نسمح لطفل أن يدير شؤوننا العامة، وأن ينظم المرور، وأن يبذر الأرض، وأن يجني المحصول، إنه سيثير بالطبع سخرية الناس منه.
فلماذا أذكر هذه الأمور لكم؟ إن الجميع يسلِّم بأن القتل من اختراع الشرير. أقول إن القتل قد وجد له فرصة مواتية مع الإنسان الذي ارتكبه فكرَّم الكهنوت؟؟ (قابل عد 25: 8)، إذ كان القتل عمل ذاك الذي ذكرته الآن. اسمعوا ما يقوله المسيح:
“تُريدون أن تعملوا شهوات أبيكم، وذاك كان قتالاً للناس من البدء” (مت 8: 44) ولكن فينحاس أصبح قتالاً للناس، ولكن كتب عنه: أنه حُسب له برًا” (مز 106: 31).
وإبراهيم أيضًا، والذي لم يصبح قتالاً للناس، بل ما هو أسوأ من ذلك بكثير أيّ قتالاً وذابحًا لابنه، هذا قد لاقى إحسانًا كبيرًا بغير قياس. وبطرس أيضًا الذي ارتكب قتلاً مضاعفًا. ومع ذلك فإن ما فعله كان من الروح القدس (أع 5).
دعونا إذن لا نتبسط في فحص هذه الأمور، بل أن نضع في الاعتبار أيضًا الفترة الزمنية والأسباب والأساليب الفكرية واختلاف الأشخاص، وكل ما يصاحب هذه الأمور لتبلغ المطلوب بدقة أكبر؛ إذ ما من سبيل لبلوغ الحق غير هذا السبيل. ولنجتهد إن أردنا بلوغ الملكوت، أن نتجاوز الوصايا القديمة إلى ما هو أعمق منها؛ لأننا لا يمكننا أن نملك ناصية السماء بغير هذا الطريق، لأننا إن بلغنا فقط قامة القدماء سنقف خارج العتبة السماوية. لأنه “إن لم يزِد بِرُّكُم على الكتبةِ والفريسيين، لن تدخلوا ملكوت السماوات” (مت 5: 20).
6. ومع ذلك، ورغم ثقل التهديد الموضوع أمامنا، فإن البعض ورغم بعدهم عن إهمال البرّ، فإنهم كثيرًا ما يقصرون في بلوغه. ورغم بعدهم عن الحنث باليمين كثيرًا ما يحلفون باطلاً. ورغم بعدهم عن النظرة الشهوانية، كثيرًا ما يسقطون في ذات الشر، وكل المحرمات، بل ويتجاسرون على ممارستها، وكأن الشعور بالذنب أمر قد ولَّى لا يتذكرونه. منتظرين شيئًا واحدًا هو يوم العقاب؛ اليوم الذي يدفعون فيه ثمن خطيتهم عقوبةً فادحة لقاء سوء أعمالهم. وهذا هو نصيب الذين أنهوا حياتهم في فعل الشرور فقط. ولهؤلاء عذرهم إن يئسوا، فهم لا يتوقعون أيّ عقاب ينزل بهم! حتى وهم لا يزالون على الأرض هنا، وهي فرصتهم لتجديد قوتهم والغلبة ونوال الإكليل في يسر.
فلا تيأس أيها الإنسان ولا تقلع عن استعدادك الشريف الجاد، أرجوك. فما هي مشكلتك في أن تكف عن القسم؟ هل يكلفك هذا الأمر مالاً؟ هل يكلفك عرقًا ومشقة؟ يكفي أن تتوفر الإرادة لك وسوف يتم كل شيء. لكن إن كنتم تتذرعون لي بعاداتكم، فإنني أقول لكم لهذا السبب عينه، إن فعل الصواب سهل عليكم.(الضمير اختلف) لأنك إن سادت عليك عادة أخرى، فقد تمارس كل العادات: تأمل مثلاً ما يحدث وسط الإغريق في حالات كثيرة أن الأشخاص الذين يعانون من التلعثم في الكلام يتم علاج ألسنتهم المتعثرة. بينما آخرون من الذين اعتادوا هزّ أكتافهم بشكل غير لائق، ودائمًا ما يحركونها باستمرار هؤلاء ما إن يضعوا سيفًا على أكتافهم حتى تنتهي تلك العادة عندهم. وإن كنتم لا تقتنعون بالكتب المقدسة فإنني ملزم أن أفجلكم بها. وهذا ما فعله الله أيضًا مع اليهود حين قال:
“فاعبروا جزائر كتيم وانظروا وارسلوا إلى قيدار وانتبهوا جدًا… هل بدَّلتْ أمة آلهةً وهي ليست آلهةً” (إر 2: 10-11).
بل ويرسلنا بالمثل إلى البهائم أو الحيوانات العجماء قائلاً في هذا الصدد: “اذهب إلى النملة أيها الكسلان، تأمَلْ طُرُقها. واذهب إلى النحلة” (أم 6: 6-8س). وهذا هو ما أقوله لكم الآن أيضًا.
تأملوا فلاسفة اليونانيين وستعرفون كم من عقاب شديد نستحقه نحن الذين نعصي قوانين الله. فهم أمام الناس ومن أجل اللياقة، يبذلون أقصى ما في وسعهم، أما أنتم فلا تبذلون نفس السعي الدؤوب لأجل السماء. فإن كان ردكم على هذا الأمر أن ” للعادة قوة عجيبة في خداع حتى الذين يجتهدون اجتهادًا عظيمًا. أقول لكم بالمثل حتى إن كانت إلى هذه الحد قوية في الخداع، فإنه من السهل تقويمها. لأنكم إن جعلتم في بيوتكم آخرين يراقبونكم مثل خادمك أو زوجتك أو صديقك، لأقلعت فورًا عن العادات المذمومة؛ إذ يضغط عليك الآخرون لمنعك من الاستمرار فيها، فإن نجحت في ذلك طيلة عشرة أيام فلن تحتاج بعدها إلى مزيد من الوقت، بل يصبح كل شيء آمنًا عندك، ويعود من جديد وقد تأصلت فيك العادات الجديدة الفائقة السمو.
لهذا إن بدأت في تصحيح عادة سيئة. فحتى لو تعديت الناموس مرة أو مرتين أو حتى عشرين مرة، لا تيأس، بل قم مرة أخرى، واستعْد نفس حماسك الأول، وسوف تنجح يقينًا. لأن الحنث باليمين ليس من الأمور الهينة. فإن كان القسم من الشرير، فكم وكم يكون العقاب أشد من جرَّاء القسم الزائف. هل تمتدحون قولي؟ كلا، لا تفعلوا. فأنا لا أريد أن أصفق أو أصنع جلبة أو ضوضاء. إني أريد شيئًا واحدًا فقط: أن تنصتوا في هدوء وجدية، ثم أن تفعلوا ما يُطلب منكم، فهذا هو الهتاف والمديح. لكن إن كنتم تمتدحون قولي دون أن تفعلوا ما تهللون له، فإن العقاب يكون أشد وأكثر إيلامًا وقسوة. يجلب علينا الخزي والسخرية، لأن أمور الزمان الحاضر ليست مشهدًا دراميًا في مسرحية ما، ولا أنتم متفرجون تحدقون في بعض الممثلين مكتفين بالتصفيق وحسب. إن هذا المكان مدرسة روحية، وهناك نهاية واحدة فقط علينا أن نسعى لتحقيقها في حينها؛ بأن ننفذ المطلوب منا مظهرين طاعتنا بأعمالنا، لأننا حينئذٍ ننال كل ما نريده. لأننا إن توخِّينا الصدق لأدركنا أن واقعنا يصيب الجميع باليأس. لأنني لم أكف عن إسداء النصائح لأولئك الذين أقابلهم على انفراد، أو في العظات العامة معكم. ومع ذلك لا أرى تقدمًا ملحوظًا على الإطلاق، بل لا تزالون متعلقين بالسلوكيات الفظة السابقة. الأمر الذي يضايق المعلم كثيرًا ويقلقه. انظروا مثلاً بولس الرسول وهو لا يكاد يحتمل أن يؤجل معلموه دروسهم الأولى لفترات طويلة، أو يقول لأنكم إذ كان ينبغي أن تكونوا معلِّمين لسبب طول الزمان، تحتاجون أن يعلِّمكم أحد ما هي أركان بداءة أقوال الله (عب 5: 12).
لهذا السبب ننوح نحن أيضًا ونبكي، فإن رأيتم أن تظلوا على حالكم فسوف أمنعكم في المستقبل من أن تطأ أقدامكم هذه الأعتاب المقدسة، وتشتركوا في السرائر الأبدية، مثلما نفعل مع الزناة والزانيات والقتلة. أجل لأنه من الأفضل أن نرفع صلواتنا المعتادة مع اثنين أو ثلاثة، يحفظون نواميس الله، من أن نحشد جمعًا من العصاة والمفسدين للناس، فيغادر الغني والعاهل الملك والذين يتشامخون عليَّ هنا، ويرفع منهم الواحد حاجبه عاليًا.؟؟ فإن كل هذا هو بالنسبة لي بهتان وظل وحلم. لأنه ما من غني من أغنياء هذا الدهر يتشفع لي هناك، حينما أَمْثل للحساب والمحاكمة؛ بأنني لم أصن نواميس الله جيدًا، وفي جدية ولياقة. ولهذا فإن مثل هذه الأمور قد حطمت العجوز الممتدح (1 صم 3: 13). رغم أنه في حياته لم يكن ملامًا من أحد، ولكن لأنه تغاضى عن الدوس على نواميس الله، طورد هو وأولاده وعوقب بأشد العقاب. فإن كان سلطان الطبيعة المطلق هكذا عظيمًا، فعلى من يفشل في معاملة أولاده بحزم إن يتحمل هذه العقوبة الشديدة. فكم وكم يكون إهمالنا، إذ ونحن متحررون من هذا السلطان لا نزال ندمر كل شيء بنفاقنا؟ وحتى لا تهلكونا وتهلكوا أنفسكم أيضًا معنا، أرجوكم أن تقتنعوا بكلامنا فتقيموا حولكم كثيرين يراقبونكم، يدبرون أحوالكم ويدعونكم لحساب أنفسكم. فتحررون ذواتكم من عادة القسم، حتى إذا ما سلكتم بتدبير حسن، تنجحون جميعكم وبكل يسر أن تمارسوا الفضائل الأخرى، فتنعموا بالصلاح العتيد أن يمنحه الله لكم حتى يكون لجميعنا ربح.
بنعمة ومحبة ربنا يسوع المسيح للبشر، له المجد والقدرة الآن وكل أوان وإلى دهر الداهرين كلها. آمين
العظة الثامنة عشرة
في الترفق بالآخرين
“سمعتم أنه قيل عينٍ بعين، وسنٍ بسن. وأما أنا فأقول لكم، لا تقاومُوا الشرًّ، بل من لطمك على خدك الأيمن، فحِّول له الآخر أيضًا” [ع38-40]
هل رأيتم أنه لم يكن يتكلم عن العين قبلاً؛ عندما وضع الشريعة الخاصة بقلع العين المعثرة، بل عن ذاك الذي يؤذينا بصداقته ويلقي بنا في لجة الهلاك؟ فالسيد الذي يستعمل هذه القوة العظيمة للتعبير في هذا الموضع، والذي لا يسمح لك بضرب من يقلع عينك، كيف يَشرع بضرب الآخر؟
لكن إن كان أحد ما يتهم الناموس القديم بأنه يأمر بالثأر والانتقام، فهو يبدو لي بلا خبرة كافية عن حكمة المشرع، يجهل مدى الربح الذي يجنيه من التنازل. لأنه لو عرف من هم السامعون لهذه الأقوال، وكيف كانت ميولهم وهم يستلمون مثل هذه الشرائع، لأدرك على الفور حكمة معلِّم الناموس الإلهي، ولعلم أن الواحد نفسه هو الذي وضع الناموسين القديم والجديد. وأنه هو الذي كتب كليهما لنفعنا إلى أقصى درجات النفع وفي وقتها المناسب. لأنه إن كان الرب قد أدخل هذه الوصايا الفائقة السمو منذ البداية، وما استطاع الناس قبولها، لا هي ولا وصايا أخرى، لكنه شرَّعها، كل شريعة منها مفردة وفي وقتها المناسب، فقوَّم العالم كله بالناموسين القديم والجديد.
وقد أمر السيد الرب ألا تضرب عين الآخر، ليس هذا فحسب، بل أن تكف أيدينا عن ملاحقته. لأن التهديد بالألم يمنعنا كليةً أن نميل إلى هذه الأمور. لهذا يضع السيد المسيح وفي صمت بذرة ضبط النفس. على الأقل وهو يوصي بعدم الثأر لنفس الأعمال، فإن الذي بدأ بتعدٍ مثل هذا يستحق حتمًا عقوبة أشد، وهذه هي متطلبات وطبيعة العدل المجردة.
وإذ يمزج الرب الرحمة بالعدل، فإنه يدين من كانت تعدياته فادحة بالنسبة لعقوبة أقل يستحقها، ليعلمنا أنه حتى ونحن نتألم علينا أن نظهر مزيدًا من الاهتمام.
وبعد أن ذكر الناموس القديم وأقر بكل ما فيه، يشير مرة أخرى أن من فعل كل ذلك ليس أخونا بل الشرير. ولهذا يكمل قائلاً: “أما أنا فأقول لكم، لا تقاوموا الشر”، فهو لم يقل “لا تقاوموا أخاكم” بل “الشر”. مشيرًا إلى أن الناس يتجاسرون على ذلك بإيحاء من الشرير، ومن ثم فإنه يهدئ من روعنا ويزيل بطريقة سرية معظم غضبنا ضد المعتدي، بتحويله اللوم إلى آخر (الشيطان).
وقد يقال: وماذا بعد؟ ألا ينبغي علينا مقاومة الشرير؛ حقًا يجب ذلك لكن ليست بهذه الطريقة، بل كما أوصى الرب بتسليم الإنسان نفسه إلى احتمال الألم بشكل سليم. وبهذا يستطيع أن يغلبه، لأن النار لا يمكن إطفاؤها بنار أخرى، بل بالمياه نطفئ النيران. ولكي يعرِّفكم أنه في ظل الناموس القديم، من يتألم هو الذي يظفر في النهاية وينتصر ويربح الإكليل، عليكم أن تفحصوا ما تم لتروا أن ربحه كان عظيمًا. لأن من يبدأ بأعمال ظالمة، يُهلك عينيّ جاره وعينيه هو. ولهذا يكرهه الجميع، ويتهمه الكل.
أما المتضرر فلا يكون قد فعل شيئًا مروعًا، بل يتعاطف الجميع معه. حتى بعد ثأره المتعادل، ورغم أن الخسائر واحدة لدى الطرفين، إلا أن الحكم الواقع على كلٍ منهما ليس بنفس القدر، سواء لدى الله أو الناس. لهذا تبدو الفاجعة في النهاية غير متساوية.
وفي حين قال الرب في البداية: “من يغضب على أخيه باطلاً” و “من يدعو أخاه يا أحمق” يكون مستوجب نار جهنم. فإنه هنا يطالب بمزيد من ضبط النفس، فيأمر المتضرر بألا يكون هادئًا وحسب، بل أن يكون أكثر جدية بدوره بأن يحوِّل الخد الآخر. وهو لا يقول هذا بهدف تشريع وتقنين اللطمة الثانية، بل ليعلمنا كيف نمارس مبدأ احتمال الآخر في كل ظروف حياتنا. لأنه مثلما يقول:
“من يدعو أخاه بالأحمق يكون مستوجب نار جهنم”، فإنه لا يتحدث عن هذه الكلمة فقط (كلمة أحمق) بل كل كلمة خصومة أخرى. هكذا هنا أيضًا، حين يشرع قانونًا ما ليس لكي نصبح أكثر رجولة واحتمالاً إذا ما تلقينا لطمة من آخر، بل حتى لا نضطرب مهما كابدنا من آلام. لأنه يشير هنا إلى أكثر الإهانات إيلامًا وقسوة وهي لطمة الخد، والتي تسبب تحقيرًا بالغًا للمضروب. لهذا يوصى الضارب والمضروب معًا. فلا يظن المهان أنه يعاني أيّ أذى، إذ يمارس ضبط النفس، بل إنه قد لا يشعر بالإهانة، إذ يجتهد لأجل الجعالة التي ينالها بسبب اللطمة. ومن يلطم سوف يشعر بالخجل، فلا يكرر لطمته رغم أنه يكون أشد قسوة من حيوان مفترس، بل بالحري سيدين نفسه من كل قلبه بسبب ما فعله. لأنه ما من شيء يمنع فاعلي الشر أكثر من موقف المضروب حين يتلقى الضربة في رقة، بل إن رقته لا تمنع ضاربيه من الاندفاع الأهوج وحسب، بل تدفعهم إلى التوبة بسبب فعلتهم. وعندما يواجه المضروب ضرباتهم بالترفق والاحتمال فإنهم سرعان ما يتراجعون، بل يحوِّلهم رفقنا بهم إلى أصدقاء وخاصة لنا، ويصيرون خدامًا وليسوا أصدقاء فقط لنا. بدلاً من كارهين وأعداء. وبدلاً من أن ينتقم المرء لنفسه. عليه أن يفعل النقيض، لأن الانتقام يخزي الطرفين ويجعل حالهما أسوأ، ويزيد من لهيب غضبهما الذي يشتعل أكثر فأكثر. فلا ينتهي هذا الأمر إلا بالموت ويتبدل الحال من سيِّئ إلى أسوأ.
لهذا لم يحرم الرب فقط أن يغضب الإنسان إذا لُطم على وجهه، بل يشجعنا أن نُشبع رغبة الطرف الآخر، حتى لا تبدو اللطمة الأولى وكأنها ضد إرادتنا. لهذا وحتى توقعوه في خزي، لا تلطموه بالمثل بضربه بقبضتكم، حتى تجعلوه رقيقًا بعض الشيء ويصير خزيه كبيرًا.
2. “ومن أراد أن يُخاصمك ويأخُذ ثوبك. فاتُرك له الرداء أيضًا” [ع40]
فلا يقتصر الأمر على اللطمات وحدها، بل على حاجاتنا أيضًا. فهو يطالبنا بنفس الاحتمال، بل يعطينا صورة بنفس القوة وربما أكثر.
فمثلما يوصينا مثلاً بأن نقهر المعاناة، فإنه هنا يأمرنا بأن نسمح لأنفسنا أن نكون محرومين أكثر مما يتوقعه الشرير. لهذا يعطي الوصية ومعها التحفيز فلم يقل: “اعط ثوبك لمن يطلبه”، بل “لمن أراد أن يخاصمك” وحرفيا لمن أراد أن يقاضيك أمام المحاكم. أيّ الذي يجُرك إلى المحكمة ويسبب لك المتاعب. وبعد أن نصحَ ألا ندعو الآخر بكلمة أحمق وألا نغضب بلا سبب، استمر في المزيد من الإرشاد والطلب: إذ أمر أن نسلم الخد الآخر أيضًا. حتى هنا وبعد أن قال: “كن مراضيًا لخصمك” يعمق من مفهوم الوصية؛ إذ لا يأمرنا أن نقدم للآخر ما يطلبه منا، بل أن نظهر مزيدًا من العطاء والتسامح. وقد يقول قائل وماذا بعد، هل أترك له كل شيء وأمشي عريانًا؟ أبدًا، لن نكون عراة إذا أطعنا هذه الوصايا بكل أمانة، بل بالحري سوف نرتدي أوفر وأكثر مما يرتديه الآخرون.
أولاً: لأن أحدًا لا يهاجم أصحاب الميول الصالحة.
ثانيًا: حتى وإن تصادف وجود أحد بهذه الوحشية والغلظة، فتمادى في الإساءة إلينا، فإن كثيرين سيهرعون لنجدة وستر المعتدَى عليه، إذا رأوه لا يزال يسلك في إنكار ذاته. فلا يكسونه بملابسهم فقط، بل بأجسادهم أيضًا إن أمكن. وحتى لو اقتضت الضرورة أن يمشي الإنسان عريانًا في إنكار ذاته، وألحقه خزي من جرّاء ذلك. فإن آدم أيضًا كان عريانًا (تك 2: 25) في الفردوس “ولم يخجل”. ويوسف كذلك (تك 39: 12) حينما ترك ثوبه وهرب عريانًا كان يسطع ببهاء أعظم. لأن العري ليس شرًا. إذ كان إشعياء أيضًا عريانًا حافي القدمين، ولكنه كان أكثر مجدًا من كل اليهود (إش 20: 2-3).
لكن إن كنا نكتسي مثلما نفعل الآن بأغلى الثياب ثمنًا، نجلب على نفوسنا خزيًا وسخفًا. لهذا ترون أن أولئك أخذوا من الله مجدًا، أما هؤلاء فقد أظهر الأنبياء والرسل خزيهم.
فلا نظن أن وصايا الرب ثقيلة ومستحيلة، كلا، فهي بجانب منفعتها سهلة جدًا، إن تحلِّينا برصانة العقل، نجني من وراءها ربحًا عظيمًا، فهي خير عون لنا، ليس لنا فقط بل للذين يسيئون معاملتنا. هنا يكمن سموها، فهي إذ تحثنا على تحمل الصعاب والمضايقات، فإنها في نفس الوقت أيضًا تعلم الخطاة أن يضبطوا أنفسهم. بينما يظن الذي يسلب الآخرين أشياءهم أنه يصنع عملاً عظيمًا. يراك وأنت تعطيه ما لم يطلبه منك، فتقابل خسته بسخائك، وشراهة طمعه باعتدالك ولطفك. فأيّ درس تراه يتعلمه منك؟ فهو لا يتعلم بكلام مجرد، بل بذات الأفعال حينئذٍ يحتقر الرذيلة ويسعى للفضيلة. لأن الله يريدنا أن نكون نافعين لا لذواتنا فحسب، بل لكل جيراننا أيضًا. فإن أعطيت الآن وامتنعت عن مقاضاة الآخرين، فإنك تفيد نفسك فقط. لكن إن أعطيته شيئًا آخر غير الذي طلبه منك، فإنك تجعله في حال أفضل حينما يرحل عنك. هذه هي طبيعة الملح الذي يريدنا الرب أن نكونه، فهو يصلح ذاته، ويحفظ أيضًا المواد الأخرى التي تُملِّح بها. وهذه هي طبيعة النور، فهو يكشف كل شيء، لنفس الإنسان ولنفوس الآخرين أيضًا. فإن وضعكم السيد المسيح في هذه المرتبة، اعينوا الجالسين في الظلمة. وعلموا الغاصبين، واقنعوهم أن يأخذوا منكم دون عنف. وهكذا تصيرون أنتم أنفسكم أكثر احترامًا ووقارًا؛ إن أظهرتم للناس أنكم تعطون بمحض إرادتكم ومجانًا، لا بالاغتصاب والسرقة. اجعلوا إذن من خطية الآخر فرصة لنفعكم وخيركم وذلك بلطفكم واعتدالكم.
3. وإن كنتم تظنون أن هذا عمل عظيم، تريَّثوا وسترون أنكم لم تبلغوا بعد حد الكمال، فالسيد الرب لا يكتفي بهذا القدر. فالذي شرَّع نواميس التحمل والصبر وطول الأناة يقول أيضًا: “من سخَّرك ميلاً فاذهبْ معهُ اثنينِ” [ع41]
هل ترون سمو إنكار الذات، على الأقل بشأن هذا الأمر، فبعد أن تعطي ثوبك ورداءك، وحتى إن طالبك عدوك بأن يسخر جسدك العاري في المشقات والصعاب، فلا تمنعه. لأن الرب يعطينا أن نملك كل شيء مشتركًا، أجسادنا وأغراضنا مع ذوي الاحتياجات. وهكذا أيضًا مع الذين يلحقون الإهانة بنا، لأن الرجولة تلزمنا بذلك تجاه من يسبب الأذى لنا، وتدفعنا الرحمة أن نهتم بكل ذي حاجة. ولهذا يقول:
إذا ألزمك أيّ أحد أن تسير معه ميلاً، فاذهب معه ميلين. هكذا يرفعكم الرب إلى درجة أخرى أعلى، فيأمركم أن تظهروا قدرًا وافرًا من التضحية والبذل.
وإن كانت الأمور التي تحدث عنها مثلاً هي أقل سخاءً من ذلك، ولها كل هذه البركات الوفيرة، فكم بالأحرى يكون نصيب الذين يتممون تلك الوصايا الجديدة، وما حالهم بعد نوالهم المكافآت في جسد بشري قابل للتألم، إذ ينال حرية كاملة من الشهوة والتألم. إذ لا تؤثر فيه لا الإهانات ولا اللطمات ولا سلب ممتلكاته ولا التحرش به. فأصحاب الأجساد صاروا يتجاوزون تلك الأمور، بل ويحتملون أكثر منها. هكذا يعكسون نوعًا من مرونة النفس التي يمارسونها عمليًا. ومثلما هو الحال مع الضربات وما نحوزه من خيرات، هكذا أيضًا في مثل هذه الحالة، يأمرنا الرب قائلاً:
لماذا أتحدث عن الإهانة والممتلكات، فرغم أن خصمك يريد أن يستغل أعضاءك في المشقة والعمل المضني بغير حق، يمكنك أن تقهر شهوته الظالمة تلك وتغلبها. لأن كلمة “يسخرك” أو “يلزمك” تعني أن يجبرك دون حق ودون سبب، فقط لغرض قهرك.
ومع ذلك، كن مستعدًا أيضًا لهذا الاحتمال، واستعد أيضًا لمزيد من الألم أكثر مما يميل الآخرون إلى دفعك وإيلامك. فاعطه رداءك أيضًا، ومن سألك فأعطه، ومن أراد أن يقترض منك، فلا ترده (مت 5: 42). وهو مطلب أقل كثيرًا مما سبقه، فلا تتعجبوا؛ لأن هذا ما يريده الرب منا على الدوام أن نمزج القليل مع الكثير، فإن بدا هذا الأمر قليلاً بالمقارنة بغيره من عظائم الأمور، فليسمع المغتصبون لخيرات غيرهم، والمبددون لثرواتهم بين الساقطات ليوقدوا في أنفسهم نارًا أعظم بسلوكهم غير التقي، وبالإنفاق الضار بهم.
وكلمة “يقترض” هنا لا يعني بها الرب سوء استخدام المال في الربا، بل حتى في الاستعمالات اليومية أو الإقراض العادي بغير مرابحة – ليعمق من الوصية – قائلاً: إنه ينبغي أن نعطيهم دون أن ننتظر منهم أن يردوا لنا ما اقترضوه (لو 6: 35).
4. “سمعتُم أنه قيل تُحبُّ قريبك وتُبغضُ عدُوَّك. وأما أنا فأقول لكم: احبُّوا أعداءكُم، باركُوا لاعنيكُم، احسُنوا إلى مُبغضيكم. وصلُّوا لأجل الذين يُسيئون إليكم ويطرُدونكُم، لكي تكونوا أبناء أبيكمُ الذي في السماوات. فإنه يُشرقُ شمسهُ على الأشرار والصالحينَ، ويمطرُ على الأبرار والظالمينَ” [ع43-45]
هنا يكشف الرب عن ذروة العمل الصالح، لهذا لا يعلمنا فقط أن نحتمل اللطمة، بل أن نحوِّل الخد الآخر أيضًا، ولا أن نعطي الثوب فقط، بل أن نسلِّم الرداء أيضًا، وأن نمشي ميلين مع من يسخِّرنا لنمشي معه ميلاً واحدًا، لكي نقبل في سهولة ما هو أعظم من ذلك من صعاب ومتاعب. ورُبّ قائل: ولكن ما هو المطلوب أكثر من ذلك؟
المطلوب، ألا نحسب من يفعل شرًا ضدنا بأنه عدونا، بل من يفعل ما هو أصعب. فالمسيح لم يقل: “لا تكره”، بل “أحب” ولم يقل “لا تجرح مشاعر أحد”، بل قال “احسن إليه”. وإذا فحص أحدكم أقوال الرب جيدًا، لوجد أنه أضاف شيئًا آخر أعظم بكثير مما سبق؛ فالسيد الرب لم يطلب هكذا ببساطة أن نحب الآخر بل أن نصلي لأجله، ليرفعكم إلى درجات أعلى ونضعها على قمة كل الفضائل. أجل، وما عليكم إلا أن تلاحظوها وأن تحسبونها منذ البداية.
فالخطوة
الأولى: ألا نبدأ نحن بالظلم.
الثانية: ألا نقابل الخطأ بخطأ وألا نثأر بانتقام موازٍ.
ثالثًا: ألا نعامل من يضرنا بنفس المعاملة، بل أن نهدأ تمامًا.
رابعًا: أن نبذل ذواتنا لأجل من يخطئ إلينا.
خامسًا: أن نعطي أكثر مما يطلب الآخر أو يعطي.
سادسًا: ألا نكره من يفعل بنا شرًا.
سابعًا: أن نحب هذا الآخر.
ثامنًا: أن نحسن إليه أيضًا.
تاسعًا: أن نصلي لأجل من يسيء إلينا.
أترون سمو هذه الوصية للنفس؟ وسترون عظم مجازاتها لنا؛ إذ أنها وصية عظيمة تتطلب نفسًا متوقدة تتحلى بكل الحمية والجهاد. لهذا يعيِّن الرب لها هذه المكافأة، والتي لم تتوفر لأحد من قبل. فهو لا يتحدث هنا عن ميراث أرضي مثلما هو الحال عند الودعاء، ولا عن الراحة والرحمة، مثلما هو الحال للحزانى والرحماء. ولا يتحدث عن ملكوت السماوات، بل تكلم عن أمر أروع من هذا كله، أن نصير مثل الله.
وهذه هي الحكمة المطلوبة من كل الناس، وهذا هو المطلوب منهم أن يتمثلوا به. لأن الكتاب يقول: “لتكونوا مثل أبيكم الذي في السماوات” (ترجمة حرفية).
لاحظوا كيف أن الرب لم يدعَ الله أباه، لا في هذا الموضع ولا في مواضع أخرى سابقة، بل دعاه “الله” و “الملك العظيم” حين تناول وصية القسم. أما هنا، فهو يدعوه “بأبيكم” وهو يفعل ذلك حافظًا “باقي” الأمور لوقتها المناسب حين يعلمنا شيئًا منها.
5. وإذ يقترب من الشبه كثيرًا يقول:
“فإنه يُشرقُ شمسهُ على الأشرارِ والصالحينَ، ويمطرُ على الأبرارِ والظالمين” [ع45]
فإن الله الآب – حاشا له أن يعرف الكراهية لأحد – فيمطر خيراته على الذين يسيئون إليه، والحالة هنا لا مثيل لها أبدًا. ليس فقط بسبب الطبيعة الفائقة لخيرات الله الآب نحو الجميع، بل بسبب السمو الفائق لكرامة الله. لأنكم قد تُهانوا حقًا من خدامكم الذين تشتركون معهم في العبودية لله. لكن ماذا من الله حين يُهان من عبيده، وهم الذين يعطيهم بسخاء منافع لا حد لها. وأنتم لا تقدمون في صلواتكم إلا كلمات، أما الله فيقدم أفعالاً عظيمة وعجيبة جدًا للغاية؛ إذ يشرق شمسه وينزل مطره. ويقول لنا الآب:
“ومع ذلك فإني أهبكم أيضًا أن تتشبهوا بي، بقدر ما يمكن للإنسان أن يكون مساويًا لي”
فلا تكرهوا حتى من يسيء إليكم، فهو يفعل خيرًا معكم، ويهبكم كرامة عظيمة. ولا تلعنوا حتى من يلعنكم، لأنكم إن لعنتم حرمتم أنفسكم من الثمار العظيمة. وتكبدتم خسارة جسيمة، وخسرتم الجعالة العليا بسبب حماقتكم. فبعد أن تكبدتم ما هو أكثر إيلامًا لا تحتملون ما هو أقل من ذلك.
ورُبّ قائل: وكيف يمكن أن يحدث هذا؟ لقد علمتم أن الله صار إنسانًا، وتنازل تنازلاً عظيمًا، وتألم كثيرًا لأجلكم، فهل لازلتم تتسائلون وتشكون في الأمر؟ وكيف يمكنكم أن تغفروا لجيرانكم آثامهم؟ ألا تسمعونه وهو على الصليب يقول:
“اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون” (لو 23: 34). ألم تسمعوا بولس الرسول يقول: “الذي ارتفع إلى يمين الله في الأعالي. الذي أيضًا يشفع فينا” (رو 8: 34).
ألا ترون أنه حتى بعد الصلب والقيامة والصعود، يرسل الرسل إلى اليهود الذين صلبوه، ليمنحهم وافر وسخى بركاته (بالعشرة آلاف)، رغم أن رسله قد عانوا على أيدي اليهود أهوالاً بغير حصر (فاقت العشرة آلاف أيضًا)؟
6. ولكن هل أساء الناس إليكم إساءة فادحة؟ كلاَّ، فما تحملتمونه أنتم لا يرقى إلى ما تحمله ربكم، الذي جُلد بالسياط على ظهره، وضُرب بالقصبة على رأسه وجسده، وبَصق عليه العبيد والخدم، واحتمل الموت، وذاق أكثر الميتات خزيًا وعارًا، بعد أن أظهر لنا نعمًا بغير حصر؟
حتى وإن أساء إليكم الناس أشد إساءة، فلهذا السبب عينه، احسنوا أنتم إليهم، ليصير إكليلكم أكثر مجدًا. ولتحرروا أخاكم من أثقل أنواع الشعور بالدونية. لأنه هكذا يفعل الأطباء، إذا لطمهم أحد المجانين وأساء إليهم بشكل يبعث على الخزي، فإنهم يشفقون عليه جدًا، ويسعون إلى إكمال علاجه، عالمين أن الإهانة صادرة منهم بسبب شدة أمراضهم.
وأرجوكم أن يكون لكم نفس الفكر حينما تتعاملون مع المتآمرين ضدكم، والمسيئين إليكم، والذين يضرونكم، فإن من يتعاملون بمنتهى العنف معكم هم أكثر الناس مرضًا. فحرروهم أنتم من حالهم المؤلم وامنحوهم أن يبددوا غضبهم، وحرروهم من قيود الغضب، التي يكبلهم بها الشيطان الكريه. أجل، لأننا إن رأينا أشخاصًا بهم شياطين، نبكي لأجلهم، ولا نسعى أن نكون مثلهم فيدخلنا الشياطين.
وهكذا فلنفعل مع الذين يتملكهم الغضب، لأن الهائجين غضبًا يشبهون الممسوسين بالشياطين، بل هم أقسى منهم، إذ يهتاج ضميرهم المجنون، ولهذا فإن هياجهم بلا عذر. فلا تدوسوا على الساقطين، بل بالحري ترفقوا بهم وأشفقوا عليهم. لأننا حين نري إنسانًا يتخبط من داء عضلي، وقد عميت بصيرته وانفلتت أعصابه ونسعى لطرد هذا الروح المستهتر والشرير، نمد أيدينا ونظل نعينه على جهاده. ورغم تلطيخ ثيابنا، فلا نهتم بل نسعى وراء شيء واحد فقط، هو أن نحرره من هذا الداء الثقيل.
هكذا أيضًا علينا أن نفعل حيال الغضب، فنتحملهم حين يتقيأون وحين يصارعون المرض، ولا ندع المصروع يمضي حتى نخلصه من كل أثر للمرارة عنده. حينئذٍ نشعر بمنتهى الامتنان والشكر من نحوه حين يستريح، وحين يعلم كيف حررتموه من كل ما حل به من متاعب.
ولكن لماذا أذكر امتنانه وشكره لكم؟ لأن الله سيكللكم بنفسه، وسيجازيكم بكرامات لا حدود لها. لأنكم حررتم أخاكم من مرضه الخطير، وهذا الأخ سيكرمكم أيضًا، ويقدر احتمالكم له ويوقره. ألم تروا النسوة حين يأتيهن المخاض، وكيف ينشبن أسنانهن فيمن حولهن، فلا يُظهر المساعدون ألمًا بل يتحملون، وحتى لو تألموا منهم يحتملون الألم ببسالة ويتعاطفون مع الذين يسحقهم الحزن وتمزقهم الآلام. عليكم أن تتفوَّقوا على هؤلاء، وتبرهنوا أنكم رجال متميزون، فإن ثمة رجالاً يظهرون أضعف عقلاً من النساء.
وإن كانت الوصايا تبدو ثقيلة، فاعلموا أن المسيح قد جاء لهذه الغاية؛ أن يزرع في عقولنا وصاياه، وأن يجعلنا نافعين للأعداء وللأصدقاء. ولهذا يوصينا أن نهتم بالإخوة، مثلما قال: “إن قدمت قربانك”. ويوصينا بالأعداء – حينما يشرِّع قانونًا – بمحبتهم والصلاة لأجلهم.
7. والرب لا يحثهم على هذا فقط بواسطة المثال الذي يعرفونه عن الله، بل يحدثهم عن أمر آخر مناقض. فيقول: “لأنه إن أحببتُم الذين يحبونكُم فأيَّ أجر ِلكم؟ أليس العشَّارون أيضًا يفعلُون ذلك؟” (مت 5: 46).
وهذا ما يقوله بولس الرسول أيضًا. “لم تقاوموا بعد حتى الدم مجاهدين ضد الخطية” (عب 12: 4). فإن فعلتم ذلك اتخذتم مركزكم مع الله، وإن لم تفعلوا، صرتم كالعشَّارين. فهل ترون كيف أن المسافة بين الوصايا ليست بهذا الاتساع، كالفارق بين الأشخاص؟ لهذا فلنكف عن وصف الوصايا بأنها ثقيلة، بل نهتم بالمجازاة، ونفكر فيمن نشبه، إن نحن أقمناها كما يجب وفي حينها، وفيمن نساوي إن تنحِّينا عنها.
فإن كان الرب يأمرنا أن نتصالح مع أخينا، وألا نكمل عملنا حتى نزيل العداوة بيننا، فإنه لم يفرض علينا هذه الضرورة حين تحدث عن الأشخاص عمومًا، بل طالبنا بما نحن مسئولون عنه من جهتنا. وبهذا يسهل علينا الناموس. لأنه بمقدار ما قال إنهم “اضطهدوا الأنبياء الذين قبلكم” ليتحول ميلهم إلى الآخرين إلى حسن الحوار بتأثير هذه الكلمات، فإنه يأمرهم أن يحبوهم أيضًا مع احتمالهم لأفعالهم ضدهم.
8. أترون كيف يقتلع جذور الغضب وكيف ينتزع الشهوات الحسية، ومحبة الغنى والمجد الباطل، وكل ما يخص أمور هذه الحياة؟ لهذا فعل كل شيء من بدايته وها هو يفعل المزيد الآن: فالمسكين والمتواضع والحزين يفرغ نفسه من غضبه، والبار والرحيم يفرغ نفسه من شهوة الغنى، والنقي القلب يتطهر من الشهوات الشريرة. والمضطهد والمتألم بسبب الشتائم وأقوال الشر، يمارس في الحقيقة احتقارًا كاملاً لكل أمور الزمان الحاضر، ويتحرر من الكبرياء والمجد الباطل.
وإذ يفرغ السيد الرب من تحرير السامع من تلك القيود، وبعد أن يمنحه استعدادًا للنزال والمعارك، فإنه ينتزع جذور شهواته بمزيد من الحزم، لأنه إذ بدأ بالغضب واستأصل أوتار الشهوة من كل جانب، بقوله “من يغضب على أخيه” و”من يدعوه يا أحمق” أو “رقًا” فليُعاقب. ومن يقدم قربانه عليه ألا يقترب من المذبح قبل أن يزيل العداوة مع أخيه، ومن له خصم وقبل أن يدخل المحكمة، عليه أن يجعل من عدوه صديقًا. فإنه ينتقل إلى موضوع الشهوة مرة أخرى ليقول “كل من ينظر نظرة شهوانية يُعاقب كزانٍ” وكل من تغويه امرأة شهوانية أو رجل شرير أو شيء آخر، فليقطع عنه كل هؤلاء. ومن عنده زوجة شرعية لا يطلقها أبدًا، ولا ينظر إلى أخرى، فإنه بذلك يستأصل جذور الشهوات الشريرة. ثم يمنع محبة الغنى فيأمر ألا يحلف المرء أو يكذب، أو يحتفظ بثوب يطلبه منه آخر، تصادف أننا نرتديه، بل أن يعطيه الرداء أيضًا (المعطف فوق الثوب)، وأن نسعى لخدمة حاجات الناس المادية فلا نشتاق أبدًا إلى الغنى والثروة.
عندئذٍ يبلغ ذروة العقل، وقمة الوصايا فيقول: “صلوا لأجل الذين يسيئون إليكم”، ليقودنا إلى قمة ضبط النفس. أن يكون الإنسان وديعًا لا يساوي أن يتلقى الركلات والضربات، وأن يكون رحيمًا، لا يعادل إعطاءه ثوبه والرداء أيضًا لمن يطلب. ويكون الإنسان بارًا لا يتساوى مع احتمال الضرر والأذى. ولا كون الإنسان صانع سلام يعادل أن يتعايش مع الآخر الذي يلطمه ويقهره. ولا كون الإنسان مضطهدًا يساوي أن يبارك مضطهديه. هل ترون كيف يقودنا الرب بالتدريج إلى قمم أعتاب السماء؟
9. ماذا نستحق إذن، نحن الذين أوصانا أن نتمثل بالله، بينما نحن نشبه العشَّارين؟ لأنه “إن كنا نحب من يحبنا” فإننا نلعب دور العشَّارين والخطاة والوثنين. فكم وكم إن كنا حتى لا نفعل ذلك، بل نحسد إخوتنا المكرمين. فأية عقوبة لن نتعرض لها، ونحن قادرون أن نفوق الكتبة. بينما نحن أدنى من الوثنين كيف لنا إذن أن نعاين الملكوت؟ أرجوكم، كيف نطأ تلك العتبة المقدسة ونحن لم نعرف كيف نتفوق على العشَّارين، إذ أن هذا ما لمَّح إليه السيد سرًا قائلاً:
“أليس العشَّارين أيضًا يفعلون ذلك”؟ وهذا ما يثير إعجابنا بتعليمه بوجه خاص، إذ يعرض في كل جزئية تلك المكافأة العظيمة جدًا في وقت الضيقة، مثل “معاينة الله” و “ميراث ملكوت السماوات” و “صيرورتنا أولاد الله” و “مماثلتنا بالله” و “نوال الرحمة” و “التعزيات” و “المجازاة العظيمة” في كل مرة يذكر فيها الضيقات الشديدة. وهو يفعل ذلك بنبرة لطيفة، ففي المقام الأول، ورواسم الجحيم، مرة واحدة وحسب، في أكثر من حالة، وفي حالات أخرى أيضًا، كان يهذب سلوكيات السامع في تحفظ، وكأنه يلقي عظته وحديثه بإثارة مشاعر الخجل لدى السامع وليس بالتهديد، حين يقول:
“ألا يفعل العشَّارون ذلك؟” و”إذا فسد الملح” و “يدعى الأصغر في ملكوت السماوات”.
وهناك مواضع يسحق فيها الخطية نفسها بحزم في إظهار العقوبة، تاركًا السامع يقدر مدى فداحة هذا العقاب، مثلما يقول “فقد زنى بها في قلبه” و”يجعلها تزني” و “ما زاد على ذلك فهو من الشرير”. لأن الفاهمين لا يحتاجون أن يذكرهم أحد بالعقوبة. إذ تكفي فظاعة الخطية وانعدام الصلاح. لهذا يذكر العشَّارين والأمم. واصفًا التلميذ في حالة من الخجل من هذا الصنف من الناس، وهذا ما يفعله بولس الرسول أيضًا، قائلاً: “لا تحزنوا كالباقين الذين لا رجاء لهم” (1 تس 4: 13). و “كالأمم الذين لا يعرفون الله” (1 تس 4: 5). ولكي يشير إلى ذلك لا يحتاج السيد المسيح إلى شيء فائق جدًا في قوته، بل إلى أكثر قليلاً من المعتاد، إذ يقول: “ألا يفعل الأمم ذلك” (مت 5: 47). ومع ذلك، فهو لم يوقف العظة عند هذا، بل ختمها بحديثه عن المجازاة التي يهبها لنا. وعن هذه الآمال الصالحة قائلاً: “فكونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذي في السماوات هو كامل” (مت 5: 48). وهو يثير في كل مكان وبوفرة اسم السماوات، بقصد أن يرفع من عقولهم بشكل كامل. والذي لا أفهمه حتى الآن لماذا كانوا هكذا ضعفاء وأغبياء.
10. فلنتفهم كل ما قيل، ولنظهر كل الحب لأعدائنا. ولنطرح عنا تلك العادة السخيفة، التي يخضع لها الذين بلا تفكير منتظرين من يقابلهم أن يبدأهم أولاً بالتحية، وليست لديهم أية غيرة نحو تلك العادة التي لها بركة كبيرة. لكنهم يتبعون ما هو سخيف. لأنه لأي سبب لا تبدأون بتحية الآخر؟ ويكون ردكم “لأنه ينتظر منا أن نفعل ذلك” كلا، فهذا عذر واهٍ وضعيف. وعليكم أنتم أن تبدأوا بمخاطبة الآخر من أجل ربح الإكليل المُعَدّ.
ورُبّ قائل: كلا، فإن هذا هو ما يهدف إليه. فهل هناك أسوأ من هذه الحماقة؟ أن يقول إن هذا هو ما يهدف إليه، أن يهدف إلى نوال الإكليل كحافز لي. إنني لن أصافح مثل هذا الاقتراح، فإن كان هو الذي بدأ بتحيتك، فلن تجني شيئًا، حتى وإن بادرت أنت بالكلام وتخاطبت معه بعدها. لكن إن كنت أول من يبادر بتحيته والحديث إليه، فقد استفدت وربحت من كبريائه، وحصدت ثمارًا عظيمة وعديدة من جرَّاء امتناعه هو عن الحديث إليك.
أية غباوة تلك، إن كنا نجني ثمارًا عظيمة لمجرد النطق ببضع كلمات، ولا نفعل فنفقد الربح. وعوضًا عن ذلك ندين الآخر فنقع في نفس خطيئته. لأنك إن كنت تلومه على تقصيره في تحيتك أولاً، فلماذا تفعل أنت نفس الشيء الذي تتهمه به؟ فلماذا تحاكي الشر وكأنه شيء صالح؟ ألا ترى أن الحماقة هي أن تكون لك شركة مع الشر؟ لهذا أرجوكم أن تهربوا من هذا الشر وهذا السلوك المعيب. فإن معظم الصداقات قد اتخذت هذه المسائل فتسببت في عداوات بلا حصر.
لهذا السبب إذن فلنسبق الآخرين في فعل الخير، فالذين يوصيهم الرب أن يتلقوا الضربات ويقبلون السير أميالاً، ويجردون أنفسهم من ثيابهم على أيدي أعدائهم، ويحتملون كل ضيقة، لا يليق بهم أن يتورطوا في هذا الفعل الشائن؛ فيحجمون عن مخاطبة الآخرين أولاً.
11. ورُبّ قائل: لماذا نقبل الاحتقار والبصق علينا، لحظة قيامنا بهذا الإحساس نحو الآخر؟ هل تخالف الله حتى لا يحتقرك إنسان؟ وحتى إن احتقرك جار مختل عقليًا، فهل تزدري أنت بالرب الذي وهبك هذه المنافع العظيمة؟ كلاَّ. فإن كان من الخطأ أن يحتقرك نظيرك، فكم يكون أشد مرارة أن تحتقر أنت الإله الذي خلقك؟
وعلينا أن نتأمل نقطة أخرى، أنه حين يحتقرك جارك، فإنه في نفس اللحظة عينها يدبر لك فرصة نوال جائزة أعظم، لأنك تخضع لله وتسلم له ذاتك، لأنك تسمع وصاياه. فأية كرامة يعادلها هذا الأمر؟ ويا لها من أكاليل كثيرة نستحقها إذا ما قبلتُ أنا أن يزدري بي الآخرون لأجل الله عن أن يكرِّمني كل ملوك الأرض. فلا شيء يعادل هذه الكرامة. فلنسع وراء هذه الوصية مثلما أوصانا الرب بحكمة فلا نهتم بأمور الناس، بل نضبط أنفسنا في كل شيء ونوجه حياتنا نحو هذا الهدف. لأننا منذ الآن، ومنذ هذه اللحظة، سننعم بالخيرات السماوية وبالأكاليل العلوية، فنسلك كملائكة بين الناس، متجولين في الأرض كقوات ملائكية، ممتنعين عن كل شهوة، ومن كل التواء، فننال مع كل ما نلناه بركات لا ينطق بها. يعطينا أن نحصل عليها بنعمة ومحبة ربنا يسوع المسيح الذي له المجد والقوة والتسبيح مع الآب غير المخلوق والروح القدس الصالح الآن وكل أوان وإلى دهر الداهرين كلها آمين.
العظة التاسعة عشرة
“احترزوا من أن تصنعوا صدقتكُم قُدَّام الناس لكي ينتظرُوكُمْ” [مت 6: 1].
السيد الرب هنا يستأصل ما تبقَّى من أشد الشهوات طغيانًا، أي هياج وجنون المجد الباطل، والذي يتعمق في صدور من يصنعون خيرًا وصلاحًا. والمسيح لم يذكر هذا أبدًا في بداية حديثه، حتى لا يصبح كلامه من نافلة القول (زائد بلا لزوم)، وقبل أن يحثهم على فعل أيّ أمر يجب عليهم فعله، ليعلمهم كيف يمارسون العمل الصالح في حينه. لكن بعد أن قادهم إلى ضبط النفس، بدأ يتعامل بشكل سرِّي لإزالة وغسل ما علق بالنفس من أدوات. لأن هذا الداء لا يتولد هكذا فينا بشكل عشوائي، بل ينمو حينما نمارس العديد من الوصايا. لهذا كان من اللائق أولاً أن يزرع فينا الفضيلة، ثم يزيل الشهوة التي تحجب ثمار العمل الصالح فانظروا كيف بدأ:
لقد بدأ بالصوم والصلاة والصدقة؛ لأن الفضيلة تتأصل في ظل هذه الأعمال الصالحة. لهذا فإن الفريسي كان قد انتفخ وتكبر حين قال:
“أصومُ مرتينِ في الأسبوعِ؟ وأُعشرُ كُل ما اَقتنيهِ” (لو 18: 12). هكذا كان يمجد نفسه باطلاً أيضًا في صلاته – فجعلها صلاة للتباهي والتفاخر – وإذ لم يجد أحدًا من الحاضرين سوى العشَّار. أشار إليه قائلاً: “إني لستُ مثل باقي الناس… ولا مثل هذا العشَّار!” (لو 18: 11).
لاحظوا كيف بدأ السيد المسيح، كما لو كان يتكلم عن حيوان مفترس، من الصعب اصطياده، فهو حيوان ماكر يعرف كيف يخدع غير المتيقظين. هكذا يقول:
“احترزوا أن تصنعوا صدقتكم علانيةً” وهكذا يقول بولس الرسول لأهل فيلبي “احترزوا من الكلاب” (في 3: 2). ولقوله هذا سبب؛ فالشيطان يشبه حيوانًا شريرًا يأتينا خلسة دون جلبة، فيملأنا بالكبرياء ودون أن نلاحظ ينتزع ما بداخلنا. لهذا اهتم السيد المسيح جدًا أن يتحدث عن الصدقة كثيرًا. وأن يذكر أعمال الله “الذي يشرق على الأشرار والأبرار” (مت 5: 45). وكان يحثهم بكل شكل ويحضهم بكل دافع أن يكثروا من صدقاتهم. فينتهي حديثه وقد اِنتزع كل ما يعوق نمو شجرة الزيتون اليانعة ولنفس السبب يقول: “احترزوا من أن تصنعوا صدقتكم قدَّام الناس”. لأن هذا الذي سبق الحديث عنه هو “صدقة الله”.
2. وحين قال “ليس قدَّام الناس”، أضاف “لكي ينظروكم”.
ورغم ما قد يبدو أن ما قاله أولاً قد كرره ثانيًا. فإن من يمعن النظر يري أن الأمر ليس كذلك، بل يختلف ما قاله أولاً عما قيل مرةً ثانية، وأن ما قاله يوفر لنا الأمان كله، والرقة والاهتمام الفائقين للوصف. فالذي يقدم صدقاته أمام الناس قد لا يفعل ذلك لينظروه، وأيضًا قد لا يدفع آخر صدقته قدام الناس، ومع ذلك فإنه يفعل هذا لينظره الآخرون. لهذا فإن المشكلة ليست في طريقة تقديم الصدقة، بل في النية والتي بسببها ينال الإنسان عقاب أو مجازاة. وما لم تكن الصدقة بهذه الدقة، لأحجم كثيرون عن تقديمها. لأنه ليس من الممكن إعطاؤها سرًا في كل حالة. ولهذا فالرب يحرركم من هذا الالتزام، ويحدد العقاب والأجر. لا بسبب الفعل، بل بسبب نية الفاعل. وحتى لا تقول: ماذا؟ هل أكون الأسوأ إذا رآني أحد أتصدق؟ فإن الرب يقول لك “لا ليس الأمر كذلك، وليس هذا ما أقصده، بل إني أقصد الفكر الذي فيك، ومشاعرك المصاحبة للفعل”، لأن مشيئته أن يضع نفوسنا معًا في إطارها الصحيح وأن يخلصها من أيّ مرض يعتريها. وإذ يمنع الناس من أفعال التظاهر والعرض أمام الناس. وبعد أن أظهر لهم عقوبة هذا الفعل، وبطلانه، فإنه يثير نفوسهم مرة أخرى بأن يضعهم في فكر الآب وفكر السماء، فهو لا ينبههم بالخسارة فقط، بل يخزيهم بتفكرهم فيمن وهب لهم الكيان؛ إذ يقول لهم: “وإلا فليس لكم أجر عند أبيكم الذي في السماوات” (مت 6: 1). ولا يتوقف عند هذا الحد، بل يتقدم أيضًا مظهرًا دوافع أخرى تزيد من نفورهم. فمثلما تحدث عن العشَّارين والأمم مشبهًا الشخص الذي يحاكيهم بأنه شخص يحيا في خزي، هكذا أيضًا يتحدث عن المنافقين. “فمتي صنعت صدقةً فلا تُصوت قُدَّامك بالبوقِ كما يفعل المراؤُون” [ع2]. ولا يقصد أن لديهم أبواقًا يصوتون بها، بل يعني إظهارهم على الملأ لشدة هياجهم. وهو يعبِّر عنها بلغة مجازية، قاصدًا أنهم يعرضون أنفسهم للجميع. ويسمِّيهم بالمرائين لأنهم يضعون قناع الرحمة، بينما روحهم هو روح القسوة المجرد من الإنسانية. لأنهم يتصدقون، ليس لأنهم يرثون لجيرانهم ويشفقون عليهم، بل ليستمتعوا هم أنفسهم بالصدقة على الآخرين. وهو عمل في منتهى القسوة. فيينما يهلك الآخر جوعًا، يطلبون هم المجد الباطل، ولا يضعون حدًا لمعاناته. إذن ليس المطلوب أن نعطي صدقة، بل المطلوب هو غاية هذا العطاء، وأن يكون إعطاؤها كما يليق.
وبعد أن سخر السيد الرب من هؤلاء الناس، وتعامل معهم بهذا الأسلوب، ليخجل السامع منهم، فإنه للمرة الثانية يعود ليقوِّم فكرهم المختل تمامًا. وبعد أن قال إنه لا ينبغي هكذا، يشير إلى ما يجب علينا فعله، فكيف إذن نصنع صدقتنا؟ يقول: “لا تُعرِّف شمالك ما تفعلُ يمينك” [ع3].
والمسيح لا يتحدث هنا بشكل مباشر عن الأيدي، بل بتعبير مجازي يقول: إن أمكن أن تجهل أنت نفسك ما تفعله، فلتسع إلى هذا الهدف في إعطاء الصدقة. فإن أمكن، احجب الصدقة حتى عن أيدي مقدمها. ولا يعني ذلك حسب زعم البعض أن تخفيها عن أصحاب الأفكار الخاطئة عن الصدقات، لأن الرب يوصي هنا أن نخفيها حتى عن أعين الكل.
فكروا في عظم المكافأة التي تنالونها، لأنه بعد حديثه عن عقاب سلوك ما، يشير أيضًا إلى كرامة سلوك آخر، وفي الحالتين يحثهم ويقودهم إلى دروس سامية. أجلّ، فهو يحضهم أن يعرفوا أن الله حاضر في كل مكان، وأن اهتماماتنا لا تنحصر في هذا الزمان الحاضر، بل إن محكمة رهيبة سوف تنعقد لنا هناك. فنعطي حسابًا عن كل أعمالنا، وكرامتنا، وعقوباتنا، ولن يخفي أحد أي شيء مهما كان عظيمًا أم حقيرًا، حتى وإن بدأ مخفيًا عن أعين جميع الناس. وهو يشير إلى كل هذا سرًا بقوله:
“فأبوك الذي يرى في الخفاء هو يجازيك علانيةً” [ع4]. وإذ أعد لنفسه حشدًا عظيمًا ومهيبًا من السامعين الناظرين. وإذ يريد أن يضفي على الأمر مهابته الوفيرة يقول: ماذا ترغب؟ أليس أن يجتمع البعض ليشاهد ما يحدث؟ انظر إذن. أن لديك ها هنا بعضًا من هذا الجمع، ليس من الملائكة ولا رؤساء الملائكة، بل “الله إله الكل”. وإن أردت أن يكون لديك أُناسًا أيضًا كناظرين، فإنه لا يحرمك من رغبتك تلك، في حينه، بل يعدها لك وبوفرة كبيرة. لأنك إن أردت أن تتباهى الآن فسوف تتباهى لعشرة فقط أو عشرين، أو لنقل: مائة شخص، ولكن إن بذلت الآن بهذا جهدًا لتحجب شيئًا، فالله نفسه يظهرك آنذاك في حضور العالم كله.
لهذا وإن كان الناس يرون أعمالك الصالحة فاخفها الآن، حتى يراها الناس فيما بعد بكل كرامة، ويظهرها الله ويرفعها ويعلنها أمام الجميع. وإن كان الذي يراك الآن ويدينك بأنك تسعى وراء المجد الباطل، فإنه سيراك آنذاك مكللاً وبدون إدانة، ويعجب بك كل الناس. لهذا إن تريثت قليلاً نلت أجرك، وحصدت إعجاب الجميع، فأية حماقة أن تطرح نفسك بعيدًا عن كل هذا.
وإذ تطلب أجرك من الله وهو الذي ينظر إلى أعمالك، فيحشد أناسًا بعرض ما يجري وما سيكون. فلماذا يجب أن نتباهى. وإن كان لزامًا أن نفعل، فليكن افتخارنا هذا انطلاقًا من محبتنا التي للآب فيها كل الفضل والذي به وحده يجب أن نتباهى، خاصة ولأبينا السماوي المقدرة على أن يهبنا الأكاليل، أو أن ينزل بنا العقاب.
ودعوني أضيف، حتى لو لم تكن هناك عقوبة. فإنه لا يليق بمن يطلب مجدًا، يبرح مكان التباهي والتفاخر بالصلاح، كمن يعرض مشاهد في مسارح الناس. أما البائس والشقي فإن جاءه الملك ليرى أعماله سيدعه يذهب، ويجمع كل حشوده من الناظرين من بين المساكين والأشقياء والبؤساء والشحاذين.
لهذا يأمرنا بألا نتباهى أبدًا. وأن نجاهد لنخفي أعمالنا الصالحة، وألا نجاهد لنوال الشهرة من الناس، بل وأن نجتهد بالأوفر أن نختفي عن أنظار هؤلاء
3. ويقول: “ومتى صلَّيت، فلا تكن كالمرائين. فإنهم يُحبون أن يُصلوا قائمين في المجامع وفي زوايا الشوارع، لكي يظهروا للناس. الحق أقول لكم إنهم قد استوفوا أجرهم” [ع5].
“وأما أنت فمتى صلَّيت، فادخل إلى مخدعك، وأغلق بابك وصّلِ إلى أبيك الذي في الخفاء” [ع6].
وهؤلاء أيضًا يدعوهم بالمرائين. لأنهم وهم يتظاهرون أنهم يصلَّون لله، يتطلعون حولهم بحثًا عن الناس، مرتدين لا ثوب التوسل بل ثوب السخف. لأن من يتوسل يتخلى عن كل شيء آخر، وينظر إلى هذا وحده، إلى الذي يملك القوة ليهبه مطلبه، ولكن إن ترك هذا الواحد، وراح يتجول ويزوغ بعينيه في كل مكان فإنه سوف يمضي صفر اليدين، لأن هذه هي إرادته.
ولم يقل السيد المسيح أن مثل هذا لن ينال أجرًا، بل قد “استوفاه”، بمعنى أنه ينال أجره من الذين هم أنفسهم يطلبون هذه الأجرة من الله والذي لا يريد ذلك، بل أن يهب الناس المجازاة التي تأتي من عنده هو وحده. لكنهم يطلبون ما في أيدي الناس، ومثل هذا لا يستحق بعد أن ينال شيئًا من الله. لأن الآخرين لن يفعلوا معهم شيئًا.
ولكن لاحظوا أرجوكم. أن محبة ورأفة الله هي في أنه يعدنا بأن يهبنا الأجر، حتى لأجل الأمور الصالحة التي نطلبها منه. لكنهم إذ يزدرون بها فلا يطلبون ما يجب وما ينبغي سواء من الموضع المناسب، أو بحسب ميولهم وتفكيرهم، يظهرون أنفسهم سخفاء جدًا، لهذا يقدم لنا السيد الرب أمثل الطرق للصلاة ومنها الأجر قائلاً:
ادخل إلى مخدعك، فما قولنا إذن ألا ينبغي علينا أن نصلي في الكنيسة؟ بلى. علينا في الحقيقة أن نصلي هناك دون أدنى شك. لكن بالروح الذي يتكلم عنه هنا. لأن الله يطلب في كل مكان قصد الجميع أن يتم ما يأمرهم به لأنه إن كنت وأنت في مخدعك وقد أغلقت بابك. فأنت تفعل ذلك للتباهي. فلن تنفعك الأبواب المغلقة بشيء، وهنا يجدر بنا أن ننتبه إلى ما يعنيه هذا التعريف بدقة، والذي ذكره حين قال:
“لكي يظهروا للناس”.
لهذا، حتى وإن أغلقت بابك، فإنه يطلب منك أن تفعل ذلك بشكل ملائم، فالمقصود ليس إغلاق الأبواب الخشبية، بل أبواب ذهنك. لأنه مثلما هو الحال في كل شيء آخر، أن تتحرر من المجد الباطل، فبالأخص يكون الحال في الصلاة، لأنه إن لم نفعل ذلك، يتشتت ذهننا ولا نركز ولا ننتبه إلى ما نقوله، فهل ندخل في هذا المرض أيضًا، وإن كنا نحن الذين نصلي لا ننتبه، فهل نتوقع من الله أن يفعل هكذا؟.
4. ورغم ذلك، فإن البعض رغم كل هذه التحذيرات الجادة، يسلكون بشكل غير لائق في الصلاة. حتى وإن أخفوا شخصهم، فهم يجعلون من أنفسهم ظاهرين للكل بارتفاع أصواتهم، إذ يصرخون دون لزوم، فيجعلون من ذواتهم موضع سخرية الآخرين؛ سواء بالإيماءات أو الأصوات. ألا تعلمون أنه إن جاءنا أحد في السوق وفعل هكذا وتوسل في ضجيج وإلحاح مستفز، نطرده حتى لو توسل إلينا. لكنه إن جاءنا في هدوء وبإيماءة لائقة وصحيحة، فإنه يكسب عطف من يتوسل ويحسن إليه. فلنصلِ لا بإيماءات الجسد وحركاته ولا بارتفاع أصواتنا، بل بجدية أذهاننا. لا في جلبة وضوضاء للتباهي أمام الناس القريبين منا، بل بكل هدوء وتواضع، وتركيز الذهن وبآذاننا الداخلية.
لكن هل أنتم متشتتو الذهن، ولا تقدرون على الكف عن الصراخ. صحيح أن المتألم ذهنيًا يفعل ذلك، وأن يصلي ويتوسل مثلما قلت. لكن موسى النبي أيضًا كان متألمًا وصلى بهدوء وتواضع فسمع الله له، ولهذا قال له الله: “ما لك تصرخ إليَّ” (خر 14: 15). وحَنَّة أيضًا لما كان صوتها غير مسموع، تحقق لها كل ما أرادت. “وإذ كان قلبها يصرخ” (1 صم 1: 13).
وهابيل لم يصلِّ وهو صامت بل وهو يحتضر! وصراخ دمه أقوى وأشد من صوت البوق (تك 4: 10). فهل تئنون أنتم أيضًا مثل هذا القديس. أرجو ألا يكون جوابكم بالنفي. ومثلما يأمرنا النبي: “مزقوا قلوبكم لا ثيابكم” (يؤ 2: 13). عليكم أن تصرخوا من الأعماق إلى الله، لأنه مكتوب: “من الأعماق، صرخت إليك يا رب” (مز 130: 10).
إذن من العمق من القلب اخرج صوتًا واجعل صلاتك سرية. ألا تعلمون أنه في قصر الملك الأرضي تسكن كل جلبة، ويرنو صمت في المكان العظيم. أنتم أيضًا، تصرَّفوا هكذا بلياقة عظيمة وأنتم تدخلون إلى قصر ليس على الأرض، بل هو مهيب أكثر، الذي هو في السماء. أجلّ، لأنكم منضمُّون إلى طغمات الملائكة ورؤساء الملائكة وتشتركون مع السيرافيم، وكل هذه الطغمات تُظهر نظامًا صالحًا جدًا، مرنمة في رعدة عظيمة ذلك اللحن السري (الصوفي) وترانيمها المقدسة لله ملك الجميع، فامتزجوا إذن مع هؤلاء حينما تصلون واقتدوا بترتيبهم السري.
لأنكم لا تصلون للناس بل إلى الله، الحاضر في كل مكان، الذي يسمع حتى قبل خروج الصوت، الذي يعرف أسرار ذهنكم. فإن صليتم هكذا، فما أعظم ما تنالونه من أجر، “فأبوك الذي يري في الخفاء هو يجازيك علانية” (مت 6: 6). ولم يقل “سيعطيك مجانًا” بل قال “سيجازيك” أجل، لأنه قد جعل نفسه مدينًا لك، وبهذا كرَّمك تكريمًا عظيمًا. فلأنه هو نفسه غير منظور، سيجعل صلاتك هكذا تكون أيضًا.
5. ثم يذكر محتوى الصلاة نفسها بقوله:
“حينما تصلّون لا تُكرروا الكلام باطلاً كالأممِ” [ع7]. رأيتم أنه حينما تحدث عن الصدقة، أزال العائق الذي يسبب المجد الباطل. ولم يضف شيئًا آخر، ولا قال حتى متى يجب أن يعطي الإنسان صدقة. هل من عمل شريف، وليس من السلب أو الجشع؟ لأن هذا أمر مسلَّم به بين الجميع، وقد أوضح وبمنتهى الدقة هذا الأمر، حين طوَّب “الجياع لأجل البرّ”. أما فيما يخص الصلاة، فقد أضاف شيئًا أكثر:
“لا تُكرروا الكلام باطلاً” ومثلما يوبخ المرائين هناك. هكذا أيضًا هنا يوبخ الأمم، مخجِّلاً السامع بسبب تفاهة الأشخاص؟، لأنه منذ ذاك الزمان وحتى الآن تحدث أمور مؤلمة ومزعجة – أعني ظهورنا متشبهين بالمرفوضين من الناس – وبهذا الوصف، ينصح بالعدول عن ذلك الأمر، ويسمى تلك التفاهة “بالتكرار الباطل” مثلما نطلب من الله أشياءً غير لائقة وممالك ومجدًا، وتفوقًا على الأعداء لقهرهم، ووفرة في الغنى والثروة، وعمومًا نطلب منه ما لا يهمنا.
إذ يقول الرب “فهو يعلم ما تحتاجون إليه” [ع8]. ويبدو لي أنه يأمرنا هنا ألا نطيل الصلاة، لا في الوقت، وفي عدد وطول الأشياء المطلوبة والمذكورة، لأن واجبنا حقًا هو المثابرة على الطلبة نفسها، إذ أن كلمته هي “مواظبين على الصلاة” (رو 12: 12). والسيد المسيح نفسه قد شرع أن نتضرع إليه بشكل متواصل، وذلك على مثال الأرملة اللحوح التي توسلت إلى القاضي القاسي القلب العديم الرحمة فغلبته بمداومتها على التوسل والطلبة (لو 18: 1). وعلى غرار الصديق الذي أتى متأخرًا ليلاً وأيقظ النائم من فراشه (لو 11: 5)، لا من أجل صداقته بل لأجل الإلحاح عليه.
فالرب لا يأمرنا في أيّ حال أن نؤلف صلاة من عشرة آلاف عبارة مطولة، ونأتي إليه لمجرد تلاوتها أمامه، لأن ذلك هو ما أشار إليه خفية بقوله “إنهم يظنون أنه بكثرة كلامهم يُستجاب لهم” (لو 6: 7). ويقول: “لأن الآب يعلم ما تحتاجون إليه”.
ورُب سائلٍ: ” فإن كان يعلم احتياجاتنا فما ضرورة الصلاة إذن؟
نحن لا نصلي لكي نرشده، بل لكي نتواصل معه، وأن نكون في علاقة حميمة معه، بالمواظبة على التضرع، لنصير متواضعين ونتذكر خطايانا الشخصية.
6. “فصلوا أنتم هكذا: أبانا الذي في السماوات” [ع9].
هل ترون كيف يلهب الرب قلب السامع مباشرة، ويذكِّره بكل بركات الله الوفيرة منذ البداية. لأن الذي يدعو الله بالآب،(الجمل بعدها غير مرتبطة) ففي هذا الاسم الوحيد ينعم بغفران خطاياه، ورفع العقوبة والبرّ والتقديس والفداء والتبني والميراث، وأخوة الوحيد الجنس وهبة الروح القدس.
لأن الإنسان لا يمكنه أن يدعو الله أبًا ما لم يكن قد اعتاد على نوال هذه البركات. لهذا يضاعف فيهم إيقاظ الروح والإحساس بكرامته التي يدعو إليها من جهة، ولعظم المنافع التي يتمتعون بها من جهة أخرى.
لكنه حين يقول “في السماوات” لا يقول ذلك وكأنه يغلق على الله هناك، بل ليرفع من يصلي من مستوى الأرض إلى فوق، ليثبته في الأعالي وفي المساكن الفوقانية. وحتى يعلمنا أكثر من ذلك، ليجعل صلاتنا عامة نيابة عن إخوتنا أيضًا. لأنه لم يقل: “أبي الذي في السماوات” بل “أبانا” رافعًا توسلاته نيابة عن الجميع، غير مهتم بطلباته هو فقط، بل بخير جاره في كل مكان. وبهذا ينتزع الكراهية على الفور ويستأصل الكبرياء ويطرح الحسد بعيدًا عنه؛ إذ يستحضر أم كل الصالحات (أسلوب مخطوطات قديمة)- أعني المحبة – ويقضي على الفوارق بين الناس. مظهرًا كيف يتساوى الملك والفقير، على الأقل في الأمور الأعظم التي لا غنى عنها، والتي تخصنا كلنا. لأنه أيّ ضرر يلحق بنا من أنسبائنا الأدنى. إن تساوينا معًا في الأعالي وترابطنا سويا، حيث لا أحد يملك أكثر من غيره، ولا الغني أفضل من الفقير، ولا السيد أحسن من الخادم، ولا الحاكم أفضل من الرعية، ولا الملك أكرم من الجندي البسيط. ولا الفيلسوف أشرف من الهمجي. ولا الماهر متميز عن الجاهل، لأن الله أعطى الجميع نفس السمو الواحد، لأنه تنازل ليدعوه الجميع “أبانا”.
7. وحينما يذكِّرنا بهذا الشرف وبالعطية التي من فوق، وبمساواتنا لإخوتنا وبالمحبة، وحينما أبعدنا عن الأرض ورفعنا وأقامنا في السماء، فلنر ما الذي يوصي به لنفعل به. وليكون ما يأمرنا به في المقام الأول كافيًا ليرشدنا إلى كل الصالحات.
لأن من يدعو الله “أباه” وأبًا للكل تتوفر لديه دالة الحديث معه. وليس كمن يظهر غير مستحق لهذا الشرف. وأن يبدي اجتهادًا ملحوظًا يتناسب مع العطية التي أخذها. ومع ذلك فالرب لا يكتفي بهذا، بل يضيف أيضًا عبارة أخرى: “ليتقدس اسمك”.
فجدير بمن يدعو الله أبًا أن يصلي لا ليطب شيئًا وهو في حضرة مجد أبيه، بل أن يحسب كل الأشياء ثانوية بالنسبة لتسبيحه. لأن كلمة “يتقدس” تعني “يتمجد” لأن مجد الله الشخصي مجد كامل، ويدوم إلى الأبد هكذا. لكنه يأمر من يصلي إليه أن يطلب منه أن يتمجد أيضًا بحياتنا. ونفس الأمر قاله قبلاً:
“فليضئ نوركم قدام الناس، فيرى الناس أعمالكم الصالحة فيمجدوا أباكم الذي في السماوات” (مت 5: 16). أجل، والسيرافيم أيضًا يمجدونه قائلين “قدوس قدوس قدوس” (إش 6: 3 مع رؤ 4: 8)، وكلمة “يتقدس” تعني “يتمجد” كما قلنا، أيّ “يمنح ويهب” كما يقول: “حتى نحيا هكذا بكل طهارة ومن خلالنا يمجدك الكل”. وهو نفس الأمر الذي يتعلق بضبط النفس، لنقدم للكل حياة بلا لوم، حتى أن كل من يراها يسبح الرب بالتسبيح اللائق به.
“وليأتِِ ملكوتك” [ع10].
هذه أيضًا لغة ابن مستقيم الرأي، لا تأسره أمور الزمان الحاضر المنظورة، ولا يحسب الأشياء المنظورة أعظم، بل يسرع إلى أبينا الآب، مشتاقًا إلى الأمور العتيدة. وينبع هذا من ضمير صالح، وتتحرر النفس من الأرضيات، وهذا ما كان يشتاق إليه كل يوم. ولهذا قال:
“نحن الذين لنا باكورة الروح، نحن أنفسنا أيضًا نئن في أنفسنا متوقعين التبنِّي فداء أجسادنا” (رو 8: 23).
ومثل هذا الإنسان الذي له هذا الاشتياق، لا ينتفخ بأمور العالم الحاضر ولا تغلبه أحزانه، بل كمن يعيش في السماوات ذاتها، يتحرر من كل اضطراب “لتكن مشيئتك. كما في السماء كذلك على الأرض” [ع10].
تأملوا تسلسل الأفكار السامية للغاية، إذ يأمرنا أن نشتاق إلى الأمور العتيدة، مسرعين إلى هذه الإقامة. وإلى أن يتم ذلك، وبينما نحن مستقرون هنا، نجتهد بالأكثر أن نسلك في نفس السيرة عينها التي يحياها السمائيون. إذ يقول الرب، أن عليك أن تشتاق إلى السماء، وأمورها حتى قبل أن تصل إلى السماء. وإذ(و بدون إذ أو وقد) أمرنا أن نُصيِّر الأرض سماءً، وأن نقول وأن نفعل كل شيء حتى ونحن مستمرون هنا – وكأن لنا سيرة هناك – مثلما يصبح الآخرون أيضًا موضوع صلاتنا للرب.(مش عارفة، مش الرد على بداية الجملة بعيد شوية؟؟) لأنه ما من شيء يعوق بلوغنا كما القوات العلوية، ونحن مستوطنون في الأرض، لكن حتى ونحن مقيمون هنا، من الممكن أن نفعل كل شيء وكأننا مقيمون في العالي. وكأن الرب يقول: كل الأشياء تتم دون ما إعاقة، ولا يكون الملائكة طائعين جزئيًا أو عصاة جزئيًا، بل في كل شيء يخضعون ويطيعون. لأن الكتاب يقول:
“ملائكته المقتدرون قوة، الفاعلون أمره” (قابل حز 20: 103). هكذا يا رب اعطنا نحن البشر ألا نصنع مشيئتك جزئيًا، بل أن نصنع كل شيء كمشيئتك.
أرأيتم كيف يعلمنا أيضًا أن نكون متواضعين، موضحًا أن الفضيلة ليست من جرّاء سعينا نحن، بل أيضًا بفضل النعمة التي من فوق. وقد أمر كل واحد من الذين يصلّون أن يأخذ على عاتقه مسئولية العالم كله.
لأنه لم يقل أبدًا “لتكن مشيئتك” فيَّ أو فينا، بل في كل مكان على الأرض. بحيث يزول الضلال، وينزرع الحق، ويستأصل الشر من جذوره، وتعود الفضيلة. فلا يصير هناك فرق بين السماء والأرض، حتى وإن كان هناك فاصل بينهما في الطبيعة، فإن الأرض تبقى لنا بعد طغمة أخرى من الملائكة.
8. “خبزنا كفافنا، أعطنا اليوم” [ع11].
ما هو خبزنا كفافنا أو خبزنا اليومي أو خبزنا يومًا فيومًا؟ (حرفيًا). أيّ خبز يكفينا يومًا واحدًا. لأنه إذ قال: “لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض”، لكن إذ كان يخاطب بشرًا جسدانين خاضعين لضروريات الطبيعة الجسدية، وعاجزين عن التمثل بالملائكة في إدراك عدم التألم (الهوى) والشهوات. وهو يضع الوصايا لننفذها نحن أيضًا، مثلما ينفذونها هم أيضًا. لكنه إذ يعرف ضعف طبيعتنا، فيعلمنا أن نصلي لأجل حاجات الجسد. وكأنه يقول:
أنا أطالبكم بأمر عظيم، هو كمال السلوك، لكن لا يخلو هذا الأمر من الأهواء والشهوات الطبيعية، والتي يفرضها سلطان الطبيعة الجسدانية؛ إذ نحتاج إلى الطعام الضروري. لكن تأملوا أرجوكم، أنه حتى في الأمور الجسدية، فإن الروحانيات هي الأبقى. والسيد الرب لم يأمرنا لأجل وفرة الثروات ولا الحياة المرفهة الناعمة، ولا الثياب الغالية الثمن، ولا لأجل أيّ شيء آخر مشابه، بل لأجل الخبز وحده، قد أمرنا بالصلاة. ولأجل “خبزنا اليومي” أيّ الخبز الذي يكفينا يومًا واحدًا.
ولم يكتف بهذا التعبير، بل أضاف شيئًا آخر قائلاً: “اعطنا اليوم”.
حتى لا نرهق أنفسنا بالاهتمام باليوم التالي الذي يلي “هذا اليوم”، لأن هذا “اليوم” لا نعلم ما يسبقه من زمن، ولا نعرف ما الذي فيه، فلماذا نخضع لهمومه؟
وإذ يستمر في الصلاة يقول بصورة أكمل: “لا تفكروا في الغد”، لأنه يريدنا أن نكون غير مثقلين على الدوام ولا أصحاب أجنحة نطير بها، بل أن نحصل فقط على ما تحتاجه الطبيعة الجسدية من ضروريات لازمة.
9. وفيم يختص بما قد يحدث، حين نخطئ بعد أن اغتسلنا للتجديد، يُظهر محبته للإنسان ليصير عظيمًا، حتى وهو في حال الخطية. فيأمرنا أن نصلي لله لأجل غفران خطايانا لأنه محب للبشر، لهذا يقول:
“واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضًا للمذنبين إلينا” [ع12]. فهل تدركون مقدار رحمته الفائقة لكل الحدود. فبعد أن اِنتزع شرورًا هذا مقدارها، وبعد عظَّم عطاياه التي لا يُنطق بها. فإن الناس إن أخطأوا مرة أخرى، يحسبهم مستحقين للغفران. وهذه الصلاة خاصة بالمؤمنين. وهذا ما نراه في قوانين الكنيسة، ومن بداية الصلاة: لأن غير المعمدين لا يستطيعون أن ينادوا الله بلقب “أبانا”. فإن كانت الصلاة تخص المؤمنين وهم يصلّون متضرعين أن يغفر الله لهم خطاياهم، فمن الواضح أنه حتى بعد غسل المعمودية “الروحي” تبقى حاجتنا الشديدة إلى انتفاعنا بالتوبة. لأنه لو لم يكن يعني ذلك، لما وضع قانونًا للصلاة التي يجب أن نصليها. ومن يأمرنا بتذكر خطايانا، ويطالبنا أن نسأله الغفران، ويعلمنا كيف علينا أن ننال الصفح ليسهل علينا الطريق، يكون من الواضح تمامًا أنه قد وضع هذه القاعدة للتضرع، وهو يعلم ويؤكد أنه من الممكن حتى بعد جرن المعمودية، أن نغسل أنفسنا من ذنوبنا بتذكرنا لخطايانا. حاشا إيانا أن نكون متواضعين، بأمره لنا أن نغفر خطايا الآخرين، ليحررنا من كل شهوة للانتقام. ويعدنا في المقابل بأن يغفر هو لنا نحن أيضًا خطايانا. واضعًا أمامنا هذا الرجاء الصالح، وليعلمنا أن تكون آراؤنا سامية حيال رحمة الله الواسعة التي لا يُنطق بها من نحو الإنسان.
لكن أكثر ما يجب علينا ملاحظته هو أن الرب في كل عبارة كان يذكر الفضيلة بأكملها، وبهذه الطريقة يذكر الصفح عن الجراح؛ لأن عبارة “ليتقدس اسمك” هي إتمام سيرة كاملة، وعبارة “لتكن مشيئتك” تؤكد نفس الأمر أيضًا. وحال كوننا نقدر أن ندعو الله بأبينا، فإنها مهمة حياة بلا لوم، وفي كل هذه الأمور المدركة هناك أيضًا واجب غفران خطايا الآخرين، وحجب غضبنا عن الذين أذنبوا في حقنا.
وحتى الآن لا يزال المسيح يريد منا المزيد، وحتى يشير إلى مدى جدية الأمر، يذكره بوجه خاص هنا – وبعد الصلاة – لا يذكر وصية أخرى سوى تلك قائلاً:
“إنْ غفرتُم للناسِ زلاتهم، يغفرْ لكم أيضًا أبوكُم السماويُّ” [ع14]
إذن نحن الذين نبدأ. ونحن الذين نملك مسار الدينونة التي نجلبها على أنفسنا. لأنه حتى لا يشتكي أحد من بين الذين لا مشاعر لهم، مهما كانت شكواه عظيمة أم قليلة، إذا ما وقف يوم الدينونة ليشكو ضدكم أنتم الذين ستعطون حسابًا، فقد جعل الرب الحكم يتوقف عليكم أنتم، بقوله: مهما حكمتم على أنفسكم، فإنه بنفس القدر إن غفرتم للناس سوف تنالون نفس الغفران مني، حتى وإن لم تكن هناك مساواة بينكم، لأنكم تغفرون لحاجة لديكم، لكن الله لا يغفر لاحتياجه لأحد. وأنتم تغفرون لبشر مثلكم، أما الله فيغفر لعبيده، وأنتم معرضون لاتهامات بلا حصر، أما الله فهو بلا خطيئة. ولكن حتى والحال هكذا، يُظهر الله رأفات محبته للإنسان. لكن الله حتى وإن لم تغفروا للناس، فهو قادر أن يغفر لكم كل خطاياكم، لكنه يريد لكم النفع، معطيًا لكم في كل وقت فرصًا بغير حصر توفر لكم رأفته ومحبته، ليطرح عنكم كل مشاعر متدنية، فيطفئ فيكم جذوة الغضب، ويثبتكم فيه كأعضائه الأخصاء، وذلك بكل السبل.
لأنه ما قولك، هل احتملت بعض الضيق من جارك؟ (لأن تلك فقط هي التعديات، فالفعل إن تم بعدلٍ ليس تعديًا). لكنكم أنتم أيضًا تقتربون من نوال الغفران بسبب هذه الأمور ولأجل أمور أخرى أعظم. وحتى قبل نوال الغفران، قد نلتم عطية كبيرة، إذ تعلمتم أن تكون لكم نفس بشرية، وثورتم على كل أعمال الرأفة. وهنا أيضًا أجر عظيم معد لكم، أن لا يحسب الله لكم أخطاءكم. فأيّ عقاب لا نستحقه أننا بعد أن نلنا هذه الميزة نخون خلاصنا؟ وكيف نزعم أن طلباتنا مسموعة لدى الله، في أمور حياتنا. ونحن لا نحافظ على نفوسنا في أمور تخصنا.
10. “ولا تدخلنا في تجربة، لكن نجنا من الشرير. لأن لك الملك والمجد إلى الأبد. آمين” [ع13]. هنا يعلمنا الرب بكل وضوح مدى تفاهتنا ويقمع كبرياءنا، ويرشدنا أن نستنكر كل صراعاتنا وننبذها بدلاً من اندفاعنا إليها. لأنه هكذا تصير نصرتنا أكثر مجدًا، وتزداد هزائم الشيطان. أعني، أنه ينبغي أن نصمد في نبل إذا ما تم سحبنا أو جرنا. وإذا لم يستدعنا أحد أن نبقى في هدوء وسكينة منتظرين قدوم الصراع، فإن أتى، نُظهر للناس تحررنا من المجد الباطل وتمتعنا بنبل الروح.
والرب هنا يدعو الشيطان “بالشرير” فيأمرنا أن نشن عليه حربًا بلا هوادة. وقائلاً لنا ضمنا أن الشيطان لم يكن هكذا بالطبيعة، لأن الشر ليس من الأمور الطبيعية، بل هو من صنعنا نحن وباختيارنا، وقد دُعي الشيطان هكذا، باعتباره متميزًا في الشر الزائد جدًا فيه، ولأننا إذا قاومناه أو ألحقنا به ضررًا، شنَّ علينا حربًا ضروسًا. لهذا لم يقل الرب: “نجنا من الأشرار” بل “من الشرير”، معلمًا إيانا ألا نثير المتاعب مع جيراننا، لأنه مهما عانينا من قلاقل على أيديهم، علينا أن نوجه عداوتنا للشيطان وحده، فهو أصل كل آثامنا. وإذ يجعلنا مترقبين متحفزين لما قبل الصراع بأن يركز فكرنا في العدو الحقيقي، مستأصلين من داخلنا كل تراخٍ، ويعود فيشجعنا ويرفع من أرواحنا، بأن يذكِّرنا بالملك الذي يرأس صفوفنا، فيصفه أنه أقوى من الجميع، إذ يقول: “لأن لك الملك والقوة والمجد”.
ونفهم من ذلك، أن الله هو صاحب المُلك (الملكوت). وأننا يجب ألا نخشى أحدًا، لأنه لا أحد يقوى أو يحتمل أن يقسِّم المملكة في داخله. لأنه حين يقول: “لك الملك” فإنه يضع أمامنا من يثير الحرب علينا، ليخضعه لنا. حتى وإن بدا معارضًا لنا. فإن الله يسمح بذلك لفترة. لأن الشيطان أيضًا من عبيد الله رغم أنه من رتبة متدنية جدًا، ومن المذنبين بالمعصية، ولا يجرؤ أن يقاوم أيًا من العبيد رفقائه، إن لم يسمح له الله من فوق. ولماذا أقول “العبيد رفقاؤه” فهو لا يثير هياجه مثلاً ضد الخنازير، إن لم يسمح الرب له (قابل لو 8: 32). ولا ضد قطعان الماشية ولا الأغنام، حتى يأخذ السماح من أعلى (أي 1: 12).
ويقول الرب: “ولك القوة” فمهما كانت ضعفاتك ومهما كثرت، عليك أن تثق تمامًا أن لك واحدًا يحكمك قادرًا أن يفعل كل شيء وبمنتهى اليسر لأجلك.
“لك المجد إلى الأبد. آمين”
هكذا فإنه لا يحررك من الأخطار المحدقة بك فقط، بل يقدر أن يمجدك أيضًا ويجعلك مكرمًا. لأنه مثلما أن قوته عظيمة، هكذا أيضًا مجده هو مجد لا يُنطق به وبلا حدود، ولا نهاية.
هل ترون كيف أنه يكلل بطله المظفر بكل السبل ويعده ليمتلئ.
11. ومثلما قلت قبلاً، إنه من بين كل شيء، فإنه يكره جدًا كل من يحمل في قلبه خبثًا، ويقبل جدًا كل من يقبل الفضيلة المضادة لهذه الرذيلة. فبعد الصلاة يضع في فكرنا نفس الصلاح من خلال ما يظهره من عقاب وأجر خاص، ليحث السامع على طاعة الوصية. إذ يقول “فإنه إن غفرتُم للناس زلاتهم، يغفر لكُم أيضًا أبوكُم السماوي.ُّ وإن لم تغفُروا للناس زلاتهم، لا يغفر لكم أبوكُم أيضًا زلاتكُم” [ع14-15].
هنا أيضًا، وبهذا المفهوم يذكر الرب كلاً من السماء ويذكر أبانا، ليخجل السامعين، فيرى السامع أنه من بين كل الناس ورغم أن له مثل هذا الآب، يتحول إلى وحش كاسر، بدلاً من أن يجمع كل أفكاره إلى السماء، لكنه يتفكر في الأرضيات وفي أمور العقل العادية. فنحن لا نصير أولاده بالنعمة فقط، بل وبأعمالنا أيضًا.
ولا شيء يجعلنا مثل الله، كاستعدادنا أن نغفر للأشرار وفاعلي الإثم. مثلما علَّمنا هو قبلاً حينما تكلم قائلاً إن “شمسه تشرق على الأشرار والصالحين” (مت 5: 45)، ولهذا السبب عينه، نجده في كل عبارة يأمرنا ويوصينا أن نجعل صلاتنا عامة لأجل الجميع قائلاً: “أبانا”، و”لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض”، و”خبزنا كفافنا أعطنا”، و”اغفر لنا ذنوبنا ولا تدخلنا في تجربة”، و”نجنا”. وفي كل مرة يأمرنا أن نستخدم صيغة الجمع هذه، حتى لا نضمر لأحد ولو أدنى إحساس بالغضب. فكم عقابًا يكون أشد ليستحقه أولئك الذين بعد هذا كله لا يعرفون الغفران أبدًا، بل يسألون الله الانتقام من أعدائهم، وبكل ما تحمله الكلمة من معان، يتعدون على الناموس، وبينما يحث الرب الجميع ويشجعهم على أن نمنع أنفسنا من الصراع الواحد مع الآخر.
وإذ المحبة هي أصل كل صلاح، فإنه يبعد عنها كل ما يمكن إعاقتها فيجمعنا معًا، ويثبتنا سويًا الواحد مع الآخر. لأنه ما من واحد، وأقول ما من أحد، أبًا كان أم أمًا أم صديقًا أو مهما كان، قد أحبنا مثل الله الذي خلقنا.
وفوق هذا كله، فإن خيراته اليومية لنا ووصاياه لنفعنا قد جعلها ظاهرة لنا، لكن إن كنت تخبرني عن الآلام والأحزان، وشرور الحياة ففكر في كمّ الآثام التي تُسيء بها إليه كل يوم. ولن تتعجب، مهما حلت بك شرور أكثر من هذه، لكن إن كنت تنعم بأي صلاح، فإنك ستتعجب وتندهش.
لكن والحالة هكذا، فإننا نفكر فيما يأتي علينا من كوراث، لكن ما نفعله من آثام كل يوم لا نفكر فيها ولا نُعيرها اهتمامًا. لهذا نحن نتحير، لأننا إن كنا نحاسب أنفسنا بشدة كل يوم على خطايانا، أو حتى ليوم واحد فقط، لأدركنا كم من الشرور التي نتعرض لها. وإن اعترفنا بآثامنا، كل واحد بنفسه، وإن تحدثنا عما ارتكبناه هذا اليوم – رغم أنني بالطبع لا أعرف ما الذي أخطأ به كل واحد منا – فإنه ورغم كل ذلك، تبدو هذه هي آثامنا الكثيرة التي لا يمكن حتى لمن يعرضها أن يحصي عددها.
فمثلاً، أيّ واحد منا لا يبدو مهملاً في صلواته؟ أيّ واحد منا لم يكن مزدريًا بالنعمة، أو ساعيًا إلى المجد الباطل؟ من منا لم يتكلم بالشر على أخيه؟ أو لم يشته شهوة شريرة؟ أو لم ينظر بعينين دنستين؟ أو لم يتذكر أشياءً بمشاعر عدائية؟ أو حتى لم يرتفع قلبه؟.
وإن كنا ونحن في الكنيسة وفي وقت قصير نذنب بشرور هكذا كثيرة، فماذا يكون حالنا بعد خروجنا من هناك؟، فإن كانت الأمواج عالية في الميناء، فماذا إذا خرجنا إلى روافد الشر؟ أعني إلى معترك الحياة، وإلى أعمالنا العامة، وإلى اهتماماتنا في البيت، فهل نقدر حقًا أن ندرك ذواتنا من جديد؟
ولكن ومن بين كل خطايانا الكثيرة والخطيرة، قد أعطانا الله وسيلة سهلة وقصيرة للنجاة وخالية من أية مشقة. لأنه أية مشقة نجدها في غفران خطايا من أساء إلينا؟ لا شيء بل المشقة ألا نغفر بل نظل محتفظين بالعداوة، لكننا حين نتخلص من الغضب، ننتعش كثيرًا، ويصبح سهلاً على من يريد الغفران أن يغفر. لأنه ما من بحر نعبره، ولا رحلة طويلة نقطعها، ولا قمم جبال نتسلقها، ولا أموال ننفقها، ولا حاجة أن نعذب أجسادنا، بل يكفي فقط أن نريد، وحينئذٍ تُمحى كل الخطايا.
لكن إن كنت بعيدًا عن غفران خطية جارك كل البعد، بل تتضرع إلى الله ضده، فأي رجاء بالخلاص يكون لك. إن كنت في كل مرة حين ينبض عليك الانتفاع بسَكينة قلب الله، تراك تستفزه! واضعًا زي المتوسلين، بينما تصرخ بصوت حيوان مفترس، قاذفًا نفسك بكل أوجاع الشرير. لهذا السبب، فإن القديس بولس أيضًا، حين يذكر الصلاة، لا يطلب شيئًا آخر سوى حفظ هذه الوصية، إذ يقول:
“رافعين أيادي طاهرة، بدون غضب ولا جدال (شك)” (1 تى 2: 8)، فإن كنت وأنت المحتاج إلى الرحمة، تطلق العنان لغضبك، بدلاً من ضبطه بالأحرى. ورغم أنك تعلم أنك تطعن نفسك بسيف، فهل يمكن لك أن تصبح رحيمًا وأنت تنفث سموم الشر؟
لكن إن كنت لم تبلغ بعد هذه الثورة من الغضب بكل حدته، افترض أنه يحدث بين الناس، وحينئذ ستدرك مدى التحقير الزائد هكذا: هل يقترب إلينا أحد كإنسان طالبًا الرحمة، وبينما هو يرقد على الأرض، يرى عدوًا، فيغادر متوسلاً إليك ويبدأ في ضربه، وألا تغضب أنت منه بالأكثر؟(أنا مش فاهمه حاجة!!!)
فكر أن يكون هذا هو وضع الله أيضًا، فأنت أيضًا وبينما تتوسل إلى الله وتتضرع، تنصرف لتضرب عدوك بكلماتك فتهين نواميس الله، الذي وضع ناموس تخليك عن كل مشاعر الغضب. بينما أنت في صراع مع الذين أغاظوك، فتطالب الله بمخالفة وصاياه. ولا يكفيك انتقامًا أنك تتعدى على ناموس الله، بل تطالبه أن يفعل هو ذلك أيضًا؟ ما هذا؟ هل نسي الله ما أوصى به؟ ما هذا؟ هل الذي أوصى بهذه الأقوال إنسان؟ إنه الله، الذي يعرف كل شيء والذي يشاء أن نحفظ وصاياه بكل دقة، والذي حاشا له أن يفعل ما نفعله. وما نريده أن يفعل، بل يحاسبك أنت القائل بهذه الأمور، فقط لمجرد أنك تقولها في انحراف وكراهية، فينزل بك أشد العقوبة. فكيف إذن تسعى أن تنال منه أشياءً يمنعك هو بشدة أن تفعلها؟
ومع هذا، فإن هناك من بلغوا هذه الدرجة من الوحشية والبهيمية، فلا يكتفون بالتشفع ضد أعدائهم بل أن يلعنوا أولادهم، وينهشوا لحمهم إن استطاعوا بل هم ينهشونها فعلاً.
فلا تقل لي إنك لم تغرس أسنانك في جسد من أغاظك. وإن كنت قد قلت ذلك على الأقل فيما يخصك، فأي شيء أخطر من ذلك الفعل، أن تزعم أن غضبًا قد حل به من فوق. فإنه لابد أن يُسلَّم لعقاب أبدي! وأن يُفنى هو وكل بيته. لماذا؟ وأيّ ألم أشد إيلامًا من هذه القضمات؟ وما أشدها من أسلحة مرة؟ والمسيح لم يرشدك إلى هذا ولم يوصيك أن تخضب دمك بالدماء. كلاً. فالأفواه التي تُدمي بأجساد الناس قد لا تصدم مثل ألسنة تنهش في الآخرين. كيف ستُحيي أخاك إذن؟ وكيف ستلمس الذبيحة؟ كيف تتذوق(تأخذ) دم الرب، وقد امتلأ فكرك بكل هذا السم؟
لأنك حين تصرخ: مزقه إربًا ودمر بيته وحطم كل حاله. وحين تدعو عليه بميتات بلا حصر، فأنت لا تقل شيئًا عن قاتلٍ، ولا تختلف كثيرًا عن وحش كاسر يفترس الناس.
فلنكف إذن عن هذا المرض والجنون، ولنُظهر لمن أغاظونا رأفة أوصانا بها المسيح. لنصبح مثل “أبينا الذي في السماوات” وحينئذ سنكف عن الشر، إن تذكرنا خطايانا. وإن فحصنا بجدية كل أفعالنا السيئة، في البيت أو خارجه، وفي السوق وفي الكنيسة.
12. فإن لم يكن لأي شيء، فعلى الأقل بسبب احتقارنا لأنفسنا فعلاً، نستحق أن يقع علينا أشد العقاب، لأنه حين كان الأنبياء يرنمون والرسل يرتلون الأناشيد والله يتكلم، كنا نحن نضل بعيدًا، ونجلب على أنفسنا ضيقات العالم، ولا نراعي وصايا ونواميس الله، جالسين في هدوء – مثلما ينصت المشاهدون في المسارح لرسائل الإمبراطور في صمت وهدوء – لأنه حينما تتلى هذه الرسائل هناك، والولاة حاضرون مع المحافظين، ورجال مجلس الشيوخ، والشعب وقوفًا في صمت مطْبق أمام الكلمات، فإن قفز أحد فجأة وسط هذا السكون الشديد وصرخ فإنه يلقى أشد العقاب؛ إذ أهان الإمبراطور، لكن هنا، فإن الرسائل قادمة من السماء، وبينما تتلى تسود فوضى في كل مكان، مع أن مرسل هذه الرسائل أعظم بما لا يقاس من ملكنا الأرضي، والحشد المجتمع أكثر وقارًا، فالحاضرون ليسوا من الناس فقط، بل من الملائكة أيضًا، والرسائل تنقِل إلينا أخبار الانتصارات، والأخبار السارة التي تثير فينا رهبة أكثر من أمور الأرض. لهذا لا يحتشد الناس فقط، بل الملائكة ورؤساء الملائكة وكل شعوب السماء وكل سكان الأرض يُؤمَرون بالتسبيح، كالمكتوب: “باركُوا الربَّ يا جميع أعماله” (مز 103: 22).
أجل، فإن أعمال الرب ليست بالإنجازات الهينة، بل هي تفوق كل حديث، وكل فكر، وكل فهم للإنسان.
وهذه الأعمال يعلنها الأنبياء كل يوم، كل منهم بطريقة مختلفة، كارزين بهذه النصرة المجيدة. إذ يقول أحدهم: “ارتفعت في الأعالي. جعلت الأسر أسيرًا، وقبلت من الناس عطايا” (مز 18: 8 س). وأيضًا: “الربُّ قديرُ وجبارُ في القتالِ” (مز 24: 8). ويقول آخر: “هو يقسمُ غنائم القوي” (إش 53: 12 س). لأنه حقًا جاء لهذه الغاية. أن “ينادي للمسبيين بالعُتق، وللمأسُورين بالإطلاق، وللعُمي بالبصر” (إش 51، لو 4: 19).
وحين أعلن صيحة النصرة على الموت قال: “أين غلبتك يا موت؟ أين شوكتك يا هاوية؟” (هو 13: 14). ويعلن آخر الأنباء السارة عن أعمق سلام قائلاً: “فيطبعون سُيوفهم سككًا ورماحهمُ مناجل” (إش 2: 4، مي 4: 3). بينما ينادي آخر أورشليم بقوله: “ابتهجي جدًا يا ابنة صهيون، اهتُفي يا بنت أورشليم. هُوذا ملكُكِ يأتي إليكِ… وديعُا وراكبُا على حمارٍ وعلى جحشٍ ابن أتانٍ” (زك 9: 9). وأخر يعلق عن مجيء الرب الثاني قائلاً بنفس الطريقة: “السيد الذي تطلبونه… هوذا يأتي… ومن يحتمل يوم مجيئه؟” (ملا 3: 1-2). وتطفرون كعجول تحررت من القيود” (مل 2: 4 س). وآخر وهو مندهش لهذه الأمور يقول: “هذا إلهنا، ولا نحسب آخر مثله” (با 3: 35). ومع كل هذا، وبينما نطقت تلك الأقوال وغيرها كثيرًا، وبينما يجدر بنا أن نرتعد، ولا نحسب أنفسا أننا على الأرض بعد، لا نزال وكأننا في وسط سوق كبيرة، نزأر ونثير الاضطراب، ونقضي كل أوقات اجتماعاتنا في جدل حول أمور لا قيمة لها، ولا تعنينا.
وإذ نحن مهملون في كل شيء، في توافه الأمور كما في عظائمها، في السمع كما في الفعل، في الخارج وداخل البيت، وفي الكنيسة، ومع هذا كله أيضًا. نصلي ضد أعدائنا. فكيف يتوفر لنا أيّ رجاء بالخلاص، ثم نضيف إلى كل هذه الخطايا خطية أخرى شديدة تساويها كلها؛ وهي الصلاة الباطلة؟
فهل لنا بعد أيّ حق أن نتعجب؟ إن أصابنا مكروه من أمور مؤلمة وغير متوقعة؟ بينما نتعجب بالحري حين لا تصيبنا مثل هذه الأمور. لأن الأولى هي من طبيعة الأشياء، بينما الثانية تفوق كل الأسباب وكل التوقعات، لأنه من المؤكد أن يحدث ما سيفوق العقل؛ إن الذين صاروا أعداءً لله يستفزونه ليغضب، ينعمون بأشعة الشمس والشتاء، وكل ما عدا ذلك. وكونهم بشرًا، يفوقون الحيوانات المفترسة وحشية، إذ يواجه الواحد الآخر، وينهش الواحد لحم جيرانه، وتصطبغ ألسنتهم بالدماء، حتى بعد المائدة الروحية (الإفخارستيا). وبعد بركاتها العظيمة المُنفعة ووصاياه التي لا تعد.
لهذا ونحن نفتكر في هذه الأمور، فلنطرح عنا هذا السم، ولنضع حدا لعداوتنا، ولنجعل صلواتنا تتفق مع ما نحن عليه الآن، وعوضًا عن وحشية الشياطين، فلنكتس بوداعة الملائكة، ومهما تضررنا في أيّ أمر، فلنفكر فيما نحن فيه، وفي أجرنا الذي يعينه الله لنا لهذه الوصية.
فلنُلطِّف غضبنا، ونهدِّئ انتفاضنا وكبرياءنا، حتى نعبر هذه الحياة الحاضرة في هدوء. وإذا ما رحلنا إلى هناك، نجد ربنا يلاقينا ويعاملنا مثلما عاملنا جيراننا، وإن بدأ هذا الأمر ثقيلاً ومخيفًا، فلنجعله خفيفًا ومرغوبًا. ولنفتح الأبواب المجيدة للثقة فيه، وإن لم تتوفر لدينا قوة للامتناع عن الخطية، فلنفعل ذلك بأن نكون لطفاء مع الذين أخطأوا إلينا (لأن هذا بالتأكيد ليس صعبًا، ولا ثقيل الحمل).
وإذ نترفق بأعدائنا نجلب على أنفسنا رحمة كثيرة، هكذا يحبنا كل من يعرفنا في هذه الحياة الحاضرة. وفوق الجميع يصادقنا الله ويكللنا ويحسبنا مستحقين لكل الخيرات العتيدة، التي ننالها جميعًا بنعمة ومحبة ربنا يسوع المسيح نحو الإنسان الذي له المجد والقوة الآن وكل أوان. آمين.
لعظة العشرون
“ومتى صُمتُم، فلا تكونوا عابسين كالمُرائيين، فإنهم يُغيِّرون وجوههم لكي يظهروا للناس صائمين” [ع16]
جيد ها هنا أن نئن بصوت عال وأن نبكي بمرارة، لا لأننا نحاكي المرائين وحسب، بل لأننا تفوَّقنا أيضًا عليهم. لأنني أعرف جيدًا أن كثيرين لا يصومون فقط بل ويتباهون بأصوامهم أمام الناس، بل ويهملون الصوم، ومع ذلك يرتدون أقنعة الصائمين متَّشحين بعذر أسوأ من خطيئتهم؛ إذ يقولون إننا نفعل ذلك حتى لا نعثر الآخرين. ما هذا القول؟
إن هناك ناموسًا إلهيًا يأمرنا بهذه الأمور، وأنتم تتكلمون عن العثرة أو الإساءة؟ ظانين أنكم حين تفعلون هذا وأنتم تسيئون إلى الناس بتعديكم للوصية، وأنكم تخلصون الناس من عواقب الإساءة؟
أيّ شيء أسوأ من هذه الحماقة؟ ألا يصير عملكم أردأ من عمل المرائين؟ ألا يكون رياؤكم مضاعفًا؟ وإذا ما تفكرتم في عظم هذا الشر ألا ترتبكون خجلاً لقوة ما أمامنا من تعبير؟ فالرب لم يقل إنهم يتظاهرون جزئيًا، بل يكشف أعماقهم أكثر فيقول “إنهم يُغيِّرون وجوههم” أيّ أنهم يشوِّهونها ويفسدونها، لكن إن كان الأمر مجرد تغيير “السحنة” ليبدو الإنسان باهتًا لأجل المجد الباطل. فما قولنا في نساءٍ يلطخن وجوههن بالألوان والأصباغ لتدمير شباب دنسين؟ وبينما يؤذي مثل هؤلاء الشبان أنفسهم فقط، فإن أولئك النسوة يؤذين أنفسهم والناظرين إليهن. لهذا يجب علينا أن نهرب من هذا الفخ ومن فخاخ أخرى، وعلى مسافة بعيدة بكفاية لننقذ أنفسنا.
فالرب لم يوصِ فقط بألا نُغير وجوهنا، بل أن نسعى لحفظ نفوسنا أيضًا. وهو الأمر الذي أوصى به قبلاً. ففي مسألة الصدقة، لم يعرض الأمر هكذا ببساطة بل إذ قال:
“احترزوا أن تصنعوا صدقتكم قدام الناس” وأضاف “لكي ينظروكم” فإنه في الصلاة والصوم لا يذكر نفس الشيء، ولا يضع نفس القيد، فلماذا أراد ذلك؟ لأنه من المستحيل أن نخفي الصدقة عن أعين الناس، لكن من الممكن أن يتم الأمر بالنسبة للصلاة والصوم. ومثلما قال “لا تعرف شمالك ما تفعل يمينك” لم يكن يتحدث عن الأيدي بحصر المعنى، بل عن واجب إخفاء الأمر عن الناس في حزم. ومثلما أمرنا أن ندخل إلى مخادعنا، لم يكن يقصد المكان بشكل مطلق، ولكنه يثير فينا مشاعر الرهبة المقدسة للمرة الثانية حول مسألة الصلاة.
هكذا هنا أيضًا، حين يأمر أن “ندهن جسدنا” لا يعني حرفيًا أن ندهن أجسامنا، وإلا تعدِّينا على الناموس – إذا لم نفعل – والأكثر من ذلك، أن أولئك الذين اجتهدوا بمشقة لحفظ أجسادهم في مجتمعات الرهبان – والذين اختاروا سكناهم في الجبال – لن يقدروا على هذا، إذن لم يكن هذا هو ما يأمرنا به، بل إذ رأى أن للقدماء عادة دهن أنفسهم باستمرار، ويتلذذون ويتهللون (مثلما نرى مع داود في 2 صم 12: 20)، ومع دانيال (دا 10: 3)، وقال أن علينا أن ندهن أجسامنا – ليس بمعنى حرفي – بل أن نسعى بكل السبل وأن نجتهد بكل حزم أن نُخفي عن الناس نُسكنا.
وحتى يقنعكم بالأمر، فإنه هو نفسه فعل ما أوصى به، إذ صام أربعين يومًا وصامهم سرًا – فلا دهن نفسه ولا حتى غسل جسده – ومع ذلك، ورغم أنه لم يفعل هذه الأمور، فقد أكمل الوصايا كلها دون سعي وراء مجد باطل. وهكذا يوصيا نحن بنفس الأسلوب، إذ يكشف لنا عن المرائين ويكرر اتهامه لهم مرتين لينبه ذهن السامعين. وفي موضع آخر يذكر نفس صفة المرائين، أعني ليس فقط بإظهار سخافة الأمر، ولا بتوقيع أقصى عقوبة عليه، بل أيضًا بإظهار أن مثل هذا الخداع لا يدوم طويلاً، فهو يبعدنا عن هذه الرغبة الشريرة. فالممثل يبدو رائعًا أمام الجلوس من المشاهدين، لكن معظمهم يعرف حقيقة أمره، ولهذا لا يبدو رائعًا أمام الكل. والذين يعرفون الدور الذي يلعبه، ورغم ذلك وحين يتفرق المتفرجون ينكشف أمره للجميع. وهذا هو حال الباحثين عن المجد الباطل، والمعروفين للكل بأنهم يضعون أقنعة على وجوههم وسوف يفتضح أمرهم في اليوم الأخير، حين تصير كل الأشياء “عارية ومكشوفة”، والرب يقدم الفرصة لانتشالهم من بين المرائين حين يكشف أن وصيته خفيفة، لأنه لم يجعل الصوم أشد صرامة، ولا طالبنا أن نمارسه بكثرة، بل ألا نفقد الإكليل المعد لنا.
وما قد يبدو صعب الاحتمال، يبدو أمرًا مشتركًا بيننا وبين المرائين – لأنهم يصومون أيضًا – ولكن الأخف في الأمر، أيّ ألا نخسر الأجرة بعد أتعابنا، حسب قول الرب الذي أوصى به دون أن يضيف شيئًا إلى أتعابنا، بل يجمع الأمور لنا بكل أمان، دون أن يحرمنا من المكافأة. مثلما يفعل المراءون، كلا، بل أن نحاكي لاعبي الألعاب الأوليمبية، الذين رغم جلوس حشد عظيم أمامهم ورغم وجود الكثيرين من الأمراء يشتاقون أن يدخلوا السرور على واحد فقط، ذاك الذي يمنحهم الفوز حتى لو كان أدنى من مستواهم بكثير.
لكن أنتم، ورغم دوافعكم بتقديم الفوز له، أولاً، لأنه هو الذي يقضي بنصركم، وأيضًا، لأنه لا يقارن بأعظم المحتشدين في مسرح اللعب. فإنكم قد تشتركون مع آخرين لا نفع لهم، بل ضررهم أعظم. ومع ذلك يقول الرب: فإني لا أمنعكم، فإن اشتقتم إلى التباهي أمام الناس، فانظروا وسوف أمنحكم أعظم الفرص والمنافع، لأن ما تفعلونه هنا قد يحرمكم من المجد الذي تنالونه معي، فاحتقروا هذه الأمور، وتوحدوا معًا وتقاربوا سويًا، لتنعموا بأمان، لأن ثمار العالم لا تدوم، وإن وطأت أقدامكم كل مجد بشري وتحررتم من أسر الناس الأليم، وعملتم الصلاح دون أن ينظركم أحد تنالون مجدًا.
ونفس الأمر بخصوص كل فضيلة، فإن كنتم تسعون إليها لا لأجلها بل سعيًا وراء صناع الحبال والنحاس والعامة في الأسواق ليعجب بكم الأردياء، البعيدون عن الفضيلة، فتدعونهم إلى المشهد أمامكم، وكأن المرء قد اختار أن يعيش في حال صوم وامتناع وتعفف ليس لسمو التقشف بل ليتباهى أمام الساقطات.(رجاء قراءة البراجراف، كلامه؟؟)
ويبدو أنكم لا تختارون الفضيلة لذاتها – بل لأجل أعدائها – بينما يجب عليكم الإعجاب بها على أساس آخر؛ أن للفضيلة أعداءها الذين يعجبون بفاعليها. لهذا لا أرديكم أن تعجبوا بالصالحات لأجل الناس بل لأجلها هي، مثلما يحبنا الآخرون لا لأجل ذواتنا نحن، بل لأجل نفعهم، الأمر الذي نعتبره نحن إهانة لنا.
هكذا أيضًا أريدكم ألا تحبوا الفضيلة لأجل الناس، أو لأجلهم تطيعون الله، بل تطيعون البشر لأجل الله. لأنكم إن فعلتم العكس فحتى وإن بدا أنكم تصنعون الفضيلة، تكونون كمن لا يصنعها تمامًا، ويبدو بدون طاعة، هكذا أنتم حين تفعلون ما يخالف الناموس
2. “لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض” [ع19]
بعد أن أقصى الرب مرض المجد الباطل وفي حين مناسب، يتحدث عن الفقر الإرادي؛ إذ لا شيء يدرب الناس على الولع بالثروات مثل الولع بالمجد. وهذا هو السبب الذي يدفع الناس إلى ابتكار هذه الجماعات من العبيد. وهذا الحشد من الخصيان والجياد ذات السرج الذهبية، والموائد المزدانة بالفضيات وما شابه. والأكثر سخفًا من هذا كله؛ أن رغباتهم لا تشبع، ولا يكفون عن الاستمتاع باللذة، بل يتباهون بما لديهم أمام الجموع.
بعد أن قال الرب إن علينا إظهار الرحمة، يشير هنا إلى ما يجب أن نظهره من رحمة أعظم، بقوله: “لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض” لأنه من غير الممكن أن يستهل حديثه باحتقار الغنى والثروات بسبب طغيان الشهوة، لهذا يقسم حديثه إلى أجزاء صغيرة، وبعد أن حرر ذهن السامع، يعده لقبول وصايا تالية ولهذا ترون أنه قال أولاً “طوبى للرحماء” ثم “كن مراضيا لخصمك” وبعدها “من أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك، فاترك له الرداء أيضًا” لكنه هنا يتحدث عن أمر أعظم من كل ما مضى. لأنه كان يعني قبلاً: إن رأيت مخاصمة أمام القضاء قد أوشكت على البدء، فافعل هذا.
لأنك إن كنت في احتياج مصحوب بالتحرر من المعاناة، أفضل من أن تملك وأنت تعانى لكن، افترض أن لا خصم يعاديك ولا أحد يقاضيك، فإن الرب يعلمنا أن نزدري بالثروات نفسها لذاتها، مشيرًا إلى أن الإنسان لا يجد من وراءها رحمة، مثلما هو الحال مع المعطي، لهذا يشرع القوانين حتى لو لم يكن هناك أحد يؤذينا، أو يجرنا إلى ساحات القضاء، حتى في هذه الأحوال، لابد أن نحتقر ممتلكاتنا، فنعطيها لمن يحتاج، ولا يذكر الرب الأمر كاملاً هنا، بل يتحدث في رفق، رغم أنه صارع في البرية صراعًا شديدًا (مت 4: 9-10). وحتى يحين الوقت المناسب للإفصاح عن وصاياه، فضل السيد المسيح أن يكون في مركز النصح أكثر من واضع الناموس، لأنه بعد أن قال: “لا تكنزوا كنوزًا على الأرض” أضاف “حيث يفسد السوس والصدأ، وحيث ينقب السارقون ويسرقون”. ويشير المسيح بالنسبة للزمان الحاضر، إلى أضرار الكنز هنا، ومنافع ما لنا هناك، من حيث المكان والأشياء التي تفسده، ولم يتوقف عن هذين الأمرين، بل يوسع من دائرة النقاش، فيشير إلى ما يخيفهم من أمور ويسأل: مم تخافون؟ هل تخشون ضياع خيراتكم، إن أعطيتم صدقة؟ كلا.
إذن، قدموا صدقة، ولن تضيع خيراتكم. بل والأكثر من هذا، أنكم ستنالون زيادة مضاعفة. أجل، لأن خيرات السماء تضاف إلى ما عندكم. ولا يقول الرب الكلام وكأنه محفوظ لزمن ما، بل يقنعهم أن الكنز سيبقى محفوظًا لهم دون ضياع، ليجذبهم. ولا يكتفي بالحديث عن منافع إعطاء الصدقة وأنها تظل محفوظة لهم، بل يشير إلى العكس بأن عدم تقديمها يجعلها تفنى من أيديهم. وتأملوا مدى حكمته في أنه لم يقل: اُتركوها لآخرين، لأن هذا فيه مسرة الناس، بل يحذرهم على أساس جديد. إنه لم يتحايل الآخرون لسلب خيركم، فإن “السوس والصدأ” سيفعلان، وكبح هذا الأذى من الصعب السيطرة عليه، ومهما حاول الإنسان منعه لن يقوى، وحتى لو لم يتخلص السوس من الذهب، فاللصوص سيقومون بذلك، وحتى لو لم ينهبوا كل شيء، فعلى الأقل الجزء الأعظم منه.
3. لهذا يضيف الرب تكملة للمناقشة بقوله:
“لأنه حيث يكون كنزك، هناك يكون قلبك أيضًا” [ع21]
وحتى لو لم يحدث شيء من هذا كله، فإنك ستتعرض لأذى ليس بالقليل، لأنك إن تعلقت بهذه الأشياء الأرضية، وأصبحت عبدًا بدلاً من حر، وطرحت عنك الأمور السماوية، ولم تعد لديك قدرة على التفكير في أيّ أمر من أمور السماء، بل انحصر فكرك كله في المال والملكية والقروض وربا الأرباح والمتاجرات الخسيسة، فقد صرت أسوأ من العبد وما أتعس حالك؛ إذ تجلب على نفسك أقسى أنواع الطغيان محرومًا من أعز شيء في الوجود، من شرف الإنسان وحريته. ومهما تكلم إليكم أحد تعجزون حتى عن الإنصات إلى ما يهمكم، لأن عقولكم متسمرة في المال وذهنكم مقيد مثل كلب بقبر بسبب استبداد الثروات، مقيدين بشدة تنبحون على كل من يقترب منكم، ولا عمل لكم سوى هذا.
ويعتبر السيد الرب قوله أعلى من إدراك سامعيه، وإذ لا يدرك الجميع سوء أفعالهم ولا حتى منفعة تصرفاتهم، بل هم في حاجة أكثر إلى روح يدرك ونفس تعي كلا الأمرين، يأتي بالنقاش بعض أمور أخرى كانت واضحة لهم. فيقول: “حيث كنز الإنسان هناك يكون قلبه أيضًا” ثم يعيد توضيح الأمر مرة أخرى بإبعاد سامعيه عن الأمور العقلية إلى الأمور المحسوسة، فيقول: “سراجُ الجسدِ هو العينُ” [ع22]. ويعني بهذا: لا تدفنوا ذهنكم في الأرض، ولا في أيّ شيء مماثل، لأنكم إنما تحفظونه للسوس وللصدأ، وللسارقين، وحتى إن نجوتم من مثل هذه الشرور، فلن تهربوا من استعباد قلوبكم وانشغالها بالأذى من هذه الأمور. “لأنه حيث يكون كنز الإنسان، هناك يكون قلبه أيضًا” فإذا صنعت لك مخازن في السماء، فلن تحصد هذه الثمرة فقط، بل تنال مكافأتك على هذه الأمور، وتنال مجازاتك في هذا العالم أيضًا. وعند وصولك إلى الميناء هناك، ووضع مشاعرك في الأمور العلوية، والاهتمام بما فوق. لأنه حيث تنقل كنوزك، فمن الواضح جدًا أنك تنقل إلى هناك عقلك أيضًا. لهذا إن فعلت ذلك على الأرض، فسوف تختبر العكس، لكن إن كان القول غامضًا بالنسبة لك، فاسمع ما سيلي في حينه:
“سراج الجسد هو العين، فإن كانت عينيك بسيطة (غير معقدة الرؤى) فجسدك كله يكون نيرًا. وإن كانت عينيك شريرة، فجسدك كله يكون مظلمًا. فإن كان النور الذي فيك ظلامًا، فالظلام كم يكون” [ع22-23]
ها هو هنا ينقل حديثه إلى أمور أكثر تواجدًا في دائرة حواسنا، أعني، إذ يتكلم عن الذهن كمستعبد وواقع تحت الأسر، وأن كثيرين لا يدركون هذا بسهولة، فإن الرب ينقل الدرس إلى أمور خارجية، واضعًا أمام عيون الناس ما يمكن أن يفهمه الآخرون معهم، فيقول: “إن لم تفهم ما يضر الذهن، يمكنك أن تدركه من أمور الجسد، لأنه مثلما تكون العين بالنسبة للجسد، هكذا، الذهن بالنسبة للنفس، فإن لم تختار أن ترتدي ذهبًا، أو أن تتوشح بملابس الحرير، وعيناك مطفأتان، فإن صحتهما وسلامتهما أهم عندك من كل هذه الأمور السطحية؛ لأنك إن خسرت صحتك أو بددتها، لن تنفعك حياتك كلها بشيء. لأنه مثلما تكف العينان عن النظر، تضيع طاقات بقية أعضائك، وينطفئ نورها، هكذا إذا فسد الذهن، تمتلئ حياتك بشرور لا حصر لها.
ومثلما نهدف في جسدنا أن نحافظ على عيوننا سليمة، هكذا الذهن في النفس، لكننا إن أفسدنا العينين اللتين تمدان الجسد بالنور، لا نستطيع أن نرى بوضوح بعد- تمامًا مثلما ندمر منبعًا للمياه، فنتسبب في جفاف النهر- هكذا مَنْ أطفأ الفهم يربك كل أفعاله في هذه الحياة.
لهذا يقول الرب: “فإن كان النور الذي فيك ظلامًا. فالظلام كم يكون؟”. لأنه حين يغرق القبطان أو تنطفئ الشمعة، أو يسقط القائد الحربي في الأسر فأي رجاء يبقى بعد في صدور الذين تحت قيادتهم؟
وإذ يحذف السيد الآن في كلامه الحديث عن مؤامرات الثروة والمال والمعاناة والمحاكمات القضائية والتي تناول الحديث عنها قبلاً، حين قال يسلمك الخصم إلى القاضي، ويسلمك القاضي إلى الشرطي، فإنه يعرض هنا أمورًا أخرى أشد وطأة، مؤكدًا أنها تحدث، ليبعدنا عن كل شهوة ردية، فالطرح في السجن أقل وطأة من استعباد الذهن للشهوة المريضة. وربما لا يحدث أن نُلقى في السجن، لكن استعباد الفكر أمر محتم، إذا اشتهي الإنسان المال والثروة. لهذا يأتي ذكرها الآن باعتبارها أخطر من سابقتها، ومن المؤكد حدوثها، فيقول إن الله أعطانا فهمًا أن نبتعد عن كل جهل، وأن نحكم على الأشياء حكمًا سليمًا مستخدمين هذا الفهم كسلاح ونور ضد كل خطر وضرر لنبقى في أمان.
لكننا نخون العطية لصالح أشياء تافهة عديمة النفع. لأنه ما فائدة الجنود المصطفين في دروع من ذهب، وقائدهم أسير في السجن؟ وما فائدة سفينة مزدانة بألوان جميلة وربانها غارق تحت لجة المياه والأمواج؟ وما ميزة جسد جميل متناسق وقد ضاع منه البصر، وما نفع الطبيب المطروح في فراش المرض ومن المفترض أن يكون صحيحًا ليعالج أمراضنا، حتى لو جلس في مقعد من فضة وفي غرفة حوائطها من ذهب، فإن ذلك لن يجدي المرضى شيئًا.
هكذا. إذا فسد الذهن – الذي يملك القدرة على إطفاء نار شهواتنا – فحتى إن وضعناه في كنز، لن ينفعه شيئًا، فالخسارة عظيمة والضرر الذي لحق بنفسنا هو ضرر بالغ.
4. هل ترون كيف للناس من خلال هذه الأمور التي يلحقون بها الأذى بأنفسهم وكيف يريد الرب إبعادهم عنها، ليعيدهم إلى الصالحات، إذ يقول: “لأية غاية تشتهون الغنى والمال، هل للتمتع باللذة والثروة، فلماذا تفشلون بينما من المفترض أن تنالوا كل ما تريدون”.
السبب أن إصابة عيوننا تجعلنا لا ندرك مباهج أيّ شيء، وتحل بنا الكوارث، ويسود حالنا إذا ما فسد ذهننا وانحرف. فلماذا تريدون دفن القنية في الأرض؟ هل لحفظها في أمان. ولكن العكس هو الذي يحدث، فمثلما يحدث مع طالبي المجد الباطل إذ يصومون ويعطون صدقة ويصلون، لهذا المجد الباطل، فإن الرب يحصن الإنسان ألا يسعى وراء ذلك فيقول: لأي غرض تصلي وتعطي صدقة؟ هل لمحبة مجد الناس – إذن لا تصلى لهذا الهدف – لأنك ستنال (إنما لكي تنال) مجدًا في اليوم العتيد.؟؟
ثم يستأثر المسيح أيضًا قلب الإنسان الجشع، من خلال اجتهاده في أمور الأرض، فيسأله لماذا تحتفظ بثروتك وتنعم بالمسرة؟ إنني سأمنحك كلا الأمرين بوفرة عظيمة إن وضعت ذهبك حيث آمرك أن تضعه.
ويكشف الرب في الحقيقة وبوضوح أكثر فيما بعد عن التأثير الشرير لهذا العقل على الذهن، حين ذكر الشوك (مت 13: 22)، لكنه هنا في الوقت الراهن، يهدد بنفس الأمر وبشكل مثير، حين يشبه من يسلك هذا الطريق بالإنسان المظلم، إذ لا يرى السائرون في الظلمة شيئًا بشكل واضح وتمييز(ومتميِّز)، لكنهم إذ نظروا حبلاً ظنوه ثعبانًا، وإن رأوا جبالاً أو وديانًا خافوا هلعًا. هكذا أيضًا المبصرون الذين لا ينذرهم أي شيء بل ينتابهم الشك، ويرتعدون بسبب الفقر، بل ولأية خسارة تافهة.
نعم. وإن هم خسروا شيئًا زهيدًا، يحزنون ولا يحزن مثلهم الذين في حاجة ضرورية للطعام. وكثير من الأغنياء يتعثرون ولا يحتملون سوء الطالع، ولا الإهانة. ولا أن يستغلهم أحد بسوء، فيبدو لهم الأمر فوق الاحتمال حتى أن كثيرين منهم قد يحطمون أنفسهم وينفصلون عن هذا الزمان الحاضر؛ إذ جعلتهم ثرواتهم مترفين مدللين لا يفعلون شيئًا سوى انتظار مزيد من الأموال. لهذا إذا أمرهم بخدمة ما، سارعوا إلى القتل والجلد والانتقام بكل خزي، واقعين في منتهى البؤس. ولا يضبطون أنفسهم متشبهين بالمخنثين من الناس – لا هم بالرجال ولا بالنساء – وإذ تطلب الأمر مزيدًا من الحيطة ليصبح الإنسان عفيفًا بلا خزي، فإنهم لا يفعلون نفس الشيء بعد أن أنفقوا كل أموالهم في أشياء لا تنفع. وإذا ما احتاج إلى ضرورة للإنفاق لا يجد بين يديه شيئًا يوفره، فيعاني من شرور لا علاج منها، فقد بذر كل ما يملك من قبل. ويشبه الواقفين على خشبة المسرح الماهرين في الفنون الشريرة، يعانون من اضطرابات جمة غريبة وخطيرة، لكنهم يبدون سخفاء في الأموال الأخرى الضرورية والنافعة، فيشبهون أناسًا يمشون على حبل مشدود، يعرضون قدرًا كبيرًا من الشجاعة، ولكن إن حل بهم أمر طارئ يتطلب جرأة أو شجاعة، لا يقدرون على التحمل أو التفكير، هكذا هم الأغنياء؛ يتجرأون كثيرًا من أجل المال، لكنهم لا يقبلون أن يضبطوا أنفسهم، ولا يقدرون على الخضوع لأي شيء يحرمهم من المال، قليلاً كان أم كبيرًا, ومثلما يكون العمل السابق خطيرًا وبلا ثمر، هكذا أولئك أيضًا يعانون من مخاطر وانتكاسات كثيرة، لكنهم لا يبلغون أبدًا أية نهاية سعيدة ونافعة، ويعانون من ظلمة مضاعفة إذ تفسد عيونهم بسبب انحراف أذهانهم، وبسبب خديعة اهتماماتهم يتورطون في عتمة ضبابية شديدة، فلا يقوون أبدًا على الرؤية.
ومن يسير في الظلمة يتحرر منها حين تشرق الشمس، لكن من له عينان تالفتان حتى وإن ظهرت الشمس – كحالة هؤلاء – حتى وإن أشرق عليهم شمس البرّ، وأخذ يحثهم، فإنهم لا يسمعون، فقد أعمت الثروة عيونهم لهذا صارت لهم عتمة مضاعفة يسيرون فيها بسبب ذواتهم، وأخرى بسبب إهمالهم لمعلمهم.
5. فلننصت إلى المعلم بكل اهتمام ودقة إذن، حتى وإن فات الأوان، نستعيد أبصارنا أخيرًا. ولكن كيف للإنسان أن يستعيد بصره؟ إن علمت أنك كنت أعمى، علينا أن تعرف لماذا صرت أعمى؟
بسبب شهوتك الشريرة، لأن محبة المال مثل عتامة ضارة تتجمع حول العين الصافية فتسبب ضعف الإبصار، ولكن هذه الغشاوة يمكنها أن تزول وتنقشع بسهولة؛ إن نحن تلقينا شعاع تعليم المسيح وإن استمعنا إليه يحثنا على الصلاح بقوله: “لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض”، ورُبّ قائل: ولكن ما جدوى السمع ما دمتُ مستعبدًا للشهوة؟
نقول في المقام الأول إن الاستماع الدائم يوفر قوة هائلة للقضاء على هذه الشهوة. ثم الاستمرار في السيطرة على النفس لا يكون يسبب شهوة أو رغبة بل عبودية مرة، وطغيان، وقيود وظلمة، واضطرابات وأتعاب دون نفع. والاحتفاظ بالثروة للآخرين أو حتى للأعداء،لا يجدي منفعة بل يولِّد الهروب والانحراف دائمًا، فالكنز أنت واضعه بين لصوص، أما إن كنت تشتهي ثروة ما، ففي كل الأحوال أبعدها حيث تكون آمنة دون تخريب ودون شهوة لأن الشهوة قيود وإهانة وخسران مصدر إغاظة دائم. ولن تتوفر لكم في الأرض بقية آمنة أبدًا، حتى إن قادكم الإنسان إلى عمق الصحراء، ووعدكم بالأمان لحفظ ثرواتكم. فإن أسرعتم ووثقتم فيه ووضعتم خيراتكم هناك، ما حفظتم شيئًا. ولكن إن كان الله لا الإنسان هو الذي يعدكم بهذه الأمور، وحيث لا يضع كنوزكم في صحراء بل في السماء، فهل تقبلون؟ ومهما كانت درجة الأمان هنا على الأرض، فلن تحرركم أبدا من الاهتمامات، وحتى لو لم تفقدوا ثرواتكم فلن تسلموا من القلق على خسرانها.
لكنك هناك لن تعاني من كل هذا، ولن تدفن ذهبك بل تستثمره فالكنز مثل البذرة. أو بالحري هو أكثر من ذلك، لأن البذرة لا تبقى إلى الأبد، أما الكنز السماوي فيبقى إلى الأبد، والكنز لا يزهر، لكن كنوز السماء تحمل أثمار أبدية لا تموت.
6. لكن إن اخبرتني عن الوقت، وتأخير المجازاة، فإنني أستطيع أيضًا أن أخبرك كم تلقيت بالمقابل هنا، ومن طبيعة الأشياء المتوفرة في هذه الحياة سأحاول إقناعكم أنكم في هذه الدنيا تقتنون أشياء كثيرة بغير منفعة ولا تستمتعون بها، وإن لفت أحد أنظاركم إلى الخطأ، فإنكم قد تلتمسون الأعذار لأولادكم وأحفادكم، ظانين أن لديكم عذرًا كافيًا تبررون به أعمالكم التي لا لزوم لها، لأنك وبعد أن يتقدم بك العمر جدًا وتبني منازل فخمة وترحل عن الدنيا قبل إكمالها، وحين تزرع أشجارًا تثمر بعد سنوات طوال، وتشتري أملاكًا وتؤول مواريث إليك بعد زمن طويل، وتكون منشغلاً بشكل كبير في مثل هذه الأمور، وأمور أخرى غيرها لا تجني متعتها، فهل تفعل ما تفعله لأجلك أنت أم لأجل الذين يعيشون بعدك؟ ولمن تنشغل كل هذا الانشغال؟ أليس فيم تفعله منتهى الحماقة؟ وتراك وأنت لا تتوانى لحظة هنا خشية ضياع الوقت، ورغم هذا كله تخسر كل أجرة أعمالك!
لكن في السماء هناك، وحيث يبقى انتظارك وصبرك في سكينة وسلام، وتنال بهما ربحًا أعظم، ولا تتبدد خيراتك للآخرين، بل تُحفظ كل العطايا لك. ولا يكون الانتظار طويلاً جدًا، لأنها أمور وشيكة وعلى الأبواب، وقد يتحقق بعضها في جيلنا، من يعلم! وقد يصل هذا اليوم المرهوب ونقف أمام المحاكمة المخوفة التي بغير فساد. أجل فقد تحققت الآيات كلها، وتمت كل العلامات، وكُرِز بالإنجيل في كل المسكونة وتحققت كل نبوات الحروب والزلازل والمجاعات – وليست الفترة الزمنية ببعيدة – فهل لم ير منكم آيات أخرى بعد؟.
إن في ذلك لآية عظيمة. لأنه في زمان نوح لم ير أحد منهم علامات الفناء للكون كله وقتها، لكن في وسط لهوهم وأكلهم وزواجهم، وكل ما اعتادوا عليه، بغتة تأخذهم الدينونة المخيفة.
وشعب سدوم أيضًا وبنفس الطريقة، عاشوا في بذخ ولهو، ولم يشكُ أحد منهم، فجأة أبادتهم الرعود والبروق التي نزلت بهم.
فإذا تأملنا كل هذا، فلنُعد أنفسنا لرحيلنا عن هذا العالم، لأنه حتى لو لم ينقض علينا يوم القضاء بعد، فإن نهاية كل واحد وشيكة وعلى الأبواب، سواء كان كبيرًا أو صغيرًا.
ومن المستحيل على الناس إذا رحلوا، أن يشتروا زيتًا بعد، أو ينالوا غفرانًا وصفحًا بالصلاة بعد، فالذي توسل إلى إبراهيم (لو 16: 24)، أو نوح أو أيوب أو دانيال (حز 14: 4) لم ينل شيئًا.
بينما نحن أمامنا الفرصة، فلنهيِّئ لأنفسنا وفرة من ثقة، ولنجمع الزيت بغنى، ولنخزن كل ما لدينا في السماء، حتى حينما نحتاج إليها بالأكثر وفي الوقت المحدد، ننعم بكل شيء.
بنعمة ومحبة ربنا يسوع المسيح للإنسان الذي له المجد والقوة الآن وكل أوان وإلى الأبد آمين
لعظة الحادية والعشرون
“لا يقدرُ أحد أن يخدم سيدين؛ لأنه إما أن يُبغض الواحد ويُحبّ الآخر، أو يُلازم الواحد ويحتقر الآخر” [ع24].
أترون كيف يتدرج في إبعادنا عن الأمور التي لدينا الآن، ويقدم ما يريد قوله على فترات طويلة، فيتحدث عن الفقر الإختياري أو الإرادي، ويطرد سلطان شهوة الجشع، لأنه لم يكتفِ بما قاله قبلاً، رغم كثرته وعظمته، بل يضيف أيضًا أقوالا أخرى، كإنذارات مزيدة.
لأنه ماذا يكون أكثر إنذارا مما يقوله الآن، إن كنا نحن حقًا وبسبب غنانا وثرواتنا نبتعد عن خدمة المسيح، أو ما الذي يمكن أن نشتهيه أكثر. إن كنا حقًا باحتقارنا للثروة نوجه حبنا وعواطفنا إليه لتصبح محبتنا له كاملة. وأعود فأكرر وأقول نفس الشيء، إن المسيح يضغط على السامع بكلا الوسيلتين ليطيع كلامه، وكطبيب ماهر للغاية، يشير إلى المرض الناجم عن الإهمال، كما يشير إلى الصحة الناتجة عن الطاعة.
تأملوا مثلاً، نوع الربح المشار إليه وميزته بأن يتخلص الإنسان من أمور مضادة، فيقول الرب: إن الثروة لا تؤذيكم في هذا فقط، بل هي تثير اللصوص ضدكم أيضًا، وتعتم ذهنكم إلى أقصى حد، وتقصيكم عن خدمة الله، فتحولكم إلى أسرى ثروات ميتة، وهي في كلا الحالتين تضركم. فهي من جهة تجعلكم عبيدًا لا أسيادًا يأمرون الآخرين، ومن جهة أخرى تطرحكم بعيدا عن خدمة الله، الواجبة خدمته قبل الجميع.
ومثلما أشار في موضع سابق عن مضاعفة سوء التدبير حيث “يَفسد السوس” هنا على الأرض، بينما لا يحدث هذا هناك، حيث الحراسة منيعة لا يمكن اختراقها. هكذا هنا أيضًا، يظهر مضاعفة الخسارة حيث نبعد عن الله وتجعلنا الثروة عبيدًا لمال الظلم. لكنه لا يعرض الأمر مباشرة، بل يؤسس تعليمه على اعتبارات عامة، قائلاً: “لا يقدر أحد أن يخدم سيدين، وهو يتحدث عن أمرين متناقضين لأنه لو لم يكن هناك تضاد، لما تحدث عن اثنين، بعكس ما قيل: “كان لجمهور الذين آمنوا قلب واحد ونفس واحدة” (أع 4: 32). فرغم أنهم منقسمون إلى أجساد عديدة، إلا أن اجتماعهم واتفاقهم قد جعل الكثيرين واحدا.
وإذ يريد الرب أن يدعم شرحه يقول إن من يخدم سيدين، يكره ويبغض، بدلاً من أن يخدم، “لأنه إما أن يبغض الواحد ويحب الآخر، أو يلازم الواحد ويحتقر الأخر”، موضحًا أن التغيير للأفضل أمر سهل، لئلا يقول قائل “لقد صرت عبدًا إلى غير رجعة، لقد أصبحت تحت سيطرة الثروة” مؤكدًا أن الإنسان يمكنه التغيير من حال إلى حال.
2. وكما ترون، وإذ يتحدث بشكل عام، ليقنع سامعه أن يكون قاضيًا نزيهًا على كلمات السيد الرب، وأن تحكم بطبيعة الأشياء ذاتها حين يتيقن من صدقه، حينئذ وليس مثل هذا الوقت يكشف السيد نفسه قائلاً:
“لا يمكنكم أن تخدموا الله والمال” [ع24].
فلنرتعد ونحن نتأمل هذا الأمر، ونفكر ما الذي جعل المسيح يقول ذلك، وكيف يضع المال مع اسم الله. لكن إن صدمنا هذا الأمر، فإن حدوثه في أعمالنا وتفضيلنا لطغيان الذهب على مخافة الله، هو أمر يصدم أكثر بكثير. ماذا إذن؟ ألم يكن هذا ممكنا بين القدماء؟ أجل دون شك، ورُبّ قائل: كيف حصل إبراهيم إذن على شهرة طيبة، وكيف نالها أيوب. لا تخبرني عن الأغنياء بل عن الذين يخدمون المال والثروات. فإن أيوب كان غنيًا، لكنه لم يخدم مال الظلم، بل تملكه وتحكم فيه، وكان سيدًا لا عبدًا، لهذا اقتنى كل شيء وكأنه وكيل لأملاك شخص آخر، وهو لم يكن يسلب الآخرين، بل كان يعطي المحتاجين من ماله الخاص. والأكثر من ذلك، إنه حين توفرت لديه الثروات لم تكن مصدر فرحه، “ما فرحتُ إذ كثُرت ثروتي” (أي 31: 25). ولهذا أيضًا لم يحزن حين ضاعت ثروته.
لكن أغنياء هذه الأيام ليسوا مثل أيوب، بل بالحري هم في حال أسو من حال العبيد، وكأنهم يدفعون الجزية لطاغية جبَّار، وكأن ذهنهم قلعة مشغولة بمحبة المال، تبعث إليهم بأوامرها من هناك يوميًا، ملآنة إثمًا، ولا يقوى أحد على مُخالفتها.
لهذا لا تكونوا معاندين بزيادة، لأن الله أعلن مرة وإلى الأبد ونطق أنه من المستحيل على الإنسان أن يوفق في خدمة سيدين. فإن قلتم لا بل هذا ممكن، فلماذا تقولون ذلك وأحد السيدين يأمركم أن تسلبوا حقوق الآخرين بالعنف. بينما يطالبك السيد الآخر أن تجرد نفسك من حب القنية، الأول يطالبك أن تكون عفيفًا، والثاني أن تكون سكيرًا مترفًا. واحد يأمرك أن تحتقر الموجودات بينما يجذبك الآخر إلى الأمور الحاضرة. واحد يأمرك أن تحتقر المصنوعات الرخامية والحوائط والأسقف والآخر أن تُعجب بها. فكيف لهذين الاثنين أن يتفقا؟.
ويدعو المسيح هنا مال الظلم بالسيد، لا بسبب طبيعة المال بل بسبب تعاسة الذين ينحنون أسفله. وهكذا أيضًا يدعو البطن إلهًا (في 3: 19). ليس بسبب كرامة هذا العضو، بل بسبب بؤس المستعبدين للبطون والأكل. وهو أمر أسوأ من أي عقاب، ومن يقبل العقاب طريقًا للانتقام يسقط هو فيه. لأن حال المجرمين المدانين حال سيِّئ، الذين إذ كان الله لهم ربَّا، بسبب توافه الأمور يهجرونه إلى طغيان المادة الخطير، فيجلب عملهم عليهم منتهى الأذى – هنا في الزمان الحاضر – فيعانون من القضايا والانتهاكات والمضايقات والأتعاب، التي تعمي النفوس وتكون خسارتهم فائقة. والأخطر من ذلك كله، أن يسقط الإنسان عن البركات الغالية، وأعظمها بركة خدمة الله.
3. بعد أن علَّم السيد الرب بكل الطرق فوائد احتقار الثروات، وكيفية حفظها بشكل جيد، واكتساب صفة ضبط النفس للمسرة والمداومة على الصلاح. يتقدم لتأسيس الجانب العملي للوصية؛ إذ أنها تخص أفضل تشريع، ليس فقط فيما يتصل بما هو نافع، بل أن يجعله أيضًا ممكنًا. لهذا يقول: “لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون” لئلا يقول قائل: ماذا إذن؟ هل إن أقصينا عنا كل شيء يمكننا أن نعيش؟ وللرب وقفة مع هذا الاعتراض تأتي في حينها. إذ يقول منذ البداية “لا تهتموا”- وقد يبدو الكلمة ثقيلة بعض الشيء- لكنه من المؤكد أوضح سوء التدبير الناجم عن الجشع، فجاءت نصائحه بعد أن جعل أمر استقبالها سهلاً، لهذا لم يقل “لا تهتموا” وحسب بل أضاف المسبب في أمره هذا. وبعد أن قال “لا تقدروا أن تخدموا الله والمال” أضاف “لذلك أقول لكم، لا تهتموا لحياتكم”. فلماذا يطلب ذلك؟ لأن الخسارة لا توصف، والثروة لا تلحق لكم الأذى وحسب، بل إن جرمها يصيب أكثر الأجزاء حيوية، وتعطل خلاصكم إذ تطرحكم بعيدًا عن الله خالقكم والمعتني بكم والذي يحبكم. لهذا أقول: “لا تهتموا”.
وبعد كشفه لفداحة الضرر الذي لا يمكن وصفه، حينئذٍ يجعل الوصية أكثر صرامة. فهو لا يأمرنا فقط أن نطرح ما نملكه، بل يمنعنا حتى أن نهتم بالطعام بالضروري، قائلاً: “لا تهتموا لحياتكم ولنفوسكم، بما تأكلون”، ليس لأن النفس الحية لا تحتاج إلى طعام، فهي نفس غير جسدانية، بل يتكلم وفقًا للعادة الشائعة؛ فعلى الرغم من عدم احتياجها للأكل، لا يمكنها البقاء في جسد لا يتغذى بالطعام. والسيد لا يضع الأمر هكذا ببساطة، بل يناقشه بعدة طرق، بعضها وفقًا لما ذكرنا- قبلاً- وبعضها من أمثلة أخرى، مما هو لدينا بالفعل. فيقول “أليست النفس (الحياة) أفضل من الطعام، والجسد أفضل من اللباس”؟ [ع25]. فالذي يعطينا الأعظم، ألا يهبنا الأقل أيضًا؟ والذي خلق الجسد ليأكل كيف لا يمنحنا الطعام؟ لهذا لم يقل هكذا ببساطة “لا تهتموا لحياتكم بما تأكلون” أو “بما تلبسون” بل قال “لأجسادكم ولحياتكم” على أساس أنه قصد عرض النماذج بأسلوب المقارنة. فالنفس التي أعطاها مرة وإلى الأبد في الجسد، والتي تبقى كما هي، رغم ازدياد الجسد يوميا لهذا حين يشير السيد الرب إلى هذين الشيئين، أيّ إلى خلود النفس وضعف الجسد، يربط بينهما قائلاً: “ومن منكم إذا اهتم يقدر أن يزيد على قامته ذراعًًا واحدة” (مت 6: 27).
هكذا لا يذكر شيئًا عن النفس، لأنها لا تزيد في القامة، بل يتحدث عن الجسد فقط، موضحًا هذه النقطة أيضًا، أن الطعام وحده لا يزيد من حجم الجسد، بل هي عناية الله التي تفعل ذلك، وهذه يوضحها بولس الرسول بطرق أخرى قائلاً:
“إذ ليس الغارس شيئًا ولا الساقي، بل الله الذي ينمي” (1 كو 3: 7). ومما توفر لدينا هنا، نراه يحثنا بهذه الطريقة، وأيضًا بواسطة أمثلة أخرى: “انظروا إلى طيور السماء” [ع26].
ولئلا يعترض أحد، نحن نفعل حسنًا باهتماماتنا تلك. فإن السيد الرب يثنيهم بالعدول عن أفعالهم: تارة بما أعظم وتارة بما هو أدنى: فبالأعظم أيّ النفس والجسد، بالأدنى: أيّ الطيور. لأنه إن كان يهتم أولاً بالأدنى جدًا من الأشياء اهتمامًا كبيرًا. فلماذا بالأكثر لا يهتم بالأعظم- مثلما يقول- وعلى نفس المنوال يتحدث إلى الجموع الغفيرة، لكن لم يكن الأمر هكذا مع الشيطان: كيف؟ “ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله” (مت 4: 4). لكن هنا يذكر الطيور ويريد بها أن يخجلهم، وهو أمر في غاية الأهمية كأسلوب تحذير.
4. ومع ذلك، فقد وقع بعض غير الأتقياء في حفرة جنون عميقة جدًا، فراحوا يهاجمون الأمثلة التي جاء بها السيد الرب! زاعمين أنها لا تصلح كمبدأ لتقويم الأخلاق ودعمها، إذ يستخدم- حسب مزاعمهم- مزايا طبيعته كمحفزات لهذا الغرض. ثم يضيفون قائلين: إن هذه الأمور تخص الحيوانات بالطبيعة فما ردنا على مثل هؤلاء.
حتى وإن كانت هذه الأمور تخصهم بالطبيعة، فمن المحتمل أيضًا أننا يمكن أن نكتسبها بالاختيار، لأن الرب لم يقل: “انظروا كيف تطير الطيور” وهو أمر مستحيل على الإنسان أن يفعله – وقد أثبته من أتممه في أعمالهم – لهذا يليق بنا أن نعجب باهتمام خالقنا واضع الناموس أشد الإعجاب. إذ أنه بدلاً من أن يأتي بأمثلة من بين البشر، وبينما كان ينبغي عليه أن يتحدث عن موسى وإيليا ويوحنا، وآخرين مثلهم لم يهتموا بشيء- ليؤثر في السامعين بسرعة- فإنه يذكر الكائنات غير العاقلة، لأنه لو كان قد تكلم عن أولئك الأبرار، لاستطاعوا أن يقولوا “لم نصبح مثلهم بعد”. لكن إذ يعبر عنهم في صمت- ويتحدث عن طيور السماء والهواء- فقد فوت عليهم كل حذر، مقتديًا بالناموس القديم. أجل فإن العهد القديم بالمثل يبعث بنصائحه إلى النحل والنمل” (أم 6: 6-8 س). وإلى السلحفاة والعصفور (السنونةُ) (إر 8: 7) وليس في هذا أية علامة دالة على تدني الكرامة ونحن باختيارنا نستطيع أن ننجز نفس الأمور التي تفعلها تلك الحيوانات بالطبيعة؛ فإن كان الرب يهتم بكائنات موجودة لأجلنا، فهو يهتم بالأكثر بنا. وإن كان يهتم بالعبيد، فأيضًا بالأحرار. لهذا يقول: “وانظروا إلى طيور السماء”، ولم يقل: لأنها لا ترتبك بأمور الحياة ولا تقيم أسواقًا للتجارة، لأنها من البديهي لا تحدث. لكن ماذا قال؟ إنها لا تزرع ولا تحصد.
ورُبّ قائل: ماذا إذن، ألا يجب علينا نحن أن نزرع؟ الرب لم يقل ذلك. ولا يحبنا أن نمتنع عن الزراعة، بل أن نمتنع عن الاهتمام. وهذا لا يعني أن نكف عن العمل، بل أن يكف المرء عن ضيق الأفق ويربك نفسه بالهموم. لأنه يأمرنا أيضًا أن نأكل، لكن دون “أن نهتم” وداود أيضًا منذ القديم يقول بشكل سري “تفتح يدك فتُشبع كل حي رضًى” (مز 145: 16). وأيضًا “المُعطي البهائم طعامها، ولفراخ الغربان التي تدعوه” (مز 147: 9).
ورُبّ قائل: مَنْ إذن لم يفكر في الأمر؟ ألم تسمعوا بعدد الأبرار الذين تحدثت عنهم: ألم تروا فيهم يعقوب وقد رحل عن بيت أبيه وقد انتابه اليأس من كل شيء، ألم تسمعوه يصلَّى قائلاً: “أعطاني الرب خبزًا لآكُل، وثيابًا لألبس” (تك 28: 20). وهذا لم يكن دور شخص مهموم بل إنسان يبحث فقط عن الله. وهذا أيضًا ما ناله الرسول الذي ألقى عنه كل شيء- ولم يكن مهموما- وأيضًا “الخمسة آلاف” و “الثلاثة آلاف” (أع 4: 4، 2: 41).
5. لكنكم إن كنتم عند سماعكم تلك الكلمات السامية، لا تحتملون أن تحرروا أنفسكم من هذه القيود الخطيرة. فاعتبروا الخسران الذي يسببه هذا الأمر. وضعوا نهاية لاهتماماتكم، إذ يقول الرب: “من منكم إذا اهتم يقدر أن يزيد على قامته ذراعًا واحدة؟” (مت 6: 27).
أترون كيف يعلن عن الغامض بكل ما هو واضح ومؤكد؟ إذ يقول: بالنسبة للجسد، مهما كان اهتمامك، لن تقدر أن تضيف شيئًا. ومهما كان ما تجمعه قليلاً، ومهما جمعت من طعام، لا تعتقد أنك فاعل شيئًا، واضح إذن أن الأمر لا يتعلق باجتهادنا الدؤوب، بل بعناية الله. مهما بدا علينا أننا نشطون، فلا شيء من أعمالنا بدون عناية الله يمكنه أن يؤثر. فإن تخلى الله عنا، فلا اهتمام ولا قلق ولا تعب ولا أيّ شيء آخر من جانبنا يصنع شيئًا، بل الكل يزول تمامًا.
لهذا لا نفترض أن وصاياه مستحيلة- لأن هناك كثيرين ينفذونها حسنًا، وكما هي تمامًا- وإن كنت لا تعرف عنهم شيئًا، فليس هذا بعجيب. لأن إيليا أيضًا ظن أنه كان وحيدًا. لكن قيل له: “أبقيت لنفسي سبعة آلاف رجل” (1مل 19: 18، رو 11: 4) ومن الظاهر الآن أن كثيرين يحيون حياة حسب الآباء الرسل مثل “الثلاثة آلاف” و “الخمسة آلاف” (أع 2: 41، 4: 5). وإن كنا لا نؤمن بهذا، فليس بسبب عدم وجود من يصنعون الصلاح، بل لأننا نحن هم الذين لا يصنعون صلاحًا. تمامًا مثلما على السكير أن يصدق أن هناك أناسًا لا يتذوقون حتى الماء (وهو ما يحدث مع العديد من المتوحدين النساك بيننا).
والذي يقيم علاقات متعددة مع أكثر من امرأة، لا يصدق أنه من السهل أن يعيش الإنسان حياة البتولية. والذي يسلب خيرات الناس، لا يمكنه أن يتخلى بسهولة عن خيراته الخاصة. والذين ينصهرون يوميًا تحت وطيس القلق الكثير يصعب عليهم قبول الأمر.
ولما كانت الحقيقة أن كثيرين بلغوا تلك الحالة، وجب علينا أن نظهر ذلك من بين أولئك، الذين مارسوا إنكار الذات حتى في جيلنا. أما بالنسبة لكم، يكفي أن تتعلموا ألا تشتهوا ما للغير، وأن الصدقة أمر طيب. وأن تعرفوا كيف تعطوا ما لديكم. لأن هذه الأمور أيها الأحباء، إن كنتم تفعلونها في حينها، فإنها تنتقل بسرعة منكم إلى الآخرين.
6. وفي الوقت الراهن- فلندع جانبًا إسرافنا المفرط ونحيا باعتدال، وأن نتعلم كيف نكتسب كل ما لدينا بالعمل الأمين- فالطوباوي يوحنا المعمدان أيضًا، حينما كان يتحدث إلى أولئك الذين كانوا يتعاملون بالجزية من الجنود، أمرهم “أن يكتفوا بأجورهم” (لو 3: 14) وإذا اشتاق أن يقودهم إلى ضبط النفس على مستوى آخر وأكبر، وإذ كانوا في حالة لا تسمح لهم بذلك، تحدث عن الأمور الأخرى الأقل. لأنه لو ذكر لهم أمورًا أعلى منها، لفشلوا في تكييف أنفسهم معها، ولسقطوا عن إكمال الأصعب. ولهذا السبب عينه، فإننا ندربكم على الواجبات الأدنى.
نعم، لأننا نعلم أن الحِمل الطوعي ثقيل عليكم جدًا- في الوقت الراهن- وليست السماء بعيدة عن الأرض، مثلما أنتم بعيدون عن إنكار الذات. فنتمسك إذن ولو بالوصايا الأقل. لأن في التمسك بها تشجيع ليس بالقليل، فإن البعض، حتى من بين الأمم قد أتموا ذلك، وإن بغير الروح اللائق، وقد تجردوا من كل ممتلكاتهم. ومع ذلك، نحن قانعون في حالتكم أن أعطيتم صدقاتكم بسخاء، سرعان ما تنجزون باقي الواجبات الأخرى أيضًا، إن كنا نتقدم في هذا الطريق.
لكن إن كنا لم نحقق شيئًا يذكر بعد، فأية نعمة نستحقها؟ نحن الذين يحثنا الرب أن نتفوق على شعب الناموس القديم. ومع ذلك نظهر أدنى من الفلاسفة بين الأمم.
ماذا نقول، إذ ونحن ملزمون أن نكون ملائكة وأبناء الله. لا نقدر حتى أن نظل على حالنا كبشر؟ لأن إفسادنا للحال واشتهاءنا ما للغير لا يصدران عن رقة البشر، بل عن غلظة الحيوانات المفترسة، بل أن مغتصبي حقوق جيرانهم لهم أسوأ حالاً من الحيوانات الضارية؛ لأن الحيوان المتوحش يفعل ذلك بدافع طبيعته. لكننا ونحن المكرمون بالعقل، إذ ننحرف عن هذه الوحشية غير الطبيعية، لا ننال مغفرة أبدية.
فلنهتم بمعايير هذا الإرشاد الموضوع أمامنا- وعلى الأقل نصل إلى حالة وسط- فننجو من العقاب الآتي، ونتقدم بانتظام لنبلغ منتهى قمم الصالحات، التي نصل إليها بنعمة ومحبة البشر اللواتي لربنا يسوع المسيح الذي له المجد والسلطان إلى أبد الآبدين. آمين.
لعظة الثانية والعشرون
تأملوا زنابق الحقلِ، كيف تَنموُ. لا تتعبُ ولا تغزلُ، ولكن أقُولُ لكم إنه ولا سُليمانُ في كل مجده كان يلبسُ كواحدةٍ منها” [ع28- 29]
بعد أن تحدث عن طعامنا الضروري، وبعد أن أشار إلى وجوب عدم الاهتمام حتى بهذا الأكل، ينتقل السيد إلى ما هو أسهل، لأن الملبس ليس ضروريا كالطعام، فلماذا لم يستخدم هنا نفس المثال عن الطيور؟ ولم يذكر الطاووس والإوز والغنم. لأنه من المؤكد أن هناك أمثلة عديدة يستقى منها، لأنه سيوسع من دائرة النقاش بطريقتين:
أحداهما بتفاهة الأشياء التي تشترك معًا في هذا الجمال الظاهري. ومن الأناقة التي يسبغها الله على الزنابق من حيث بهائها. لهذا السبب وبعد ذكره إياها، لا يسميها بالزنابق، بل “عشب الحقل” (مت 6: 31). بل لم يكتف بهذا الاسم، بل يوضح أيضًا مدى خستها بقوله “الذي يوجد اليوم” ولم يقل “ولا يوجد غدًا” بل ما هو أكثر رخصًا، “ويطرح غدًا في التنور” (الفرن أو الموقد). ولم يقل “يلبسه” بل “يلبسه… هكذا”. أرأيتم كيف يكثر الرب من التأكيدات والتركيز في كل مكان؟ وهو يفعل ذلك ليلمس شغاف قلوبهم، ولهذا أضاف “أفليس بالحري جدًا يلبسكم أنتم” (مت 6: 30) ويظهر التأكيد من قوة اللفظة “أنتم” موضحًا أنه ما من جنس آخر قد أضفى عليه هذه العطية العظيمة بسخاء ووهبه هذا القدر من الاهتمام.
وكأنه يقول: “أنتم الذين أعطاكم الله نفسًا، وشكَّل لكم جسدًا” الذين من أجلهم خلق كل الأشياء المنظورة، الذين من أجلهم أرسل الأنبياء ومنح الناموس، وصنع تلك الأعمال الصالحة الغير معدودة، الذين من أجلهم بذل ابنه المولود الوحيد، وبعد أن أوضح برهانه جيدًا، يبدأ السيد في توبيخهم قائلاً: “يا قليلي الإيمان”؛ إذ أن هذه هي صفة الناصح، أنه لا ينصح فقط بل يوبخ أيضًا، لكي ينبه الناس أكثر إلى القوة المقنعة لكلماته.
بموجب هذا فإن السيد المسيح لا يعلمنا فقط ألا نهتم، بل ألا ننبهر أيضًا بالمظاهر النفسية لملابس الناس، وينبههم إلى جمال العشب الظاهري، والرونق الأخاذ للعشب الأخضر، أو بالحري أن العشب وهو أكثر قيمة من تلك المظاهر فلماذا تتفاخرون بأشياء ينعم النبات بأجمل منها في مظهره الباهر.
انظروا كيف يستهل السيد المسيح درسه بالإشارة إلى سهولة الأمر، بواسطة الأضداد أيضًا وتارة بواسطة أمور كانوا يخشونها؛ لإبعادهم عن مثل هذه الهموم. حين قال “تأملوا زنابق الحقل” ثم أضاف “لا تتعب” ورغبة منه أن يحررنا حتى من التعب. فالتعب في الحقيقة لا يكمن في عدم التفكير بل في الاهتمام بهذه الأشياء.
ومثلما يقول “لا تزرع” ليس بغرض التخلص من الزرع، بل التخلص من الاهتمام القلق. وكما في قوله “لا تتعب ولا تغزل” لا يضع حدًا للعمل بل ينهي عن الاهتمام.
لقد فاق جمال زنابق سليمان لا مرة ولا مرتين، بل طوال مدة حكمه لأنه ما من أحد يقدر أن يقول: أنه قد لبس كواحدة منها ذات مرة، ثم صار بعدها بدونه. ولا حدث أن الرب قد أظهره هكذا في جمال فائق ذات مرة، لأنه يقول عنه “في كل مجده أو في كل حكمه”، هكذا فاقت الزنبقة كل جمال سليمان بل ونافسته. لهذا قال عنها “كواحدة منها”. لأن هذا هو الفارق بين الحق والباطل، ولهذا كان الفارق شاسعًا بين تلك الملابس وهذه الزهور.
فإن كان سليمان قد أقر بأنه أدنى رتبة، مع أنه كان أكثر مجدًا من كل ملوك الأرض أبد الدهر. فكيف يتسنى لكم التفوق أو بالحري الاقتراب ولو بقدر ضئيل من كمال الشكل في هذه الزخارف؟
بعد هذا يعلمنا السيد ألا نسعى أبدًا إلى زخرفة مثل هذه على الإطلاق. انظروا على الأقل غايته من هذا الإرشاد: أن تنظر إلى النهاية. فإن هذه الزهور الباهرة الجمال “تُطرح في التنور(الفرن)” فإن كان الله قد أظهر عناية فائقة جدًا بأشياء وضيعة عديمة النفع والقيمة، فكيف لا يهتم بكم أنتم أكثر من كل المخلوقات الأخرى؟. وما السبب أنه يخلقها بهذا الجمال؟ أليس ليُظهر مدى حكمته وامتياز قدرته، لنتعلم ونعرف مجده في كل شيء. أو ليست السماوات “تحدث بمجد الله” (مز 19: 1) والأرض أيضًا، وهذا ما أعلنه داود المرنم حين قال “سبح الرب أيها الشجر المثمر وكل الأرز” (مز 148: 9). لأن البعض بثمارها، والبعض الآخر بعظمتها والبعض بجمالها، يرسلون التسبيح إلى الذي صنعهم. وتلك أيضًا علامة على الامتياز الفائق للحكمة، انه حتى مع الأشياء التافهة جدًا (وهل هناك ما هو أتفه من شيء يوجد اليوم ويزول غدًا؟) فإن الله يسكب جمالاً باهرًا كهذا. فإن كان قد أعطى العشب ما لا يحتاجه (لأنه ما فائدة الجمال في إشعال النيران؟) كيف لا يعطيكم أنتم ما تحتاجونه؟ إن كان أكثر الأشياء تفاهة قد أضفى الله عليه هذا الرونق الرائع. ولم يفعل ذلك لاحتياج تلك الأشياء لهذا الرونق، بل لسخائه. فكيف بالحري يكرمكم وأنتم أكرم المخلوقات في أموركم الضرورية؟
2. وكما ترون، وبعد أن اظهر السيد الرب عظمة العناية الإلهية، تجاه الخليقة كلها، ووبخهم في الأمور التي تلي هذا التعليم، فإنه كان فعلاً فلم يلق على عاتقهم ومسئوليتهم انعدام الإيمان بل قلته قائلاً: “إن كان الله هكذا قد ألبس عشب الحقل، فكم بالحري أنتم يا قليلي الإيمان” (مت 6: 30).
ويقينًا فإن الرب يفعل كل هذه الأمور حقًا. “لأن به كان كل شيء وبغيره لم يكن شيء مما كان” (يو 1: 3). ولكنه لا يذكر شيئًا عن نفسه في أيّ موضع، إذ يكفي في الوقت الراهن أن يدلك على قدرته الكاملة، إذ قال في كل وصية “سمعتم أنه قيل للقدماء”. وأما أنا فأقول لكم فلا تتعجبوا إذن أنه في ظروف لاحقة أيضًا كان يحجب نفسه، أو يتحدث عن ذاته بتواضع. إذ أن له في الوقت الحالي غرض واحد فقط، أن تحقق كلمته هدفها وتثبت فيهم ليستقبلوها بسهولة. ويبرهن في كل أوان انه لم يكن أبدًا مضادًا لله الآب بل له نفس فكره الواحد. وهو ما يفعله هنا أيضًا. لأنه وبالرغم من كلمات كثيرة فاه بها، لم يكف عن أن يضع أمامنا ما يجعلنا نعجب بحكمته وعنايته الإلهية، واهتمامه الرقيق اللطيف والدائم بكل شيء- الكبير منها والصغير- فحين كان يعلِّم عن أورشِليم دعاها “مدينة الملك العظيم” (مت 5: 35). وحين ذكر السماوات، أطلق عليها أيضًا اسم “عرش الله” (مت 5: 34). وحين كان يتحدث عن تدبيره للعالم، ونسب إلى الآب كل شيء أيضًا قائلاً “إنه يشرق شمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار”. وعلَّمنا في الصلاة أن نقول “للآب المُلك والقوة والمجد”. وفي حديثه هنا عن العناية الإلهية، وكيف أن الآب في أدنى الأشياء وأتفهها هو أعظم الفنانين قاطبة إذ “يُلبس عشب الحقل ويكسوه” ولا يدعو السيد الرب هنا أباه هو، بل أباهم، لكي يوبخهم على ذات الكرامة نفسها، حتى إذا ما دعاه هو أباه، لا يعودون مُستائين منه بعد.
فإن كان الإنسان لا يهتم حتى بالضروريات، فأي صفح نستحقه ونحن نُفتكر في أشياء باهظة الثمن أو بالحري، أولئك الذين لا ينامون ليلتهم حتى يغتصبوا حاجات الآخرين؟
3. “فلا تهتموا قائلين: ماذا نأكل أو ماذا نشرب أو ماذا تلبس؟ فإن هذه كلها تطلبها الأمم” (مت 6: 32). أترون كيف يُخجلهم من جديد، ويُظهر أنه لم يأمرهم بشيء مرهق أو ثقيل، لذلك عندما قال “إن أحببتهم الذين يحبونكم، فأي أجر لكم، أليس العشارون أيضًا يفعلون ذلك؟ أو ليس الأمم يفعلون ذلك” وهو يحثهم هنا على شيء أعظم، وهكذا يدفعهم للأمام ويوبخهم مشيرًا أن ما يطلبه منا هو دَيْن ضروري. لأننا إن كان من المحتم علينا أن نسلك أفضل من الكتبة والفريسيين. فما الذي نستحقه؟ إن كنا لا نتجاوز هذا القدر، بل نقبع على حال الأمم المتردية، ونحاكي صغر نفوسهم؟
ولم يقف الرب عند حد التوبيخ، بل إثارة الهمم بهذا الأسلوب. وهو يُخجلهم بقوة التعبير لأنه في موضع آخر يعود فيعزيهم قائلاً: “أبوكم السماوي يعلم أنكم تحتاجون إلى هذه كلها” ولم يقل “الله يعلم” بل “أبوكم السماوي يعلم” ليقودهم إلى الرجاء الأعظم فيه، لأنه إن آبا ولا آب آخر سواه، فإنه لن يتوانى عن أولاده أبدًا، في شدة الشرور، مُظهرًا أن الناس وهم آباء لا يحتملون أن يفعلون بأبنائهم هذا. ويضيف بُعدًا آخر للنقاش هنا؛ أنهم يحتاجون إلى هذه كلها. فهذه الأشياء ليست من النوافل التي لا لزوم لها، حتى أنه لا يهتم بها. فمع إنه في الأشياء قليلة الشأن يهتم جدًا، كما في حال العشب. فإنه في هذه الأشياء التي تبدو ضرورية، وموضع اهتمامكم، هي بالأمر الكافي أن يبعدكم عن هذا الاهتمام. فإن كنتم تقولون يجب علينا التفكير والاهتمام بهذه الأشياء الضرورية. أقول: على العكس- كلا. لأنه بسبب أنها ضرورية لا تهتموا- لأنه لو كانت تافهة لا لزوم لها، ما وجب علينا حتى أن نيأس، بل أن نشعر بالثقة لنوالها. ولكن إذ نتحدث عن أشياء ضرورية، فلا يجب بعد أن نشك في أمر الحصول عليها، لأنه ما من أب يفشل في إعطاء أولاده ما يحتاجون من ضروريات. ومن المؤكد أن الله يعطيهم أيضًا احتياجاتهم: لأنه خالق طبيعتنا، والذي يعرف تمامًا احتياجاتنا. لهذا لا يمكنكم القول: “هو في الحقيقة أبونا، والأشياء التي نطلبها ضرورية، لكنه لا يعرف أننا نحتاج إليها!” لأن الذي يعرف طبيعتنا ذاتها لأنه جابلها- وقد خلقها على ما هي عليه- بالتأكيد يعرف احتياجاتها أيضًا أفضل منكم أنتم المحتاجون إلى ما يلزمها. إذ أصبحت طبيعتنا بموجب قانونه هو في مثل هذا الاحتياج، لهذا لا يناقض نفسه فيما أراده، فيعرضها للضرورة والاحتياج. فلا يحرمها من حاجاتها الضرورية والملحة. لهذا، دعنا لا نهتم، لأننا لن ننال شيئًا من جراء هذا الاهتمام. بل نعذب أنفسنا، لأنه يعطينا، سواء كنا نهتم أو لا نهتم، والأكثر حين لا نهتم. فما الذي نربحه من قلقنا غير عقوبة لا لزوم لها، لأن المرء حين يذهب إلى حفل بهيج زافر بالأطايب، لا يهتم ولا ينشغل بالطعام. والذي يسير نحو نبع ماء لا يقلق من جهة الشرب. لهذا إذ نرى أن لنا وفرة أكثر سخاءً من أيّ شبع أو من أيّ ولائم بغير حصر، مجهزة قبلاً، وهي العناية الإلهية. فلماذا نصير متسولين ضيقي الأفق؟.
4. لأنه مع ما قاله الرب قبلاً. يضع لنا سببًا آخر للشعور بالثقة حيال هذه الأمور قائلاً: “اطلبوا أولاً ملكُوت الله وبره، وهذه كُلها تُزادُ لكُم” (مت 6: 33). هكذا وحين حرر النفس من الاهتمام والقلق، ذكر السماء، لأنه في الحقيقة قد جاء ليخلصنا من الأمور العتيقة، وليدعونا إلى وطن أعظم. لهذا فإنه يفعل كل شيء ليحررنا من الأمور غير الضرورية، ومن عاطفتنا تجاه الأرض، لهذا السبب يذكر الأمم أيضًا قائلاً: “إن الأمم تطلب هذه الأشياء” فهم الذين يتركز كل عملهم في الزمان الحاضر، والذين لا يهتمون بالأمور الآتية (العتيدة). ولا بأي فكر سماوي. أما بالنسبة لكم، فهذه الأشياء ليست أساسية، بل هناك أمور أخرى أهم. لأننا لم نولد لهذه الغاية، أن نأكل ونشرب ونلبس، ولكن لنرضي الله، وننعم بالصالحات العتيدة. ولما كانت الأمور الأرضية هنا ثانوية في عملنا، فلتكن أيضًا ثانوية في صلواتنا. لهذا قال أيضًا: “اطلبوا أولاً ملكوت الله، وهذه كلها تُزاد لكم”، ولم يقل “تُعطى لكم” بل “تُزاد لكم” ليعلموا أن أشياء الزمان الحاضر ليست من بين العطايا الإلهية العظيمة، إذا ما قورنت بالأشياء العتيدة. ولهذا لم يأمرنا كثيرًا أن نطلبها، بل وبينما نطلب أشياء أخرى لنثق، وكأن هذه أيضًا قد زيدت على تلك.
اطلبوا إذن الأشياء الآتية (العتيدة) وستنالون الحاضرة أيضًا، لا تطلبوا الأشياء المنظورة لأنكم حتما ستنالونها، بل لا يجدر بكم أن تقتربوا إلى ربكم بمثل هذه الأشياء، وأنتم الذين يجب عليكم أن تصنعوا غيرتكم كلها واهتماماتكم لأجل البركات التي لا يُنطق بها، فأنتم تخزون أنفسكم جدًا باستهلاكها في أشياء وقتية.
ورُبّ قائل “كيف يكون هذا، ألم يأمرنا أن نطلب الخبز؟” بلى، لكنه أضاف “اليومي” أو “خبز هذا اليوم” أو (خبز الكفاف) وهو نفس ما يفعله هنا. فهو لا يقول “لا تهتموا” بل “لا تهتموا بالغد” مقدمًا، لنا الحرية في نفس الوقت الذي يربط فيه نفوسنا بأشياء أكثر ضرورية لنا، لأنه لهذه الغاية يأمرنا أن لا نطلب وكأن الله يحتاج أن نذكره بها، بل لكي نتعلم أننا نحقق ما نحققه بمعونته هو. وحتى نصبح بالأكثر خاصته بصلاتنا الدائمة لأجل هذه الأمور. لأن الذي يمنح الأعظم، يمنح بالحري الأصغر بدرجة أكبر. إذ يقول الرب: “إني لا أقول لكم لا تهتموا بهذه الفرص ولا أن تطلبوا، حتى تعانوا من الضيق، وتتجولوا هكذا عرايا، بل لكي تتوفر لكم هذه الحاجات بوفرة أعظم” وهو أمر كما ترون يناسب قبل كل شيء أمر انجذابهم إليه.
ومثلما يحدث مع الصدقة. حين كان يمنعهم أن يتباهوا أمام الناس، يأمرهم هنا أساسًا، ويعدهم بأن يعطيهم حاجاتهم بحرية أوفر، إذ يقول “لأن أباكم الذي يرى في الخفاء هو يجازيكم علانية” (مت 6: 4). هكذا هنا أيضًا إذ يبعدهم عن طلب هذه الأشياء، يعدهم أن يعطيهم حتى لو لم يطلبوا، وبفيض أوفر. لهذا يقول إنه لهذه الغاية يأمركم ألا تطلبوا وألا تأخذوا بأسلوبكم أنتم. فأنتم حين تقلقون حيال العطايا تجعلون أنفسكم غير مستحقين لها ولا للأمور الأخرى الروحية، فيكون قلقكم بلا مبرر وتحرمون أنفسكم من المتاح أمامكم.
5. “فلا تهتموا للغد، يكفي اليوم شره” أيّ يكفي الضيق والألم (مت 5: 34).
ألا يكفيكم هذا، أن تأكلوا خبزكم بعرق الجبين؟ فلماذا تضيفون مزيدًا من الضيق بسبب القلق. وأنتم على وشك الخلاص من متاعب سابقة؟
والرب يعني هنا بكلمة “شر” لا الشر بمعناه الحرفي، حاشا، بل الضيق والألم- وهما شر- والمتاعب والقلاقل، وكما يفعل في موضوع آخر، “هل هناك شر في المدينة، والرب لم يفعله؟” (عا 3: 6). وهو لا يعني أبدًا السلب والنهب والضرر- ولا أيّ شيء من كل هذا- بل الضربات التي يسمح بها الله من فوق. ويقول أيضًا “أنا صانع سلام وخالق الشر” (إش 14: 7) وهو هنا لا يعني الشرور حرفيًا- ولكن المجاعات والضربات وهي أمور يحسبها الناس شرًا- وللتعميم نطلق نحن عليها كلها شرورًا.فمثلاً كهنة وأنبياء هذه الضربات الخمس حين وضعوا النير على رقاب الأبقار، ودعوها تمضى بدون العجول (1 صم 6: 9) أطلقوا كلمة شر على الضربات المرسلة من السماء، وعلى ما نجم عنها من عذاب وفزع. هذا إذن هو ما يعنيه هنا أيضًا، حين يقول “يكفي اليوم شره”. لأنه ما من شيء يؤلم النفس مثل الاهتمام والقلق. ولهذا قال بولس الرسول حين كان يحث على البتولية وأشار عليهم بالنصح: “أريدكم أن تكونوا بلا همٍ” (1 كو 7: 32).
لكن حين يقول الرب “الغد يهتم بنفسه” لا يقولها وكأن اليوم يهتم بهذه الأمور، بل على اعتبار أنه يتحدث إلى أناس غير كاملين يريدون أن يجعلوا قوله أكثر تعبيرا. لهذا يجعل من الزمن شخصًا للتعميم، وهو هنا ينصح بحق وحين يتقدم في حديثه ويشرع كلامه ليصبح قانونًا يقول: “لا تقتنوا ذهبًا ولا فضة ولا مزودَا للطريق” (مت 10: 9-10) مظهرًا كل الحق في أعماله، وبعد أن يقدم لهم الوصية الفعلية بشكل أكثر تحديدًا، تصبح الوصية أيضًا أكثر سهولة في قبولها وقد وثقها بأعماله الذاتية كما ثم في سابقاها، فأين إذن كان قد وثق هذه الأقوال بأعماله؟
اسمعوه يقول: “ليس لابن الإنسان أين يسند رأسه” (مت 8: 20) ولا يكتفي بهذا بل يظهر في تلاميذه أيضًا الدليل الكامل على هذه الأمور، إذ يشكلهم مثلما هو أيضًا- وعلى نفس النمط- ولا يجعلهم معوزين شيئًا. لكن لاحظوا اهتمامه الرقيق، وكيف تفوق عواطفه عواطف أيّ أب إذ يقول: أوصيكم بهذا، لا لشيء آخر سوى لكي أحرركم من أية اهتمامات زائدة. لأنه إن فكرتم اليوم في الغد، عليكم أيضًا أن تفكروا مرة أخرى في الغد، فلماذا تهتمون بما انتهى ومضى؟ ولماذا تقبلون ضيقًا أكثر في اليوم الواحد؟ وحين لا تتوفر لكم إنارة الآخرين تتراكم عليكم المتاعب الزائدة بسبب الجشع- والمسيح هنا يجعل الزمن حيًا ويصفه كشيء مصاب- ويعجب لعدم اكتراثهم قائلاً لهم: لماذا قبلتم اليوم لتهتموا بما فيه من أمور، ولأي سبب تضيفون إليه أمور يوم آخر ألا تكفي متاعب اليوم؟.
وأتوسل إليكم الآن. لماذا تجعلون اليوم أثقل وأصعب. حين يقول واضع الناموس هذه الأمور الآن وهو دياننا، فكروا في الرجاء الموضوع أمامنا- وهو رجاء طيب- والرب يشهد بنفسه أن هذه الحياة بائسة ومرهقة. حتى إن اهتماما بيوم واحد يمكن أن يلحق بنا الأذى والضيق.
6. ومع ذلك، فإنه بعد عدة كلمات شديدة، لا نزال نهتم بهذه الأمور، ولم نعد نهتم بأمور السماء، بل عكسنا ترتيب الله، فنقاوم أقواله في كل مرة. لاحظوا كيف يقول: “لا تهتموا بالأمور الحاضرة”- ولكننا نهتم بها إلى الأبد- وحين يقول “اهتموا بالسماويات” لا نطلبها نحن ولو لساعة واحدة، بل لشدة اهتمامنا بأمور العالم نهمل الأمور الروحية، وهي الأعظم بما لا يقاس. لكن هذا الانتعاش لا يدوم أبدًا إلى الأبد. ولا يمكنه أن يدوم أبدًا. فماذا لو احتقرنا كلامه لعشرة أيام؟ أو عشرين يوما؟ أو مئة؟ ألا نقع في غير الضروري وقوعًا بالغًا، فنسقط بين يدي الديَّان؟ لكن للتأجيل عزاؤه. فأيّ نوع من العزاء والراحة. هل ننتظر العقاب والانتقام يوميًا.
فإن كان لكم بعض العزاء بسبب التأجيل، فاستثمروه في تجميع ثمار تغييركم بالتوبة. طالما أن مجرد التأجيل للانتقام قد يبدو لكم نوعًا من الإنعاش! – فإن تجنُب الانتقام هو المكسب – إذن فلنوظف هذا التأجيل أعظم توظيف، ليكون خلاصنا كاملاً من المخاطر المحدقة بنا، فلا شيء مما يحيط بنا يبدو ثقيلاً أو خطيرًا – فكلها أمور سهلة وهينة جدًا – إن كان هدف القلب أصيلاً. عندئذٍ يمكن لنا أن نحقق كل شيء حتى إن كنا مثقلِّين بعيوب عدة. لأنه هكذا فعل منسى الكثير من الآثام فألقى الأيادي على القديسين ودنس الهيكل، وملأ المدينة قتلاً وارتكب حماقات تفوق الوصف. ورغم شره المستطير، غسل عن نفسه كل هذه الخطايا (2 أي 33: 1-20 مع 2 مل 21: 1-18) كيف؟ بالتوبة والاهتمام بالتغيير. فما من خطية- اجل أقول ما من خطية- لا تخضع لقوة التوبة وتأثيرها. أو بالحري لنعمة المسيح. لأننا إن أردنا التغيير فعلاً، علينا أن نستعين بالسيد المسيح. وإن رغبتم في الصلاح، فلا شيء يعوقكم، ولا أحد يمنعكم، حتى الشيطان ليس لديه قوة عليكم. طالما اخترتم الأفضل، واجتذبتم الله لعونكم. لكن إن لم تريدوا ذلك بأنفسكم، بل تحاشيتم الأمر، فكيف يحميكم؟ لأنه ليس عن ضرورة ولا عن إجبار، بل بمحض إرادتكم الذاتية يريد أن يخلصكم.
لأنه إن كان عندكم خادم يمتلئ قلبه بالكراهية والحقد نحوكم؛ يخالفكم على الدوام، يهرب منكم، فإنكم لا ترغبون بعد في الاحتفاظ به، رغم احتياجكم لخدماته. أفلا يفعل الله ذلك؟ وهو الذي يفعل كل شيء، لا لصالحه هو، بل لخلاصكم. أيختار أن يحجزكم بالإجبار؟ فإن أظهرتم من جهة أخرى نية صادقة، لا يتوقف الله أبدًا منعكم. مهما حاول الشيطان مقاومتكم والوقوف ضدكم.
إذن نحن الملامون إن دمرنا أنفسنا؛ لأننا لم نقترب إليه ولم نسع ولم نتوسل إليه كما ينبغي. لكن رغم أننا نقترب، فإننا لا نفعل ذلك كأشخاص يحتاجون إلى القبول وليس بإيمان صحيح، وليس كمن يحتاج فيطلب، بل نفعل ذلك كله بتكاسل وفتور همة.
7. ويريدنا الله أن نطلب منه احتياجاتنا. ولهذا يعتبر نفسه في علاقة عظيمة معكم؛ لأنه وحده من بين كل الدائنين يعتبر الدين نعمة ويعطينا ما لم نقرضه له. وإن ألح أحد على الطلب، يعطيه حتى ما لم يأخذ منه. لكن إن كان الطلب في بلادة وفتور، فإنه هو أيضًا يظل يؤجل الاستجابة مرة تلو الأخرى، لا بسبب عدم مشيئة في العطاء، بل لمسرته يريدنا أن نكرر الطلب عليه. ولهذا يخبركم بمثال الصديق الذي جاء ليلاً وطلب رغيف خبز (لو 11: 5-8) والقاضي الذي لم يكن يخشى الله ولا يضع اعتبارًا للناس (لو 18: 1-8) ولم يقل الرب ذلك على سبيل المثال، بل فعل ذلك عمليًا، حينما صرف المرأة الكنعانية بعد أن ملأها بنعمته العظيمة (مت 15: 21-28، مز 7: 24-30) فبواسطتها أظهر لنا انه يعطي من يسأله في جدية، حتى الأشياء التي لا تخصهم. إذ قال لها قبلاً “لا يليق أن يؤخذ خبز البنين ويطرح للكلاب” لكنه أعطاها كل ما أعطاها، لأنها طلبت منه بإلحاح.
لكنه أظهر بواسطة اليهود غير المبالين، أنه لا يعطيهم حتى ما يخصهم، ولذلك لم يأخذوا منه شيئًا، بل فقدوا كل مالهم. وبينما لا يسألونه شيئًا، لا يأخذون حتى ما يخصهم أيضًا، أما الكنعانية فلأنها ألحت عليه في جدية، صارت لها قوة الحصول على ما يخص الآخرين. فنال الكلب ما للبنين.
يا لها من فرصة عظيمة طيبة، لأنه حتى لو كنت كلبا، لكنك تداوم على الطلبة، فستنال وتفضل على الابن إن كان مهملاً، لأن ما لا تحققه مشاعر المحبة والود، يحققه الإلحاح، فلا تقل أبدًا “الله عدوى، ولن يسمعني” فإنه يجيب طلبتك على الفور، إن داومت على إزعاجه!
إن لم يكن بسبب أنك صديقه، فعلى الأرجح بسبب إلحاحك، ولا يمكن أن يعوق ذلك أية عداوة ولا وقت غير مناسب للطلبة ولا أيّ شيء آخر. فلا تقل: “لست مستحقًا، ولن أصلي” لأن المرأة الكنعانية كانت كذلك، فهي لم تقل: “لقد أخطأت كثيرًا، ولست قادرة على التوسل إلى من أغضبته”. لأن الله لا ينظر إلى الاستحقاق بل إلى ميل القلب.
لأنه إن كان القاضي الذي لا يخشى الله ولا يخجل من الناس، قد غلبته أرملة، فكم بالأحرى الصالح. وكيف لا نكسب مراحمه بإلحاحنا في التوسل. حتى إن لم تكن صديقًا، وحتى إن لم تطلب في حين حسن، وحتى إن أزعجت طبيعة الآب! وكنت بعيدًا عن الأنظار طويلاً، وبلا كرامة وأخر الكل. حتى وإن اقتربت منه في غضبه وإن كنت لا ترضيه أبدًا، لكن إن أردت فقط أن تصلى وأن ترجع إليه، فإنك ستنال كل شيء وسرعان ما تطفئ الغضب الهادر والدينونة.
ورُبّ قائل: لكن أنظر، هأنذا أصلي، ولكن بلا نتيجة! فلماذا لا يصلي مثل هؤلاء؛ أعنى المرأة الكنعانية والصديق الذي جاء متأخرا ليلاً، والأرملة التي ظلت تلح باستمرار حتى ضايقت القاضي، والابن الذي أنفق كل خيرات أبيه؟
لأنه إن كنت تصلي كهؤلاء، فستنال بسرعة كل ما تريد. فبالرغم مما فعلته به، هو لا يزال آبًا، وحتى إن أغضبناه، فهو لا يزال يحب أولاده، وهو يطلب شيئًا واحدًا فقط: ألا ننتقم من أعدائنا، أن يراكم تتوبون وتتوسلون إليه. فإن كنا جادين بهذا المقدار، لتحركت أحشاء محبته نحونا، لكن هذه النار تنتظر إشارة البدء فقط، فإن وفرتم لها ولو شعلة لهب صغيرة، لأوقدتم نارًا كاملة من الإنسان. لأن الله لا يثور غضبًا حتى إن أهانه أحدنا. ولكنه يغضب لأن الإهانة صادرة منك شخصيًا. لأننا ونحن أشرار، إذا أغضبنا أولادنا، نحزن بسببهم، فكم بالأحرى الله، الذي إذا ما ألحقتم به إهانة، يغضب لأجلكم لأنكم ارتكبتم خطأ، فإن كنا نحن البشر نحب بطبيعتنا، فكم بالأكثر هو الذي تفوق محبته محبتنا وكل طبيعة أخرى. ألا يقول الرب: “إن نسيت الأم رضيعها، فأنا لا أنساكم” (إش 49: 15).
8. فلنقترب إذن منه، ونقول: “نعم يا سيد، والكلاب أيضًا تأكل من الفتات الذي يسقط من مائدة أربابها” (مت 15: 27). فلنقترب إليه في وقت مناسب ووقت غير مناسب- وفي الحقيقة فالإنسان لا يقترب إليه في وقت غير مناسب أبدًا- لأنه من غير المناسب أن نكف عن التوسل والتضرع إليه باستمرار، والاقتراب منه على الدوام. لأن الذي يريد أن يعطي دائمًا يناسبه أن نطلب ونقترب منه دومًا. ومثلما لا يكون التنفس بالأمر غير المناسب، هكذا لا تكون الصلاة بالأمر غير المناسب، بل إن عدم الصلاة هو الأمر الذي لا يناسبنا. لأنه مثلما نحتاج إلى كل نفس في صدورنا، هكذا نحتاج أيضًا إلى المعرفة التي تأتينا من عند الله – فإن أردنا – يسهل علينا أن نجتذب الله إلينا. والنبي يوضح ذلك ويشير إلى استعداد الله الدائم لفعل الخير والإحسان بقوله: “سنجد الرب مستعدًا كالفجر” (هو 6: 3 LXX ).
لأنه كلما اقتربنا إليه، نراه ينتظر تحركاتنا نحوه، وإن أخفقنا في الاقتراب من نبع صلاحه الدائم التدفق، فلا نلومَّن إلا أنفسنا. وتلك كانت شكواه من بعض اليهود حين قال: “رحمتي كسحاب الصبح، وكالندى الباكر سرعان ما يمضي” (هو 6: 4س). وهو يعني: لقد فعلت في الحقيقة كل شيء وكل ما في وسعي، وكشمس حارة تبزغ لكي تشتت السحاب والندى، وتجعلهما يتلاشيان، هكذا أنتم بشروركم العظيمة قد حجبتم الخير الذي لا ينطق به.
وتلك أيضًا حالة من العناية الإلهية، أنه وهو يرانا غير مستحقين, لنوال الخير يمنع إحساناته عنا، حتى لا يجعلنا كسالى لا مبالين. لكن ما إن نتغير قليلاً أو ندرك فعلاً أننا أخطأنا، فإنه يفجر فينا ينابيع صلاحه وخيره ويغمرنا بسخاء يفوق المحيط. وكلما أخذتم أكثر، كلما سُر قلبه بالأكثر. وبهذه الطريقة تتحرك أحشاء محبته ليهبنا بوفرة أكثر وأكثر، لأنه يحسب أن هذه هي خيراته الخاصة حتى نخلص.
وحتى يعطي الذين يسألونه بغنى؛ وهذا ما أعلنه الرسول بولس بقوله إن الرب: “غنى، لكل ولجميع الذين يدعون باسمه” (رو 10: 12). لأننا حين لا نصلي يغضب، ويبتعد عنا. ولهذا السبب “افتقر وهو غني لكي تستغنوا” (2 كو 8: 9) ولهذا السبب احتمل كل هذه الآلام القاسية لكي يحثنا على الطلبة.
فلا ندع اليأس يتملكنا، بل إذ لنا حوافز كثيرة في رجاء صالح، حتى وإن أخطأنا كل يوم، فلنتقرب إليه، متوسلين، متضرعين، طالبين المغفرة من خطايانا، لأنه هكذا نبتعد عن الخطية أكثر، كلما حان الوقت العتيد الآتي، وهكذا نطرد الشيطان، ونستدعي محبة ورأفات الله، وننال بركات الدهر الآتي- بالنعمة والمحبة التي لربنا يسوع المسيح للإنسان، الذي له المجد والقوة إلى أبد الآبدين- آمين.
العظة الثالثة والعشرون
1. “لا تدينوا. لكي لا تُدانوا” [مت 7: 1]
ماذا إذن؟ ألا نلوم من يرتكبون الخطيئة؟ لأن بولس أيضًا يقول نفس الشيء أو بالحري يتكلم المسيح أيضًا ببولس قائلاً: “وأما أنت، فلماذا تدين أخاك؟ أو أنت أيضًا لماذا تزدرى أخيك؟ ومن أنت الذي تدين عبد غيرك؟” (رو 14: 4، 10). وأيضًا: “إذن، لا تحكموا في شيء قبل الوقت، حتى يأتي الرب” (1 كو 4: 5).
فكيف يقول في موضع آخر “وبخ، انتهر، عظ” (2 تي 4: 2). و”الذين يخطئون وبخهم أمام الجميع” (1 تي 5: 20). والمسيح أيضًا يقول لبطرس: “إن أخطأ إليك أخوك، فاذهب وعاتبه بينك وبينه وحدكما، وإن لم يسمع، فخذ معك أيضًا واحدًا أو اثنين… وإن لم يسمع منهم فقل للكنيسة” (مت 18: 15-17).
فكيف يعيِّن علينا كثيرين لتوبيخنا، وليس لتوبيخنا فقط، بل لعقابنا أيضًا. وبالنسبة لمن لا يسمع لأي من هذه كلها، فإن الرب يأمره أن يكون “كوثني أو كعشار” (مت 7: 3).
وكيف أعطاهم الرب المفاتيح أيضًا؟ وطالما أنهم لا يحكمون على أحد فلن يكون لهم سلطان في أيّ موضوع، وعبثًا يكون لهم سلطان الحل والربط، وإن كان ذلك سيعم، فسيطيع الجميع على حد سواء في الكنيسة، أم في الدولة أم في البيوت. لأنه إن لم يدن السيد خادمه، والسيدة خادمتها، والأب ابنه، والأصدقاء بعضهم بعضًا، سيزداد الشر. ولماذا أقول الأصدقاء، فإننا حتى إن لم نحكم على أعدائنا، لن نقدر أبدًا أن نضع نهاية لعداوتهم، وسوف ينقلب كل شيء رأسًا على عقب. فما معنى هذا القول إذن؟
فلننتبه جيدًا: وحتى لا يحسب أيّ أحد أن أدوية الخلاص وقوانين السلام هي قوانين تشويش وفوضى: أولاً: فبواسطة ما سيلي، أشار السيد إلى أولئك الذين فهموا سمو ذلك القانون بقوله: “لماذا تنظر القذى الذي في عين أخيك. وأما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها” (مت 7: 3).
ولكن إن كان الأمر يبدو غامضًا عند الكثير من غير المبالين، فإنني سأشرح الموضوع من بدايته، ففي هذا الموضع – كما يبدو لي – لم يأمرنا هكذا ببساطة أن ألا نحاكم أيّ أحد بسبب خطاياه، ولا هو يمنعنا أن نفعل ذلك، بل بالنسبة للذين تمتلئ حياتهم بأنواع أمراض كثيرة ويدرسون الناس بتفاهاتهم – واَعتقد أن المسيح يلمح إلى بعض اليهود هنا – فهم يتهمون جيرانهم بمرارة بسبب أخطاء صغيرة. لهذا يوبخهم الرب: “يحزمون أحمالاً ثقيلة عسرة الحمل ويضعونها على أكتاف الناس، وهم لا يريدون أن يحركوها بإصبعهم” (مت 23: 4). وأيضًا “تُعشُرون النعنع والشبث… وتركتم أثقل الناموس: الحق والرحمة والإيمان” (مت 23: 23).
حسنًا، فإنني أظن أن هذا الأمر مفهوم في توبيخه، إذ يفحصهم أولاً بخصوص هذه الأمور، وهم الذين اتهموا تلاميذه فيما بعد. ورغم أنهم لم يكونوا مذنبين، حسبوهم قد فعلوا إثمًا؛ في عدم حفظهم السبت، والأكل بأيد غير مغسولة، والجلوس مع العشارين، فقال عنهم الرب في موضع آخر “الذين يصفون عن البعوضة ويبلعون الجمل” (مت 23: 24) ويضع الرب هنا قانونه العام حول هذه الأمور وأيضًا بالنسبة لأهل كورنثوس (1 كو 4: 5). فإن بولس أيضًا لم يأمرهم على الإطلاق بعدم الحكم على الآخرين، بل ألا يحكموا على رؤسائهم على أسس غير مدروسة. وألا يحجموا أبدًا عن تقديم الذين يخطئون. ولم يكن يوبخ الجميع دون تمييز، بل كان موضع توبيخه التلاميذ الذين يفعلون ذلك بمعلمهم والمذنبون بخطايا بغير حصر، ويرددون تقريرًا شريرًا عن غير المذنبين. هذا ما كان المسيح يقصده هنا، بتوبيخه لا لمجرد التوبيخ، والذي أحاطه أيضًا بفزع رهيب، وبالعقوبة التي لا يمكن للصلاة أن تخلصهم منها.
2. إذ يقول الرب: “لأنكم بالدينونة التي بها تدينون، تُدانون” [ع2] وكأن المسيح يقول ما معناه، إنك لا تدين الآخر بل تدين نفسك، وتجعل كرسي الدينونة أمرًا مخيفًا لك وتجعل حسابك صارمًا. تمامًا مثلما يتم غُفران الخطايا حين نبدأ نحن في غفران خطايا الآخرين. هكذا في الدينونة أيضًا؛ أننا نضع معايير دينونتنا بأنفسنا. فلا يليق بنا أن ندهس الناس وندوس عليهم بل نوبخ ولا نلعن، بل ننصح دون أن نقهر في تعالي، ونعامل الآخرين بلطف لأنكم لا تُسلمون إلا أنفسكم إلى انتقام شديد، إذ أنكم لا تخلصون الآخر حين تحكمون على آثامه، وهاتان وصفتان سهلتان، تمنح الطائعين بركات جزيلة، مثلما هو الحال مع الشرور من جهة أخرى لدي غير المكترثين. لأن كل من يغفر لجاره، يحرر نفسه أولاً من أصول الشكوى ودون أية مشقة، ومن يتعامل مع آثام الآخرين برفق ودون تباطؤ يكون غفرانه عظيمًا. وما يحكم به يُحكم به عليه. ورُبّ قائل: وماذا بعد؟ هل إن ارتكب أحد الزنا لا نخبره أن الزنا أمر رديء، وهل لا نقومه وهو يمارس خطية مشينة كهذه؟ بلى، نقومه ولكن ليس كخصم ولا كمعاند لكم يستحق العقوبة. بل تعاملونه كطبيب كمريض وتعطونه الدواء اللازم. لأن السيد المسيح لم يقل “لا تمنع من يخطئ”، بل “لا تدينه” أيّ لا تحكم عليه حكمًا مرًا. وكما ذكرت قبلاً، ليس عن الأمور العظيمة ولا الممنوعة يقول ذلك، بل عن الأمور التي لا تحسب من بين الآثام. مثلما قال “لماذا تنظر القذى الذي في عين أخيك” [ع3].
أجل. لأن كثيرين الآن يفعلون ذلك، إذا رأوا راهبًا يرتدي ملابس لا لزوم لها، يطبقون عليه قانون الرب (مت 10: 10) “لا تقتنوا… لا مزودًا للطريق ولا ثوبين… “. بينما يتباهون هم أنفسهم بمظهرهم بغير حدود، وتعيرون الناس كل يوم. وإن رأوه ولو مرة واحدة يشارك في الطعام بنفس مفتوحة، يتهمونه بمرارة. بينما هم أنفسهم يشربون بشراهة ويتناولون الطعام بنهم شديد. غير عالمين أنهم بالإضافة إلى خطاياهم، يجمعون على أنفسهم شررًا مستطيرًا، ويحرمون أنفسهم من كل فرصة للتوسل. لأنه عند هذه المرحلة، لابد أن يسألكم بحزم عن أفعالكم الخاصة، فقد نفذتم أنتم القانون أولاً بأنفسكم، وتحكمون على جاركم فلا تتألموا إذا ما حكم عليكم أنتم أيضًا بذات الحكم.
“يا مرائي أخرج أولاً الخشبة من عينك” [ع5].
وهنا تظهر مشيئته في إظهار الغضب الكبير ضدهم، فهم يفعلون الشيء ذاته، وحين يكشف لهم عن جسامة الخطية وبشاعة العقاب وشدة الغضب الموفرة لهم، يبدأ بتوبيخهم إذ قال لمن كان يتاجر بالمئة دينار وهو غاضب: “أيها العبد الشرير، كل ذلك الدين تركته لك” (مت 18: 32). ويقول هنا أيضًا “أيها المرائي” لأن المرائي لا يحكم على الآخرين بغرض حمايتهم بل بسبب إرادة شريرة عنده، وبينما يضع قناعًا من الخير على وجهه، يمارس أبشع الشرور ويصدر توبيخات بغير أساس، واتهامات تسبب انشقاقه على جيرانه، متشحًا بوشاح المعلم، وهو لا يستحق حتى أن يكون تلميذًا – لهذا يدعوه الرب بالمرائي – لأنكم تبدون حرارة واضحة في انتقاد أفعال الآخرين، حتى أنكم ترصدون لهم كل شيء، فكيف تسامحون أنفسكم؟ حتى أنكم تتغاضون عن أفظع الأمور: “اَخرج أولاً القذى من عينك”
هل ترون أن الرب لا يمنع الحكم على الآخرين، بل يأمرنا أن نخرج أولاً الخشبة التي في عيوننا ثم نحكم على أفعال الآخرين، إن كانت خطأ أم صواب. لأن كل إنسان في الحقيقة يعرف أمور حياته أفضل من معرفته لأمور الآخرين، فيرى أموره الأكبر أكثر من الأقل، ويحب نفسه أكثر من جاره. لهذا إن كنتم تحكمون على الآخرين بدافع الوصاية والعناية، فإني أنصحكم أن تهتموا بأنفسكم أولاً. فإن الخطايا عندكم تكون أكثر وضوحًا وضخامة. لكنكم إن أهملتم نفوسكم لأصبح من المؤكد أنكم لا تنصحون أخوتكم على سبيل الرعاية بل بدافع الكراهية – والرغبة في التشهير بهم – لأنه ماذا لو كان من الواجب محاكمته، فكان من الأوجب أن يتم هذا بواسطة إنسان لا يرتكب هو هذه الحماقات، وليس بواسطتكم. ولأن السيد الرب قد أدخل تعاليم عظيمة وسامية عن إنكار الذات، ومثلاً يقول أحد إن من السهل ممارسة ذلك بالكلام، فإنه ورغبة منه أن يظهر ثقته الكاملة. وأنه لم يكن مثقلاً أبدًا بأيّ من الأمور المذكورة، بل أكمل كل برّ في حين حسن، قال هذا المثال، وأنه سيدين المسكونة كلها بالعدل فيما بعد، لهذا يقول “الويل لكم أيها الكتبة والفريسيون” (مت 23: 1) فالرب لم تكن في عينه قذى ليخرجها، ولا كانت في عينه خشبة، بل ولأنه طاهر في كل شيء، يقوَّم أخطاء الجميع ويضبطها. لهذا يقول لنا لا يليق أن ندين الآخرين أبدًا (حين يكون المرء مثقلاً بنفس الخطايا).
ولماذا تتعجبون من تأسيسه هذا القانون، واللص نفسه قد عرفه وهو على الصليب. قائلاً للص الآخر: “ألا تخاف الله، إذ أنت تحت هذا الحكم بعينه” (لو 23: 40-41) معبرًا عن نفس المشاعر تجاه المسيح.
لكنكم إذ تعجزون عن خلع الخشبة من عيونكم، لا ترون ذلك، بل حتى القذى في عين الآخر هي التي ترونها فقط – وتدينون أيضًا – وتحاولون أن تخلعوه وكأن شخصًا قد أصيب بداء الاستسقاء الخطير، أو بأيّ وهن آخر يصعب شفاؤه، فتهملون حالكم وتلتفتون لإنسان أصيب ولو بورم طفيف. ومن الشر أن يغفل الإنسان عن آثامه هو، ومن الأشر بالأكثر أن يدين الآخرين، بينما الدائنون أنفسهم يحملون في عيونهم أخشابًا – فما من خشبة أثقل من الخطية – لهذا حثهم الرب بهذه الكلمات فعلى المثقلين بذنوب بلا حصر ألا يدينون الآخرين في حرارة، خاصة حين تكون خطايا الآخرين تافهة.
ولا يمنع السيد الرب لا التوبيخ ولا التقويم، بل يمنع الناس من إهمال خطاياهم الشخصية ويرصدون خطايا الآخرين؛ لأن ذلك يسبب انزلاق الناس في رذائل كبار، جالبين على أنفسهم شرور عظيمة، مضاعفة. لأن كل من يحاول التهوين، شأن خطاياه الشخصية مهما كان عظمها، ويرصد ويفتش بمرارة عن آثام الآخرين مهما كانت قلتها وتفاهتها، ينزلق إلى طريقين:
أولاً: تهاونه في خطاياه الذاتية.
ثانيًا: إقامته عداوة وخصومة مع كل الناس، متدربًا كل يوم على قساوة القلب والشعور بالآخرين.
3. وإذ يقصي كل هذه الرذائل بعيدًا، بتشريعه العظيم هذا، يضيف تهمة أخرى قائلاً: “ولا تُعطوا القُدس للكلاب، ولا تَطرحُوا دُرركم قُدَّام الخنازيرِ” (مت 7: 6).
وحتى لا يقال إن السيد الرب قد أوصى بأن “ما تسمعونه بالآذان، نادوا به على السطوح” (مت 10: 27). فإن هذه العبارة لا تناقض الآخر(الأخرى) لأن الرب أمر أن نخبر من يجب علينا إخبارهم، وأن نحدثهم بحرية (1 كو 2: 14). ويصف هنا بشكل رمزي أولئك الذين يحيون بعدم تقوى لا علاج لهم، ولا رجاء في إصلاحهم أو تغييرهم إلى الأفضل وذلك بكلمة “كلاب” أما كلمة “خنازير” فيصف بها الذين يداومون على الحياة النجسة. وهؤلاء يقول عنهم إنهم غير مستحقين أن يسمعوا تلك الأمور. وقد أعلن القديس بولس الرسول نفس الأمر بقوله “الإنسان الطبيعي لا يقبل ما لروح الله، لأنه عنده جهالة” (1 كو 2: 14). ويقول السيد الرب في عدة مواضع أخرى إن فساد الحياة هو السبب في عدم نوال الناس لمزيد من التعاليم الكاملة. ولهذا يأمرنا ألا نفتح أبوابنا لهم، لأنهم في الحقيقة يكونون أكثر ضررًا بعد التعليم، أما صاحب الميول الطيبة والذكي فإن الأشياء تبدو وقورة جديرة بالاحترام إذا ما انكشفت أمامه. أما عديمو الإحساس فتبدو الأمور لهم مجهولة لأنهم بسبب طبيعتهم غير قادرين على تعلمها. ويقول السيد الرب “فلنُبق الأمور مخفية، حتى يوقرونها وذلك بسبب جهلهم”. لأنه لا الخنزير يعرف قيمة اللؤلؤة، ولما كان لا يقدِر قيمتها فدعونا لا نكشفها له، لئلا يدوسها بأقدامه. فالسالكون سلوكًا رديًا لا يميلون إلى سماع الأمور المقدسة، فهي بالنسبة لهم دنسة لأنهم يجهلون طبيعتها. وهم أكثر الناس اندفاعًا لمقاومتها والتعالي علينا، وهذا هو المقصود بعبارة “لئلا تدوسها بأرجلها، وتلتفت فتمزقكم”
ورُبّ قائل: “كلا بالتأكيد، عليها أن تكون قوية لتظل مسبقة بقدر كافٍ، بعد أن يتعلمها الناس، ولا تخضع لأناس ضدنا” لكن ما قولك في أن أولئك الناس كالخنازير مثلاً، فالدرة حتى وإن سقطت بين الأقدام لا يليق أن تداس هكذا، فهي ليست محتقرة لأنها وقعت، بل لأنها سقطت بين خنازير، ولهذا يقول الرب “لئلا تلتفت وتمزقكم” لأنها تفتقر إلى الرقة واللطف. وحتى إذا تعلمت، فإنها لا تتغير من حال إلى حال، بل تظل تزمجر وتدوسنا وتهاجمنا فهم أشخاص مخادعون. لهذا يقول بولس الرسول لتلميذه تيموثاوس (2 تي 4: 15) “فاحترس منه أنت أيضًا، لأنه قاوم أقوالنا جدًا” ثم يقول في موضع آخر “أعرض عن هؤلاء” (2 تي 3: 5) و”الرجل المبتدع، بعد الإنذار مرة ومرتين، أعرض عنه” (تي 3: 10).
هكذا ترون أن الحقائق لا تمدهم بالقوة، بل يصيرون أغبياء، من تلقاء أنفسهم – ويزداد عنادهم – ويخسرون كثيرًا إذا ظلوا على جهلهم، إذ يظهرون احتقارهم الشديد، لكنهم إن تعلموا، فإن سوء التقدير من جهلتهم يكون أشد. لأنهم لا ينتفعون بل يتأذوا بالأكثر، ويسببون لكم العديد من المتاعب.
فليسمع كل الذين يشتركون مع الجميع في هذا السلوك بغير خجل، ويحتقرون الأشياء المرهوبة الجانب. لأننا نحتفل بالأسرار والأبواب مغلقة، ونُبعد غير المعتمدين، لا لأي ضعف في طقوسنا، بل لأن الكثيرين منهم غير مهيأين بالكامل لها. ولهذا السبب ذاته يتحدث السيد الرب إلى اليهود في أمثال “لأن لهم عيونًا، ولا يبصرون” ولهذا أيضًا يأمر القديس بولس “أن نعلم كيف يجب أن نجاوب كل أحد” (قابل كو 4: 6).
4. “اسألوا تعطوا، اطلبوا تجدوا، اقرعوا يفتح لكم” [ع7].
لأنه بقدر ما قال الرب أشياء عظيمة وعجيبة، وأمر الناس أن تكون شهواتهم سامية وقادهم إلى السماوات نفسها، وأمرهم بالجهاد لبلوغ المثال المطلوب لا تشبُهًا بالملائكة أو رؤساء الملائكة بل بقدر المستطاع برب الجميع نفسه. وأمر تلاميذه أن يفعلوا هذا في كل حين حسن، وأن يقوَّموا الآخرين أيضًا، وأن يميزوا بين الأشرار والأبرار. بين الكلاب وغير الكلاب، بالرغم من أن هناك أمورًا دفينة في الناس يصعب تمييزها. وألا يقولوا إن “هذه الأمور صعبة لا أحد يحتملها” لأن القديس بطرس كان قد قال ذات مرة في الحقيقة “من يستطيع أن يخلص؟” (مت 19: 10، 25) وقال أيضًا “إن كان هذا هو حال الإنسان، فجيد للرجل ألا يتزوج”.
ولئلا يقول أحد نفس الكلام فإن الرب يظهر سهولة الأمر واصفًا لنا السبب تلو الآخر لذلك، والقدرة على إقناع الناس. وبعد هذا كله، يضيف أيضًا الأساس المطلوب والسبيل الحق لتخفيف الحمل والتعب عنا، مؤكدًا أن المعونة إنما تأتينا من الصلوات التي تحفظنا.
هكذا يقول إننا لسنا نجاهد وحدنا، بل نطلب المعونة من فوق – وستأتي بالتأكيد – وتبقى معنا تعيننا في جهادنا، وتسهل علينا كل شيء. لهذا يأمرنا أن نسأل، وجعل نفسه في محل من يعطي، ولم يأمرنا فقط أن نسأل، بل أن نطلب بكل همة ونشاط – فهذا هو معنى كلمة “اطلبوا” – لأن من يطلب وقد صفى ذهنه من كل شيء، إنما ينشغل بما يطلبه فقط، دون أن يفكر فيمن حوله من أشخاص. فقد خسر كثيرون ذهنهم وخدامهم، وهم يطلبونهم بهمة. والرب يعلن عن هذا الأمر بكلمة “اطلبوا”، وبقوله “اقرعوا” يعني أن نقترب إلى الله في جدية وفكر متوهج دون تراخ، ودون أن نصل من غيرتنا للفضيلة مثلما نفعل طلبًا لشهوة الغنى لأن مثل هذه الأمور حين تطلبونها واثقين أنكم تجدونها، لهذا تسعون إليها بكل ما لديكم من همة ونشاط، لكنكم في أمور أخرى ورغم أنكم قد نلتم الوعد الصادق بنوالها، لا تظهرون أدنى جهد، فإن لم تأخذوا فورًا، لا يتأسوا لأنه لهذا الغرض قال “اطرقوا” ليدلل على مداومتنا للطلبة حتى لو لم يفتح منا الباب على الفور.
5. وإن كنتم تشكون في تأكيدي هذا لكم، فآمنوا على الأقل بمثله، إذ يقول الرب: “أم أيّ إنسان منكم إذا سأله ابنه خبزًا يعطيه حجرًا” [ع9]. لأن من يداوم على الطلبة بإلحاح بين الناس قد يحسبونه إنسانًا مزعجًا ومثيرًا للاشمئزاز. لكن مع الله، إن لم تلحوا في الطلبة، فإنكم تزعجونه بالأكثر. فلو داومتم على السؤال، ولم تأخذوا على الفور، ثقوا أنكم حتمًا سوف تأخذون في وقت ما. لأنه لهذا الغرض أغلق الباب، ليحثكم على مزيد من الطرق عليه. ولهذه الغاية لا يلبي الطلبة فورًا حتى تعيدوا السؤال. فداوموا إذن على الطلبة، وستأخذون بالتأكيد.
ورُبّ قائل: “ماذا لو طلبتُ ولم آخذ؟” لقد أُغلق الباب على سعيكم لهذا الأمر، فهو بأسلوبه هذا يحثنا على الثقة فيه، ويشير علينا ألا نطلب فقط، بل أن نطلب ما يجب علينا أن نطلبه.
“لأنه أيّ إنسان منكم إذا سأله ابنه خبزًا يعطيه حجرًا”. لهذا إن لم تأخذوا، فلأنكم طلبتم حجرًا – وهذا هو السبب أنه لم يعطكم – لأنه رغم كونك ابنًا له، فإن هذا وحده لا يكفيك حتى تأخذ، بل هذا السبب عينه يعوقك عن الأخذ! فإنك وأنت ابن قد لا تطلب شيئًا ينفعك.
أيضًا لا تطلبوا شيئًا عالميًا، بل كل الأشياء الروحية، وستأخذون يقينًا. لأنه هكذا فعل سليمان (1 مل 3: 10-14، 2 أي 1: 11-12) إذ طلب ما ينبغي طلبه، فناله على الفور دون إبطاء.
هناك إذن أمران يلتزم بهما من يصلي، أن يطلب ويسأل بإلحاح، وأن يسأل ما ينبغي عليه أن يطلبه. إذ يقول السيد الرب: “إذ وأنتم آباء تنتظرون أن يطلب أولادكم منكم، وإن سألوكم شيئًا غير مألوف ترفضون أن تعطونهم إياه، وإن كان في مقدوركم ونافعًا تعطونه لهم”. وأنتم أيضًا إذ تفتكرون في هذه الأمور، لا تنصرفوا حتى تأخذوا. وحتى تجدوا لا تكُفوا عن السؤال، لا تتراجعوا ولا تقللوا همتكم في السؤال، حتى يفتح الباب، لأنكم إن اقتربتم بهذا الفكر وقلتم: “إن لم آخذ لن أرحل” فحتمًا ستأخذون بشرط أن تطلبوا ما يليق بالرب الذي تسألونه أن يعطيكم، والنافعة لكم كطالبين. فما هي هذه الأشياء اللائقة؟:
أن تطلبوا الروحيات، كل الروحيات، وأن تغفروا للمذنبين إليكم، فتنالون غفرانًا متى طلبتموه، رافعين أيادٍ طاهرة بلا غضب ولا دمدمة. (1 تي 2: 8). فإن طلبنا هكذا، سننال حتمًا، لأننا في حالتنا هذه تكون طلبتنا كشيء من السخرية، وكفعل رجل سكير لا فعل عاقل من العقلاء. ورُبّ قائل: أنا أطلب الروحيات، ولا آخذ؟ بالتأكيد أنت لا تطلبها بجدية أو تجعل نفسك غير مستحق للأخذ، أو أنك سرعان ما تكف عن السؤال، وقد يسأل نفس الشخص: “ولأي سبب لم يذكر السيد الرب الأشياء التي يجب علينا أن نطلبها؟” فالا بالحق، فقد ذكرها كلها فيما مضى، وأشار إلى الأمور التي يجب أن نقترب منها ونطلبها، فلا تقل إذن أنا اقترب ولا آخذ. لأن الله لا يمنع أبدًا في أيّ حال عن العطاء، الله الذي يحبنا كثيرًا جدًا، أكثر حتى من الآباء الجسديين، ويفوقهم كلهم صلاحًا. فإن طبيعة الآباء الأرضيين طبيعة شريرة. إذ يقول عنهم ” فإن كنتم وأنتم أشرار تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا جيدة، فكم بالحري أبوكم الذي في السماوات” [ع11].
ويقول الرب هذا، لا لكي يصف البشر فإن طبيعتهم شريرة، ولا لكي يدين جنسنا البشري بأنه جنس سيئ، لكن محبته للإنسان فائقة وعظيمة بما لا يقاس. هل ترون حديثًا يفوق هذا الحديث هنا، عن قدرة الله التي تنير الآمال الصالحة حتى في قلب من أصبح يائسًا بأسًا لا يحتمل؟
ها هوذا يشير إلى صلاحه حقًا من طريق آبائنا؟ ومن قبل من خلال أعظم عطاياه. وهي “النفس” في داخل الجسد. وفي كل موضع لا يشير الرب إلى أعظم خيراته ولا إلى مجيئه في الجسد، لأن من بادر وقدم ابنه إلى الذبح، كيف لا يهبنا معه مجانًا كل شيء؟ وهذا وإن لم يحدث لنا بعد. لكن القديس بولس أشار إليه حقًا بقوله: “الذي لم يشفق على ابنه، بل بذله لأجلنا أجمعين، كيف لا يهبنا أيضًا معه كل شيء؟” (رو 8: 32). لكن لا يزال حديثه إليهم يتناول الأمور الخاصة بالبشر
6. وبعد هذا، وحتى يشير إلى أنه يجب علينا ألا نثق في صلواتنا بينما نهمل أداء واجباتنا الشخصية، وحين تحيط بنا الضيقات لا نثق في جهودنا الذاتية، بل نسعى في طلب العون من فوق من جهة، ومن جهة أخرى نؤدي واجبنا الشخصي. ويضع أمامنا علاقة الأمر بالآخر، لأنه بعد شرح مستفيض يعلمنا أيضًا كيف نصلي؟ وبعد أن علمنا كيفية الصلاة، يتقدم في حديثه بخصوص واجباتنا ثم ينتقل إلى ضرورة الصلاة بلا انقطاع قائلاً: “اسألوا تعطوا”، “اطلبوا”، “اقرعوا”. ثم مرة أخرى يحثنا على أن تكون دؤوبين في ذلك.
إذ يقول “كل ما تريدون أن يفعل الناس بكم، افعلوا أنتم هكذا أيضًا بهم” [ع12]. ملخصًا كل شيء بإيجاز، ومشيرًا إلى أن هذه الفضيلة سهلة ومعروفة تمامًا لكل الناس، ولم يقل هذا فقط، “كل ما تريدون” بل قال “فكل ما تريدون” فإن حرف الفاء لم يضعه هكذا دونا سبب، بل ليكون له معنى محدد وخاص، بمعنى: إن كنتم تريدون أن تكونوا متشددين حتى بعد ما قلته لكم، افعلوا هذه الأمور أيضًا. فما هي هذه الأمور؟
“كل ما تريدون أن يفعل الناس بكم”
ألا ترون أنه مع الصلاة نحن في حاجة إلى نُسُق الحياة الصحيحة. وهو لم يقل كل ما تريدون أن يفعله الله بكم، افعلوه مع جاركم، لئلا يقول أحد كيف يمكن هذا؟ إنه الله وأنا إنسان. لكنه قال كل ما تريدون أن يفعله الناس بكم هذا افعلوه أنتم أيضًا بهم. فأي شيء أخف من ذلك؟ وأي عدل أعظم من هذا؟ والمدح أيضًا معروف من قِبَل المكافأة، لذلك فهو مدح عظيم. لأن هذا هو الناموس والأنبياء. حيث يتضح أن هذه الفضيلة تتفق وطبيعتنا ذاتنا جميعنا، فنعرف واجباتنا من ذواتنا. وأنه من المستحيل أن نجد ملجأ لنا في الجهل.
7. “ادخلوا من الباب الضيق، لأنه واسع الباب ورحب الطريقُ الذي يُؤدي إلى الهلاكِ، وكثيرون هم الذين يدخُلُون منه. وما أضيق الباب وأكرب الطريق الذي يؤدي إلى الحياة، وقليلون هم الذين يجدونهُ” [ع13-14]
ورغم ذلك، قال بعدها “نيري هين وحملي خفيف” (مت 11: 30) وما قاله فعله، فكيف يقول هنا إن طريقه ضيق وكرب؟
أولاً: إن انتبهتم، فإن الرب هنا يشير أيضًا إلى أن الطريق خفيف جدًا وسهل، ومن الممكن بلوغه. ورُبّ قائل: ولكن كيف؟ كيف يكون الطريق الضيق والكرب سهلاً؟. لأنه طريق ولأنه باب، تمامًا مثلما هو الحال مع أيّ طريق وأيّ باب. فمهما كان واسعًا أو ذا مسافة كافية، فهو في النهاية طريق وباب، ولا شيء يدوم فيهما، فكل شيء يزول- الألم وكذلك خير الحياة- وليست الفضيلة فقط هي الهينة بل إنها في النهاية تصبح سهلة، لأن الذي يعزي الذين في الطينة ليس زوال الأعمال والأتعاب في ظهورها في النهاية- لأنها حتمًا تنتهي من حياتنا- لهذا تكون أتعابنا مؤقتة أما أكاليلنا فهي دائمة: فالأتعاب تأتي أولاً، ثم تليها الأكاليل، الأمر الذي يمنحنا ارتياحًا كبيرًا في أتعابنا. لهذا فإن بولس الرسول يدعو الأتعاب بأنها خفيفة، لا بسبب طبيعة الأحداث، بل بسبب فكر الخصوم الذين ينافسوننا، وبسبب رجائنا المستقبل. إذ يقول: “لأن خفة ضيقتنا الوقتية تنشئ لنا أكثر فأكثر ثقل مجد أبدي، ونحن غير ناظرين إلى الأشياء التي تُري بل التي لا تُري” (2 كو 4: 17-18) لأنه إن كانت الأمواج والتي تُعد خفيفة ومحتملة بالنسبة للبحارة، وكذا الضربات القاضية للملاكمين، والصقيع بالنسبة للكرَّامين، والمذابح والجراح بالنسبة للجنود في المعارك، فإن كل هذه هي بمثابة الرجاء بالمكافآت المُجزية المؤقتة والزائلة، فكم بالأكثر السماء المُنتظرة والبركات التي لا يُنطق بها، والمكافآت الآبدية. فكلها لا تجعلنا نستصعب المتاعب في هذا الزمان الحاضر. فلماذا نهتم بها ولا نهملها؟ فإن الرب يجعلها هينة وخفيفة. لذا يأمرنا ألا نتحدث إلى الكلاب وألا نقترب من الخنازير وأن نحترس من الأنبياء الكذبة. ففي كل هذه الأحوال، لا نشعر وكأننا نواجه ضيقات فعلاً، وحقيقة أن الباب ضيق إنما تسهل علينا الأمور بشكل كبير، إذ يتحتم علينا أن نكون ساهرين. وحين يقول القديس بولس:
” فإن مصادقتنا ليست مع لحم ودم” (أف 6: 12) فإنه يفعل ذلك لا لكي يثبط من عزائمنا بل ليرفع من أرواحنا كمقاتلين أشداء، وهكذا يفعل السيد الرب لكي يوقظ المسافرين من غفلتهم ونومهم، فيدعو الطريق بالكرب. وبهذا لا يجعل الناس ساهرين وحسب، بل يؤكد لهم أن هناك أمورًا أخرى تسندهم وتشدد من أزرهم، وأن آخرين قد لا يهاجمونهم هكذا علنُا بل هم يخفون أنفسهم، فهذه هي طبيعة الأنبياء الكذبة. ولهذا يقول: “لا تهتموا، حتى لو كان الباب ضيقًا، والطريق كربًا، بل اهتموا كيف ينتهي؛ إذ ينتهي إلى الرحابة والاتساع”. لهذا اهتموا أن تكونوا يقيظين منتبهين مستعدين، مثلما يقول في موضع آخر:
“إن الغاصبين يختطفون الملكوت” (مت 11: 12) هكذا حين يعلم من يجاهد ويصارع ويتألم أنه في النهاية يظفر بالربح وترتفع معنوياته وتسمو روحه بالأكثر.
لهذا لا نتحير إذا ما اعترضتنا ضيقات كثيرة قد تربكنا، لأن الطريق والباب ضيقان لكن المدينة واسعة ورحبة. لهذا لا يتوقع المرء راحة هنا، ولا ينتظر تعبًا هناك.
8. ففي قوله “قليلون هم الذين يجدونه” [ع14]
يكشف عن إهمال الغالبية ويرشد سامعيه إلى عدم الانتباه لآثام الأكثرية بل إلى أتعاب الأقلية. ويقول الرب أن معظم الطريق إذا ساروا فيه- ليس هو باختيارهم والأمر يشكل جرمًا شديدًا- ولكننا يجب أن نهتم بالأغلبية فلا تزعجنا تهديداتهم، بل أن نقتدي بالأقلية وأن نستعد بكل وسيلة إذا ما أردنا الخوض في الطريق الضيقة، لأنه بجانب أنها ضيقة، فإن هناك الكثيرين الذين يريدون إلقاءنا في الطريق الأخرى لهذا يضيف الرب قائلاً:
9. “احترزوا من الأنبياء الكذبة الذين يأتونكم بثياب الحملان ولكنهم من داخل ذئاب خاطفة” [ع15]
فهناك بجوار الكلاب والخنازير فخ آخر منصوب لنا بمؤامرة أشد خطرًا من غيرها – لأن أولئك معرفون وعلى الملأ، أما هؤلاء فهم مخفون لهذا يحذرنا منهم – وكيف للجميع أن يحترسوا باهتمام بالغ، فإنه من الصعب علينا أن نراهم عند أول اقتراب لنا منهم، ولهذا السبب أيضًا يقول: “احترسوا أو احترزوا” ليرشدنا أن نميزهم. عندئذ ولئلا يفرقوا في كمٍ من ارتباكات حين يسمعون أن الطريق كرب وضيق، وأن عليهم السير في طريق معاكس لطرق الكثيرين، حافظين أنفسهم من الخنازير والكلاب ومن النوع الأكثر وحشية من الذئاب. فإنه يذكرهم بما تم في أيام آبائهم حتى لا يدركهم القلق – نستخدم تعبير “الأنبياء الكذبة” إذ لم يحدث آنذاك أمور أقل من هذه – هكذا يقول السيد الرب: أرجوكم ألا تضطربوا، فلن يصيبكم شيء جديد أو غريب. لأن الشيطان دائمًا يبدل الحقيقة كلها سريًا بخداعاته المناسبة. وبتشبيه “الأنبياء الكذبة” هنا، لا أظن أن السيد الرب يشير إلى الهراطقة، بل إلى الذين يعيشون حياة فاسدة، ومع ذلك يضعون أقنعة الفضيلة، وهم الذين يسمونهم الغالبية باسم الدجالين لهذا يقول: “من ثمارهم تعرفونهم” [ع16]. فقد يجد الإنسان صلاحًا فعليًا بين الهراطقة، أما بين أولئك الفاسدين فلا يجد صلاحًا أبدًا. ورُبّ قائل: “ماذا إن كانوا يخدعون في هذه الأمور أيضًا؟ كلا، بل سيتم كشفهم بسهولة. إذ هكذا هي طبيعة هذا الطريق، مؤلمة ومضايقة، ولن يختار المرائي احتمال الآلام بل أن يتباهى فقط. لهذا تسهل إدانته. هكذا وبقدر ما قال السيد الرب “وقليلون هم الذين يجدونه” فإنه يكشف عن الذين لا يجدونه، ومع ذلك أولئك الذين يتظاهرون أنهم وجدوه – وذلك بأمره لنا ألا ننظر إلى الذين يضعون الأقنعة فقط، بل إلى الذين يسعون في الحقيقة وراء هذا الطريق – وقد يقول قائل: ولكن لأي سبب لا يجعلهم الرب ظاهرين لنا بل يحثنا على البحث عنهم؟ حتى نبقى ساهرين ومستعدين دائمًا للقتال، محترزين من أعدائنا المتنكرين وكذا العلنيين أيضًا. وهذا ما كان يشير إليه بولس الرسول قائلاً: “بالكلام الطيب والأقوال الحسنة يخدعون قلوب البسطاء” (رو 16: 18). فلا نضطرب حين نرى الكثيرين منهم الآن، كلا، لأنه لهذا أيضًا سبق المسيح وتنبأ منذ البدء. وتأملوا رقته: كيف أنه لم يقل “عاقبوهم” بل “لا يلحقكم منهم ضرر” ولا تقفوا بينهم غير محترسين أو منتبهين”. وحتى لا تقولوا أنه من المستحيل تمييز هذا النوع من الناس، يوصي السيد الرب ثانية مثالاً بشريًا بقوله: “هل يجني الناس من الشوك عنبًا أو من الحسكِ تينًا؟ “هكذا كل شجرة جيدة تصنع أثمارًا جيدة. وأما الشجرة الردية فتصنع أثمارًا ردية. لا تقدر شجرة جيدة أن تصنع أثمارًا ردية، ولا شجرة ردية أن تصنع أثمارًا جيدة” [ع16-18].
وما يقوله هو هكذا: ليس عندهم شيء لطيف أو حلو، إنهم حملان فقط عند طبقة الجلد ولهذا يسهل تمييزهم، ؟؟ولئلا يكون عندكم أدنى شك، فإنه يقارنه بضروريات طبيعية معينة، بأمور لا تحتمل إلا نتيجة واحدة. فبأي معنى قال الرسول بولس أيضًا: “الاهتمام الجسدي هو موت، إذ ليس هو خاضعًا لناموس الله، لأنه أيضًا لا يستطيع” (رو 8: 6-7). وهو لا يكرر الأمر مرتين على سبيل الحشو (Tauto 1094)، بل لئلا يقول قائل “رغم أن الشجرة الرديئة تحمل ثمرًا رديًا، فهي قد تحمل الجيد أيضًا، ومن الصعب التمييز. فالمحصول طيب ورؤى في آن واحد. ويقول السيد الرب: كلا ليس الأمر كذلك، فالشجرة لا تحمل إلا الثمر الرديء فقط، ولا يمكنها أن تحمل ثمرًا طيبًا مثلما هو الحال مع الشجرة الطيبة. فلماذا إذن؟ ألا يمكن للصالح أن يصبح شريرًا؟ والعكس صحيح. والحياة حولنا تزفر بهذه الأمثلة. لكن السيد المسيح لا يقول هذا، لأنه ما من سبيل للتغيير عند الشرير، والصالح من الصعب انحرافه أو سقوطه. لأن الشرير ببقائه في الشر لا يعطي ثمرًا طيبًا، ماذا إذن؟ ألم يحمل داود وهو الرجل الصالح أثمارًا ردية؟ بلى إن داود لم يستمر صالحًا لكنه تبدل من الخير إلى الشر، لأنه ودون شك قد ظل على حاله الرديء لهذا لم يثمر ثمرًا طيبًا، أما لو بقى في الفضيلة لما اقترف ما اقترفه. بهذه الكلمات يسد الرب أفواه الذين يتكلمون بالشر عشوائيًا فيضع لجامًا على كل المفترين بكلام فارغ، بينما يرتاب كثيرون في الخير بسبب الشر، فإن السيد الرب يحرمهم من أيّ عذر، لأنك لا يمكن أن تقول لقد خُدعت وضُلِّلت، فقد أعطانا السيد طريقة التميز بينهم من أعمالهم. فالوصية تخصهم هم ولا تخص الجميع هكذا بشكل عشوائي.
10. وإذ لم يأمر بالعقاب، بل أن يكونوا على دراية به، ولكي ينذر المتحيرين ويغيرهم وضع أمامهم العقاب كمانع لهم قائلاً: “كل شجرة لا تصنع ثمرًا جيدًا، تُقطع وتُلقي في النار” [ع19].
وحتى يقلل من شدة كلماته أضاف “فإذن من ثمارهم تعرفونهم” [ع20] حتى لا يبدو وقد أظهر التهديد كموضوع أساسي في حديثه، بل حتى يثير ذهنهم بطريقة النصح والإرشاد. ويبدو لي هنا أنه يلمح لليهود الذين كانوا يُظهرون مثل تلك الأثمار. ولهذا السبب أيضًا يذكرهم بأقوال يوحنا وبنفس الألفاظ يؤسس عقيدتهم، لأنه هو أيضًا قال نفس الشيء، إذ ذكر لهم “الفأس” و”الشجرة التي قُطعت” و”النار التي لا تُطفأ” ورغم أن الأمر يبدو كدينونة واحدة. وإذ تم حرق الشجرة، لكن إذا أوجز المرء الأمر بشيء من الدقة، فإن هناك عقوبتين:
من جهة، حرق الشجرة قد تم وهذا معناه طبعًا أن يُطرح الشرير من جهة أخرى من ملكوت الله. وهي عقوبة أكثر شدة من الأخرى. وأعرف أن كثيرين الآن يرتعدون من ذكر الجحيم فقط، لكنني أؤكد أن فقدان المجد لهو أشد صعوبة من الجحيم ذاته. وليس عجيبًا أن الكلمات تعجز عن إظهار هذا الأمر.
لأننا لا نعرف بركات هذه الأمور الصالحة، حتى ندرك من جهة أخرى تعاسة حرماننا منها. وإذ كان بولس الرسول يدرك هذه الأمور جيدًا، فقد وعيَّ أن الحرمان من مجد المسيح هو أبشع الأمور كلها. وهذا ما ينبغي إدراكه في ذلك الزمان حينما نقف أمام الحكم الفعلي. لكن نتوسل ألا يكون هذا هو حالنا أبدًا يا ابن الله الوحيد ولا تدعنا نختبر أبدًا هذا العقاب الذي لا علاج له، لأنه ما أعظمه من شر أن نسقط عن هذه الأمور الجيدة التي لا يمكننا وصفها بركة.
ومع هذا، وبقدر استطاعتي. سأحاول أن أوضح الأمر لكم، وإن كان بدرجة غير كاملة تمامًا؛ فلنتخيل إذن طفلاً عجيبًا، لديه بجانب فضيلته السيادة على العالم كله، وهو صالح في كل شيء، حتى أنه قادر أن يضع كل الناس في دائرة محبة الآب، فماذا تظنون في والد هذا الطفل، وما يمكنه أن يعانيه في مرة، هل يتخلى عن شعبه؟ وأيّ شر مهما كان قليلاً أو كبيرًا، هل يرحب به؛ بشرط أن يري ابنه ويتمتع به – فلنفكر في الأمر بخصوص مجده أيضًا – لأنه ما من طفل حتى لو لم يكن صالحًا، لا يمكن لأب أن يكرهه ولا يشتاق إليه. هكذا هو الحال في نصيبنا من تلك الخيرات وأن ننطلق ونكون مع المسيح” (في 1: 23).
وما من شك أن الجحيم والعقاب ليست من الأمور التي يمكن احتمالها. ولو افترض المرء عشرة آلاف جحيم، فلن يقدر على وصف ما سيكون عليه الحرمان من ذلك المجد الطوباوي أو أن يكون مكروهًا من المسيح، مثل سماعه “أنا لا أعرفكم” (مت 25: 12) أو أن يتهمه بأنه لم يطعمه حينما رآه جائعًا (مت 25: 42). أجل، فإنه من الأفضل أن يُصعق بمائة ألف صاعقة عن أن يري ذلك الوجه الرقيق يبتعد عنا، وعينه السلامية لا تحتمل النظر إلينا. فإن كنت وأنا عدو وأكرهه، قد تبعني ولم يتركني بل ولم يشفق حتى على نفسه، بل بذلها لأجلى حتى الموت، أبعد هذا كله لا أعطيه رغيفًا في جوعه، فبأي عينين أقدر بعد ذلك أن أنظر إليه؟
لكن انتبهوا هنا إلى لطفه ورقته في أنه لم يتحدث أبدًا عن خيراته، ولا قال “لقد اضجرت أيها الإنسان كثيرًا من فَعل لك الخير الكثير”. ولا حتى قال “أنا الذي أتى بك من العدم. الذي نفخ فيك نفْسًا حية، وجعلتك تتسلط على كل كائنات الأرض، الذي لأجلك خلق الأرض والسماء، والبحر والهواء، وكل الموجودات. لقد احتقروه لأجلك، بل حسبته مستحقًا لكرامة أقل من الشيطان!. ولم ينسحب هو من كل ذلك، بل كانت لديه عدة أفكار من أجلك. الذي اختار أن يصير عبدًا، الذي ضُرب بالقصبة وبُصق عليه، الذي قُتل، والذي مات أكثر الميتات خزيًا، الذي يشفع أيضًا في الأعالي لأجلك، الذي يهبك روحه القدوس مجانًا، الذي يمنحك الملكوت، الذي يقطع وعودًا كهذه لك، الذي يشاء أن يكون لك رأسًا وعريسًا وثوبًا وبيتًا وخدرًا وطعامًا وشرابًا وراعيًا وملكًا. الذي أُخذت لتصير معه وريثًا وشريكًا، الذي أخرجك من الظلمة إلى سلطان النور”. أقول إن هذه الأشياء وأكثر منها، يمكن أن يتكلم الرب عنها لكنه لا يذكر أيًا منها، إنه يتحدث عن الخطيئة فقط.
وحتى في هذا المجال، يظهر محبته، وأنينه لأجلنا فلا يقول: ادخلوا إلى النار المعدة لكم، بل استعدوا لمواجهة الشيطان، وهو يقصد أن يخبرهم بما هو خطأ في أفعالهم ولم يذكرها كلها بل بعضًا منها. وقبلها تحدث عن الذين يفعلون الصلاح مشيرًا إلى أنه يلومهم بعدل، فأي عقاب أشد من هذه الكلمات؟
فإن أيّ فرد لن يهمل إنسانًا جائعًا كان يومًا ينفعه، وحتى لو أهمله لن يتحرر من عذاب الضمير، بل إذا رأى صديقين أو ثلاثة على علم بما فعل تمنى لو أنه غاص في باطن الأرض، فماذا يكون شعورنا لو حدث هذا على مسمع من العالم كله وأمام الرب، الذي يحكم على أعمالنا، فمهما حاول الدفاع عن نفسه، فإنه لن يُخفي تباهيه بالأمر. ولهذا يسمع الرب يقول “اذهبوا عني” والمسيح هنا يلومنا لمنفعتنا حتى ننتبه.
11. لهذا أيها الأحباء، فلنرتعد حتى لا نسمع هذه الكلمات المخيفة، فالحياة ليست لهوًا، وحياتنا الحاضرة ليست عبثًا، والأمور العتيدة ليست كذلك. ولا تحسبوا حياتنا لهوًا وحسب، بل هي أسوأ من ذلك، لأنها لا تنتهي بالضحك، بل تجلب دمارًا شديدًا على الذين لا يفكرون في تقويم طرقهم بشكل حاسم. أرجوكم أن تعرفوا الفارق بيننا وبين أطفال يلعبون في بيوت تحت الإنشاء، حينما نبني بيوتنا الغالية الثمن. والفارق بينهم وهم يعدون طعام غذائهم وبيننا نحن في ارتحالنا الثمين؟ لا شيء، سوى أننا نفعل ذلك لأننا تحت العقاب، وينتهي بنا الحال دون أن ندرك إلى فقر كامل. فلا عجب أننا لم نعد بعد رجالاً، لكن حين نصبح كذلك، سندرك أن كل هذه الأمور صبيانية. وحين نبلغ مرحلة الرجولة والنضج سوف نحتقر ما كنا نحياه. بينما لما كنا أطفالاً حسبنا هذه الأمور شيئًا مميزًا يستحق منا القلق لأجله. وحينما كنا نجمع معًا كسر الخزف المكسور والطين، لابد أن نحسب أنفسنا أقل من الذين يشيدون الأسوار العظيمة، فهي حتمًا زائلة سريعًا. وحتى وهي قائمة لا جدوى منها لنا، مثلما هو الحال مع تلك البيوت الفخمة. لأن المواطن السماوي لا يقبلها ولا يريد أن يبقى فيها؛ لأن له موطنًا علويًا. لكننا حين ندوسها بأقدامنا، هكذا سيفعل هو أيضًا بالبروج الشاهقة. ومثلما نضحك على الأطفال الذين يبكون إذا انسكب منهم شيء، هكذا أولئك أيضًا، حينما ننوح على كل شيء، لا يضحكون فقط، بل يبكون أيضًا، لأن أحشائهم أحشاء رأفة. ولأن خاتمة أفعالهم ردية. لهذا فلنصر رجالاً، وحتى متى نزحف على الأرض ونتباهى بالأحجار والمباني والأرصدة، حتى متى نلهو ونلعب؟
وهل سنظل نلعب فقط؟ بل إننا نعبث بخلاصنا ونخونه الآن، وكأطفال يهملون تعليمهم ويجدون أنفسهم يلهون في أوقات فراغهم، يعانون من ضربات قاصمة متلاحقة، هكذا نحن أيضًا، ننفق كل حماسنا هنا، ونهمل دروسنا الروحية المطلوبة في أعمالنا، فلا نقوى على أدائها، فنستحق حينئذٍ لعقوبة قاسية، ولا أحد يقدر أن يخلصنا، لا أب ولا أخ ولا أيّ إنسان آخر.
لكن حينما تزول كل هذه الأشياء يظل عذابها إلى الأبد، بلا توقف، وهو نفس ما يحدث مع الأطفال حين يحطم أبوهم لعبهم الطفولية، بسبب تكاسلهم فيبكون بلا توقف.
12. وحتى نقنعكم بهذه الأمور، فلنتأمل حال الثروة والغنى، والتي تبدو من أكثر الأمور إيلامًا لنا، ولنضع في مقابلها فضيلة النفس، والتي ينبغي أن نطلبها مهما كان الأمر، وسترون مدى تفاهة الثروة. أقول:
لنفترض أن هناك رجلين – ولست أتكلم عن الضرر الناجم عن الغنى الفادح، بل عن الغنى المتوسط – وليجمع أحد الرجلين مالاً وفيرًا، ويسافر بحرًا. ويفلح الأرض، ويختبر طرقًا أخرى عديدة في التجارة – مع أنني لا اعرف تمامًا إن كان سيجني من عمله هذا أرباحً نظيفة، ومع هذا فليكن ما يكون- ويفترض أن أرباحه قد حصل عليها بأمانة واستقامة، وأنه اشترى حقولاً، واقتنى عبيدًا، وكل ما شابه، وأنه لم يمارس ظلمًا في معاملاته. لكن دع الرجل الآخر، يملك أموالاً طائلة ويبيع حقولاً وبيوتًا وآنية ذهبية وأخرى فضية، ويعطي المساكين صدقة، ويطعم المحتاجين، ويشفي مرضى، ويحرر المكروبين، ويطلق سراح المقيدين ويسرح العاملين في المناجم في السخرة، ويخلص الذين وقعوا في الشراك، ويحرر الأسرى، ويخلصهم من العقاب، فإلي أيّ من الرجلين نقف؟
ونحن هنا لم نتحدث عن المستقبل بعد، بل عن الأمور الحاضرة، فإلى أيّ جانب ستقف؟ هل إلى جانب الرجل الذي يجمع الذهب أم إلى جانب الذي يخلص الناس من ضيقاتهم! مع ذاك الذي يشتري حقولاً. أم مع الذي يجعل نفسه ملجأً وحصنًا آمنًا للجنس البشري؟ مع الذي يتسربل بكل هذا الذهب، أم مع ذاك الذي يكلل ببركات لا تحصى؟ ألا يشبه هذا الشخص ملاكًا هبط من السماء لتغيير الجنس البشري؟ بينما الآخر ليس كذلك أبدًا، بل إنه ليس إنسان، بل كطفل صغير يجمع ما تصل إليه يداه ليحتضنه هكذا عشوائيًا. ومثل هذا الإنسان والذي يجمع المال قد صار أمره سخيفًا، وبلغ حد الجنون المطبق. حيث لا أمانة مع المال ويصبح من أتعس الناس. وأقول إن كانت السخافة بهذا الحد فإن النواح يكون أعظم عليه حيًا أو ميتًا؛ لأنه ذاهب إلى الجحيم وخسران الملكوت.
13. أو هل تحبون أن نقبض على جزء آخر من الفضيلة. فلنذكر لكم رجلاً آخر، رجلاً ذا سلطة يأمر الجميع، تحوطه كرامة عظيمة، له حاشية ضخمة، وحراس ونواب وصحبة عظيمة من العاملين لديه، ألا يبدو هذا الإنسان عظيمًا؟ ويستحق أن يكون سعيدًا؟ حسن إذن؟
فلنضع مقابل هذا الرجل رجلاً آخر أيضًا، صبور على الآلام، وديع، متواضع، طويل الأناة، ولنجعل هذا الأخير محتقرًا من الناس يضربونه. ولنجعله يحتمل كل هذا، ويبارك الذين يضايقونه. فأي واحد منهما يستحق المجانبا. أرجوكم: هل ذلك المنتفخ والمتعجرف. أم ذاك المتواضع النفس؟ ألا يشبه هذا الأخير واحد من القوات العلوية. العديمي الفساد والهوى. بينما يشبه الأول بقِربة منتفخة، أو رجلاً يعاني من الاستسقاء والتهاب شديد. أحدهما كطبيب روحاني، والآخر كطفل سخيف ينتفخ ويتورم خداه؟
لأنه بماذا تفتخر أيها الإنسان، أبميلادك العالمي ووجودك في عربة محطمة؟ الآن جيادًا تحركك. ألا تعرف أن ما تراه أمامك هو مجرد قطع من الحجر والخشب؟، هل لأنك متسربل بثياب جميلة؟، ألا تنظر إلى المتشح بالصلاح كثوب؟. وسوف ترى بنفسك أن كل شيء يشبه قشًا سرعان ما يزول. لكن يبقى الآخر كشجرة تحمل أثمارًا عجيبة تُدخل الفرح المفرط على الناظرين، وأنت تحمل في جسدك طعامًا لدود الأرض وللعت؛ الذي إذ حط عليك جرَّدك من هذه الزينة الخارجية سريعًا. فالحقيقة أن الثياب والذهب والفضة كلها تغزلها الديدان، والأرض والتراب لتصير ترابًا من جديد.
ولا شيء أكثر من هذا. لكن من يتسربل بالصلاح يتشح بثوب لا يقدر الدود أن يؤذيه، ولا يقدر أن يضره. ومن الطبيعي جدًا أن هذه الفضائل الصالحة للنفس لا يعود أصلها إلى الأرض، بل هي ثمر الروح القدس. ولهذا السبب لا تتأثر بأفواه الديدان، لأنها ثياب منسوجة في السماء حيث لا يفسد عت ولا دود ولا أيّ شيء من ذلك. قولوا لي إذن من الأفضل؟
أن تكون غنيًا أم فقيرًا؟ أن تكون صاحب سلطان أم أن تكون بلا كرامة؟ في غنى وثروة أم في فقر واحتياج وجوع؟.
الأمر في غاية الوضوح، أن نكون في كرامة وبهجة وثروة. لهذا إن كانت لديكم الأشياء لا الأسماء، فاتركوا الأرض وما عليها هنا، وأوجدوا لأنفسكم مكانًا ترسون فيه في السماوات. لأن ما على الأرض ظل، لكن كل شيء هناك راسخ لا يهتز، ثابت لا يتزعزع.
فلنختر هذه الأمور إذن بكل همة ونشاط لنخلص من ضيقات الأرضيات هنا. حتى إذا ما أبحرنا إلى ذلك الميناء الهادئ، نوجد مع خيرنا الوفير. الذي لا يُنطق به، الذي يمنحه لنا الله بنعمة ومحبة ربنا يسوع المسيح الإنسان. له المجد والقدرة إلى أبد الآبدين آمين.
العظة الرابعة والعشرون
“ليس كل من يقول لي يا رب يا رب يدخل ملكوت السماوات، بل الذي يفعل إرادة أبي الذي في السماوات” [ع21]
لماذا لم يقل “الذي يفعل إرادتي؟”. لأنه في الوقت الراهن كان قبولهم حتى هذا القول يُعد ربحًا عظيمًا بسبب ضعفهم. وفي نفس الوقت فإن الرب يحببهم في الوصية الأولى بواسطة الثانية. ويجب أن نذكر أن مشيئة الابن هي نفسها مشيئة الآب. ويبدو لي هنا أن السيد الرب ينتقد اليهود بصفة خاصة، الذين وضعوا كل ثقلهم على التعاليم دون الاهتمام بالممارسة، ولهذا يوبخهم بولس الرسول قائلاً: “هوذا أنتَ تُسمى يهوديًا وتتكل على الناموس وتفتخر بالله، وتعرف مشيئته” (رو 2: 17-18).
لكنك لا تجني شيئًا من وراء ذلك، طالما أن شيئًا من العطاء لا يظهر في حياتك وأعمالك، لكن السيد الرب لم يقف عند هذا الحد، بل قال ما هو أكثر من ذلك.
“كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم: يا رب يا رب، أليس باسمك تنبأنا؟” ويقول السيد: “لا يكفي الإنسان أن يكون مؤمنًا فقط، بينما حياته مهملة، فإنه يُطرد من السماوات، حتى وإن صنع معجزات كثيرة، ولكنه لم يصنع شيئًا صالحًا، فإن هذا الإنسان أيضًا يُطرد من الموضع المقدس.
“كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم: يا رب. يا رب أليس باسمك تنبأنا؟” انظروا كيف يعود السيد الرب إلى نفسه سريًا ويشير ضمنًا إلى نفسه بأنه الديَّان؟ ولم يقل علانية أنا هو الديَّان. بل “كثيرون سيقولون لي” للدلالة على نفس الأمر. لأنه لو لم يكن الديَّان لما قال لهم: فحينئذٍ أُصرَّح(أُصرِّح) لهم، “إني لم أعرفكم قط” [ع23]. وكأنه يقول: “إني لم أعرفكم قط، لا في زمن الدينونة فقط، بل حتى عندما كنتم تصنعون المعجزات”. لهذا قال أيضًا لتلاميذه: “لا تفرحوا بهذا إن الشياطين تخضع لكم، بل افرحوا بالحري أن أسماءكم كتبت في السماوات” (لو 10: 20). ويأمرنا في كل موضع أن نبذل قصارى جهدنا لنهتم اهتمامًا كبيرًا بأسلوب حياتنا.
فليس من المكن لإنسان يعيش حياة صالحة، وهو متحرر من الأهواء والشهوات، أن يكون مهملاً تمامًا، لكنه حتى إن تصادف وكان على خطأ، فإن الله سرعان ما يجذبه إلى الحق. لكن هناك البعض يقولون: لقد أكدوا هذا بشكل زائف، وهذا هو تقديرهم لسبب عدم خلاص هؤلاء الناس. كلا! وإلا كانت نتيجة عمل هذا الشخص عكس ما أراده الرب. لأن قصد الرب يقينًا أن يجعل هذا الإيمان بلا قيمة بدون الأعمال. لهذا إذ يخص الرب على الأعمال الصالحة – يضيف المعجزات أيضًا – موضحًا أن ليس الإيمان وحده، بل حتى صنع المعجزات لا يفيد شيئًا بدون الصلاح. وإن لم يكونوا قد صنعوا العجائب، كيف كان من الممكن أن يؤكد الأمر هنا؟. وأيضًا هم لا يتجاسرون إذا ما جاء يوم الدينونة أن يقولوا هذا الكلام في مواجهة الرب، ولا حتى الجواب نفسه. وتساؤلهم هذا يتضمن أنهم صنعوا عجائب، ولكن إذ يرون النهاية تأتي عكس توقعاتهم وبعد أن كانوا هنا محل إعجاب الجميع بسبب ما صنعوه من معجزات، ها هم يرونهم هناك كلا شيء، مع عقاب ينتظرهم. فتصيبهم الدهشة وتعقد الصدمة ألسنتهم، فيقولون:
“يا رب، أليس باسمك تنبأنا؟” فكيف تبتعد عنا الآن؟ وما معنى هذه النهاية الغريبة التي لم نكن ننتظرها منك؟.
2. لكن إن كانوا يتعجبون أنهم يُعاقبون بعد أن صنعوا مثل هذه المعجزات – فلا تتعجبوا أنتم مثلهم – ذلك أن النعمة كانت عطية مجانية من الذي أعطاها لنا. لكنهم من جانبهم لم يشاركوا بشيء، لهذا يحق عقابهم بعدل؛ إذ هم غير شاكرين وعديمو الشعور نحو الرب الذي كرمهم كثيرًا، إذ أسبغ عليهم نعمته وهم غير مستحقين.
ورُبّ قائل وماذا إذن؟ هل يفعلون هذا وهم يمارسون الإثم؟ يقول البعض إنهم لم يصنعوا معجزات وهم يرتكبون الآثام، ولكنهم تغيروا بعد ذلك ومارسوا الإثم، لكن لو كان الأمر كذلك، لما أفلح معهم أيّ زمن آخر يعمل فيه الرب معهم؛ فلا الإيمان ولا صنع المعجزات يمكن أن يثمرا دون أعمال.
ولهذا يقول بولس الرسول أيضًا: “إن كان لي كل الإيمان حتى أنقل الجبال، ولكن ليس لي محبة، فلست شيئًا” (1 كو 13: 2).
وتسألون، إذن من هم هؤلاء الرجال؟، إن كثيرًا من المؤمنين قد نالوا مواهب؛ مثل طرد الأرواح” (مز 9: 38، لو 9: 49). ولم يكن مع السيد، هكذا يهوذا؛ إذ كان حائزًا على موهبة مع أنه كان شريرًا. ونرى في العهد القديم نفس الأمر، أن النعمة عملت في أُناس غير مستحقين، بحيث تصنع الخير للآخرين. لهذا لما كان الناس لا يناسبهم هذا الأمر، بل يحيا بعضهم حياة الطهر، ولم يكن لديهم هذا الإيمان العظيم، بينما كان آخرون على النقيض تمامًا، فإن الرب بهذه الأقوال يحث على إظهار مزيدٍ من الإيمان، وإذ يعطى البعض عطايا تفوق الوصف ليصيروا أفضل، فإنه يكمل لهم نعمته بكل سخاء، لأنه مكتوب “صنعنا عجائب كثيرة” ولكنه “يصرِّح لهم أني لا أعرفكم” لأنهم يظنون أنهم أصدقائي الآن حقًا، لكنهم سيعرفون حينئذٍ، إني لم أمنحهم كأصدقاء.
ولماذا تتعجبون إن كان السيد الرب يعطي عطايا للمؤمنين باسمه، رغم أن حياتهم لم تكن تليق بإيمانهم، بل كان يعمل حتى مع الذين حادوا عن الطريق وعن الحياة اللائقة والإيمان، ومع ذلك عملت فيهم النعمة لخدمة الآخرين. وفرعون أيضًا كان من نفس النوع، ومع ذلك فقد دله الرب على الأمور العتيدة، وكان نبوخذ نصر رجلاً كثير الآثام، ومع ذلك كشف له الرب ما سيحدث بعد أجيال كثيرة (د 3). وأيضًا ابن هذا الأخير، رغم أنه فاق أباه في الإثم، فقد تنبأ بأمور مستقبلية، آمرًا بحدث جليل وعجيب (دا 5).
ولأن بديات الإنجيل كانت تُجرى آنذاك، وكان تجلي قوته ظاهرًا بشكل واضح للجميع، فإن كثيرين حتى من غير المستحقين نالوا مواهب. وبالرغم من كل تلك المعجزات، لم تنشأ منها أية فائدة، بل بالحري عوقبوا بالأكثر. لهذا قال لهم السيد الرب هذا القول الرهيب، “إني لا أعرفكم”. وكان هناك كثيرون قد بدأ غضب الرب يظهر ضدهم، وتحول عنهم وتركهم، حتى قبل الدينونة.
لهذا لنخف أيها الأحباء ونرتعد، ولنهتم بحياتنا أعظم اهتمام، ولا نحسب أنفسنا أسوأ حالاً، لأننا لا نصنع المعجزات الآن، لأن ذلك لن يمنحنا أية مزايا، ومثلما لا يسيء إلينا أننا لا نصنع معجزات، إذا كان اهتمامنا منصبًا على الفضائل، لأننا مدينون بأنفسنا للمعجزات، لكننا مدينون لله بحياتنا وأفعالن
3. بعد أن أنهى السيد الرب الحديث عن كل شيء، تحدث إليهم بدقة عن الفضائل وأشار إلى المتظاهرين بها، من كل نوع وصنف. بخصوص تظاهرهم بالصوم والصلاة، والذين يأتوننا في ثياب حملان، والذين يدوسون المواهب ويدْعوَّن(ما التشكيل) أيضًا بالخنازير والكلاب.
ثم يتقدم ليشير لا إلى كيفية عظم الربح الذي يأتي من وراء الفضيلة هنا على الأرض، ويبين فداحة الشر بقوله: “كل من يسمع أقوالي هذه ويعمل بها، أُشبهه برجل عاقل” [ع24].
ويعني هذا: قد سمعتم ما يمكن أن يعاينه أولئك الذين لا يسمعون ولا يعملون بما يسمعوه رغم أنهم يصنعون معجزات، ويجب أن توتوا أيضًا ما يتمتع به كل من يسمع هذه الأقوال كلها – لا في الدهر الآتي فقط، بل هنا أيضًا – “فكل من يسمع” كما يقول السيد الرب، هذه الأقوال ويعمل بها، أشبه برجل بنى بيته على الصخر. أترون كيف ينوع في حديثه؟، ففي مرة يقول “ليس كل من يقول لي يا رب يا رب”. ثم يكشف عن نفسه في مرة أخرى. “بل الذي يفعل إرادة أبي” ومرة أخرى يعلن نفسه “ديَّانًا”، “كثيرون يقولون لي في ذلك اليوم يا رب يا رب. أليس باسمك تنبأنا”، “فحينئذ أُصرِّح لهم إني لم أعرفكم قط” ويشير هنا أيضًا إلى سلطانه على الجميع. لهذا يقول “كل من يسمع أقوالي”. وبينما يلمس حديثه المستقبل من الملكوت، والمكافأة والتعزية التي لا يُنطق بهما. وما شابه ذلك، فإن إرادته، أيضًا بالنسبة لأمور هذا العالم هو أن يعطيهم ثمارًا، وأن يشير إلى عظم هذه الفضيلة، حتى في الحياة الحاضرة. فما هي قوة الفضيلة؟.
أن نعيش في أمان، وألا يتسلط علينا أيّ رعب، من جانب الذين يحتقروننا. فأي شيء يعادل هذا الحال؟ لأنه حتى الذي يرتدي وشاح الملك لا يقدر أن يوفر لنفسه ذلك، أما من يمارس الفضيلة، فهو يملك كل شيء في وفرة، ويستمتع بهدوء عظيم في غمرة آلام الزمان الحاضر. والعجيب أن يتمتع بهذا في شدة العاصف، وفي ثقل الضيقة. وباستمرار التجارب، لا يهتز ولو قليلاً. إذ يقول السيد المسيح:
“ينزل المطر وتجيء الأنهار وتهب الرياح وتقع على ذلك البيت فلا يسقط، لأنه مؤسس على الصخر” [ع25].
ويشير الرب رمزيًا إلى الضيقات بألفاظ مثل “المطر” و”الفيضان” و”الرياح” وهي ضيقات مثل الإدانات والمؤامرات وفقدان الأحباء والأخصاء والأصدقاء، والميتات والقلاقل من الغرباء، وكل ما يمكن أن يحل بالإنسان من ضربات ويقول الرب أن النفس المؤسسة على الصخر. وهي الكلمة التي تشير إلى الثبات في تعاليم المسيح، لأن وصاياه في الحقيقة أقوى من الصخر وتضع الإنسان أعلى من الأمواج الهادرة والحياة العاتية. لأن من يحفظ وصاياه في ثبات، لن يتهاوى إذا اضطهده الآخرون، بالعكس فإنه سينتفع من وراء المؤامرات المحاكة ضده. وليس في هذا فخر زائف، فإن أيوب شاهدنا على ذلك، فهو ذلك الرجل الذي تلقى كل ضربات الشيطان، وكان مكروهًا من الجميع. والرسل أيضًا هم شهودنا، لأنهم حين ضربتهم كل أمواج العالم، ووقفت ضدهم كل الأمم والحكام، وشعبهم أيضًا والغرباء، والأرواح الشريرة والشيطان، وكل آلة تتحرك، وقفوا راسخين أقوى من الصخرة، فبددوا كل الاضطرابات. وكانت حياتهم أسعد من حياة الآخرين. فلا الثروة ولا قوة البدن ولا المجد ولا السلطان ولا أيّ شيء آخر، يمكنه أن يوفر لنا الأمان، إنما الذي يوفره هو امتلاك الفضيلة. لأنه ما من حياة أبدًا تخلو من كل الشرور، إلا هذه الحياة التي نحياها هنا، وأنتم شهود وترون المؤامرات في قصور الملك، والضيقات والمتاعب في بيوت الأغنياء، لكن شيئًا من هذا لا تجدونه بين الرسل. ماذا إذن؟ ألم يعانوا هم من شرور على أيدي الناس؟. بلى، لقد عانوا من أبشع المؤامرات وواجهوا أعثر العواصف التي انفجرت في وجوههم، لكن أرواحهم لم تنهزم أبًدا، ولا أصابهم يأس، بل صارعوا بأجساد عارية وانتشرت كرازتهم وانتصروا. وكذلك أنتم بالمثل، إن أردتم تحقيق هذه الأمور، فسوف تضحكون على كل المتاعب وتزدرون بها. أجل، لأنكم إن تقوَّمتم فقط بهذه الفلسفة لن يؤذيكم شيء، ولن يقدر عليكم من يحيك ضدكم المؤامرات.
هل سيسلب أحد أموالكم؟ حسنًا، لكن قبل أن يهددكم فإن الرب أمركم أن تحتقروا المال، وأن تتعففوا عنه تمامًا. وفي نفس الوقت لا تظنوا أن هذا الأمر من تدبير ربكم.
فهل يرمونكم في السجن؟ ألم يأمركم أن تحيوا هكذا؛ أن تُصلبوا عن العالم، فهل يتكلمون عنكم بالشر؟ كلا، فقد خلصكم المسيح من هذا الألم أيضًا، بوعده لكم بمكافآت عظيمة دون تعب إذا احتملتم الشر. وقد حرركم من الغضب والاضطراب الناجم منه، وهو الذي يوصيكم أن تصلوا أن يخلصكم الله منه.
فهل ينفيكم أحد ويسبب لكم متاعب جمة؟ حسنًا، فإن الرب يجعل إكليلكم أكثر مجدًا. فهل يدمركم ويقتلكم؟ حتى وإن فعل هذا فإنه ينفعكم نفعًا كبيرًا؛ إذ تنهال عليكم أكاليل الشهادة، وتبلغون السماء في منتهى السرعة بلا تعب، وتتوفر لكم أعظم فرص المجازاة الوفيرة والغنى. ويسمح لكم أن تستفيدوا من أكبر عقوبة تحل بالشر وهي الموت. والأمر الأكثر عجبًا من كل ما سبق، أن كل المتآمرين ضدكم، إذ لا يقدرون إلحاق الضرر بكم، بل بالحري يجعلون من أنفسهم موضع ازدراء.
فما الذي يمكن مقارنته بمثل هذا النمط من الحياة، وإذ يدعو الرب الطريق كربًا وضيقًا ليخفف من أتعابنا من هذه الجهة أيضًا، فإنه يشير إلى الأمان العتيد والعظيم جدًا، وإلى المسرة البالغة. مهما كان حجم الضيق والألم.
ومثلما اعتبر الرب الفضيلة أمرًا له ثماره الصالحة من بين كل الأشياء هنا، فقد أظهر العواقب المُرة للرذيلة أيضًا. وأكرر ما سبق أن قلته مثلا، أن الرب يأتينا في كلا الطريقين بالخلاص لكل من يسمع أقواله. بالغيرة على عمل الصلاح (الفضيلة) من جهة، ومن جهة أخرى بكراهية الرذيلة. وإذا وُجد البعض من الذين يعجبون بما قاله الرب، بينما لا تدل أعمالهم على أنهم تأثروا بما سمعوه، فإن الرب يثير مخاوفهم، فالسمع وحده ليس كافيًا لتوفير الأمان مهما كان ما سمعوه صالحًا، بل هناك الحاجة أيضًا إلى الطاعة التي تظهر بالأعمال – والاستجابة الفعلية – وينهي عظته وحديثه بأن يبلغ بالخوف إلى قمة ذروته فيهم. ومثلما تحدث عن مجازاة الفضيلة بالملكوت والسماء والمجازاة التي لا يُنطق بها، والتعزية والراحة والصالحات والخيرات التي لا تُعد ولا تُحصى. هكذا تحدث أيضًا عن أمور الحياة الحاضرة الدالة على ثبات الصخرة ورسوخها الذي لا يتزعزع. ولا يثير مخاوفهم من خلال أمور منتظرة فقط. كما هو الحال مع الشجرة التي قُطع أصلها، والنار التي لا تُطفأ، والذين لا يدخلون الملكوت. ومن قوله إني لا أعرفكم، ولكن أيضًا من الأمور الحاضرة مثل سقوط البيت.
4. لهذا السبب يوضح كلامه بالأكثر، فإنه يُظهر قوته في مَثَل، وهو لا يكرر كلامه، فقوله “الصالح أكثر ثباتً، لكن الشرير يسهل سقوطه” لا يعد نفس الشيء. ومثلما يقارن بين الصخرة والبيت، والأنهار والأمطار والرياح وما شابه.
ويقول السيد الرب أن كل “من يسمع هذه الأقوال ولا يعمل بها أُشبهه برجل جاهل، يبنى بيته على الرمل” [ع26]. وحسنًا وصف مثل هذا الرجل بالجاهل. لأنه أيّ غباء أكثر من بناء بيت على الرمل، فالجاهل يتعب إذ يعمل العمل بيديه لكنه يحرم نفسه من الثمر ومن التعزية، بل وينال عقابًا، والذين يسلكون في الشر يُتعِبون أنفسهم، وهم ظاهرون لكل واحد، فمنهم المرابي والزاني والمتهم بالباطل، وكلهم يتعبون أنفسهم ويكدون كثيرًا لجلب شرورهم وجعلها مؤثرة. لكنهم لا يجنون أبدًا ثمار أتعابهم بل بالعكس يصيبون أنفسهم بخسارة بالغة. وقد أشار بولس أيضًا إلى هذا حين قال “من يزرع لجسده، فمن الجسد يحصد فسادًا” (غل 6: 8). ويشبهون من يبني بيته على الرمل بالذين يسلمون أجسادهم للزنا، والدعارة والخمر والغضب، وكل شر آخر.
مثل آخاب، ولكن ليس مثل إيليا، لأننا حين نضع الفضيلة في مقابل الرذيلة سندرك على الفور الفارق بينهما. لأن واحد بنى على الصخر والآخر على الرمل، ورغم أنه كان ملكًا، خاف وارتعب عند مقابلته لنبي، ارتعب من إنسان لا يملك إلا جلد غنم. وهكذا كان اليهود وليس الرسل فرغم أنهم – أيّ الرسل – كانوا قليلي العدد وفي سلاسل، فقد أظهروا رسوخًا كالصخر، أما أولئك فعلى الرغم من كثرة عددهم وتسليحهم إذ كان عددهم ضعف عدد الرمال، لأنهم هكذا قالوا “ماذا نفعل بهذين الرجلين” (أع 4: 16).
هل رأيتم كيف أن الذين أُمسكوا بالقيود والسلاسل كانوا حيارى؟ بينما المقيدون ليسوا كذلك. فهل تسلطتم على الآخرين؟ هل أنتم في ضيقة وكرب؟ إن كان كذلك فهذا أمر طبيعي. بقدر ما بنوا على الرمل كانوا أضعف من الجميع. ولهذا أيضًا قالوا “تريدون أن تجلبوا علينا دم هذا الإنسان” (أع 5: 28). فماذا نقول؟ هل تجلد(ما تشكيلها؟؟) وأنت خائف؟ هل تعامل الناس باحتقار وتشعر باليأس؟ أم هل تدين ومع ذلك ترتعب؟ لأن الشر هكذا دائمًا واهن وضعيف – لكن الرسل ليسوا كذلك – إذ يقولون “نحن لا يمكننا أن لا نتكلم بما رأينا وسمعنا” (أع 4: 20).
أرأيتم روحًا بهذا النبل، وصخرة تسخر من الأمواج وتحتقرها؟ أرأيتم بيتًا لا يتزعزع؟ إنهم لا يهتزون أمام المؤامرات المدبرة ضدهم، بل بالحري يتشجعون بالأكثر، ويلقون بالآخرين في مزيد من الارتباك والقلق.
هكذا الذي يضرب بصلابة، ومن يضرب حجرًا صلبًا ترتد الضربة إليه هو، ومن يركل حجرًا ترتد الركلة إليه هو، أما من يثخن الآخرين بالجراح، والذي يثير المؤامرات ضد الأتقياء، هو الذي يقع في الورطة. لأن الشر دائمًا ما يكون هو الأضعف، كلما نظم نفسه ضد الفضيلة. وكالإنسان الذي يحتضن النار في ثوبٍ، لا يُطفئ اللهب بل يحرق الثوب. هكذا كل من يضرب الفضلاء ويقهرهم ويقيدهم، يجعلهم أكثر مجدًا، ويدمر هو نفسه. وكلما زادت عليك الآلام وأنت تحيا حياة البرّ، كلما صرت أقوى. لأنه كلما كرمنا(ما تشكيلها؟؟) ضبط النفس أكثر، كلما قلّ احتياجنا لأي شيء. وكلما قل احتياجنا لأي شيء كلما صرنا أقوى وفوق كل شيء.
هكذا كان يوحنا المعمدان، الذي كان واحد من هؤلاء. لهذا لم يؤلمه أحد. لكنه تسبب في إلحاق الألم بهيرودس. لهذا كان الذي لا يملك شيئًا قادر على مقاومة الذي يحكم. والذي يرتدي وشاح المُلك والأرجوان والصولجان ويملك قوة لا تنتهي، يرتعد ويخاف من الذي لا يملك شيئًا، بل خاف الملك حتى من الرأس المقطوعة. حتى أنه بعد موت يوحنا ظل هيرودس يرتعد منه بقوة شديدة، اسمعوا ما يقوله “هذا هو يوحنا الذي قَطعت رأسه” (مت 14: 2، لو 9: 9).
يقصد هذا هو الذي قطعت أنا رأسه أو ذبحته، وهو ليس حديث إنسان يتباهى بما فعل، بل يرتعد ويريد أن يسكن من روعه، ويهدئ نفسه، إذ يتذكر ما فعله أنه هو نفسه قد ذبح يوحنا المعمدان.
حقًا ما أعظم قوة الفضيلة، فهي تُصيِّر صاحبها بعد موته أقوى مما كان في حياته. ولهذا حين كان الذين لديهم ثروات كبيرة كانوا يأتون عليه ويقولون: ماذا يجب أن نفعل؟ (كو 3: 10، 14).
فهل هذا هو حالكم؟ وهل تهتمون أن يتعلم من يحيا في رخاء كيف تحيون أنتم الذين لا يملكون شيئًا؟ هل يتعلم الأغنياء من الفقراء؟ والأثرياء من المعدمين؟
هكذا كان إيليا أيضًا، لهذا يتحدث إلى شعبه بكل حرية. ومثلما قال يوحنا المعمدان “يا أولاد الأفاعي” (مت 3: 7) هكذا إيليا قال لهم “حتى متى تُعرِّجون بين الفرقتين” (1 مل 18: 21). وبينما قال المعمدان “لا يحل لك أن تكون لك امرأة أخيك” (مر 6: 19)، هكذا قال إيليا “هل قتلت وورثت أيضًا” (1 مل 21: 19).
هل ترون الصخرة؟ أرأيتم الرمل، كيف يغوص بسهولة وكيف يتأثر بالمصائب بسهولة؟ وكيف ينهزم؟ ورغم أنه مدعم بالملكية والجماعة والنبلاء، لا يسقط هكذا وحسب، بل يكون سقوطه عظيمًا. إذ يقول “كان سقوطه عظيمًا”.
فالخطورة ليست في التوافه، بل في النفس، وخسارة السماء، وتلك البركات الخالدة. وحتى قبل الخسارة ليست هناك حياة أتعس من حياة إنسان يعيش هكذا، في شقاء دائم، وانزعاج واضطرابات وهموم. والذي تحدث عنه الحكيم مرة قائلاً: “الشرير يهرب ولا مُطارد” (أم 28: 1). لأن مثل هؤلاء الناس يرتعدون حتى من مجرد رؤية ظلالهم، ويرتابون في أصدقائهم، وأعدائهم وخدمهم. والذين يعرفونهم والذين لا يعرفونهم. ولذلك وقبل عقابهم النهائي، يعاقبون هنا بالعقاب الشديد؛ إذ يمتنعون عن تنفيذ الوصايا الطيبة الصالحة، مخدوعين بأمور الزمان الحاضر، بدلاً من هروبهم من حياة الرذيلة. وكان اللائق بهم أن يهربوا من الشر.
لأنه وعلى الرغم من أن النقاش كان حول الأمور العتيدة بشكل أوسع وأعم، فإنه من القوة أن نمتنع عن الأمور الأخطر هاربين من الشرور.
لهذا أنهي الموضوع بقولي إن الربح الذي يناله المداومون على الصلاح سيدوم فيهم، وإذ نعي نحن كل شيء الحاضر والعتيد، فلنهرب من الرذيلة ونحيا في الفضيلة، حتى لا تكون أعمالنا بلا ثمر، وبلا ترتيب بل نتمتع بالأمان هنا، ونشترك في المجد هناك، الذي يهبنا إياه الله بالنعمة والمحبة التي لنا نحن البشر، بربنا يسوع المسيح الذي له المجد والقوة الآن وإلى أبد الآبدين كلها. آمين.