بقلم الأب الياس شخطورة الأنطوني
قيل الكثير، كُتب ويُكتب الأكثر عن الصوم، ولكن واقعياً وفي أيامنا الحاضرة، إن الصوم هو الركن الأقل تطبيقا وممارسة في حياة المؤمن المسيحي وفي الكنيسة، في الغرب أكثر منه ما في الشرق. أسئلة عديدة تدور حول الصوم وكيفية تطبيقه. الصعوبة تكمن في عيشه والإلتزام به. إمّا لأنه يتطلب جهاد أكثر على مستويات عدة، أم لأنه يمس خاصة وبشكل جذري أحاسيس جسدنا ورغائبه وحاجاته والتي تَعوَّدنا يومياً على إرضاءها بانتظام ودون تردد. وتحتلّ هذه الأخيرة الدرجة الأولى في حياتنا قبل أي حاجة أخرى، لكونها ضرورية وطبيعية، اعني بذلك “لا غنى عنها”. إذا عدنا إلى المفهوم الديني القديم ونظرنا إلى سيرة الآباء والأنبياء، نرى ذواتنا اليوم بعيدين كل البعد عن هذا الإلتزام أو بالأحرى عن تطبيق ولو جزء بسيط مما كانوا يلتزمون به على الصعيدين الجسدي والروحي .
ومع تطور العلم والفكر الأخلاقي-الروحي، يأتي الصوم وللأسف في الدرجة الأخيرة من حيث الإلتزام به واعتباره أداة حسّية وجوهرية للتقرب من الله ولكشف الذات أكثر فأكثر على ضوء تعليم وحياة السيد المسيح . الحجج كثيرة؛ منها المقبولة بعض الشيء، ومنها المرفوضة أصلاً. من جهة، تساهلت الكنيسة في إرشادها وتوصياتها لأبنائها في عيش الصوم، خاصة في الغرب، إذ أنّها تكتفي بتوصية المؤمنين على الصوم أولَ وآخرَ يوم من الزمن الأربعيني (أربعاء الرماد والجمعة العظيمة).
ومن هنا السؤال: كم من أصدقاءكم ومعارفكم الغربيين يلتزمون بهذا التعليم أو ربما سمعوا به، إذا لم يقرؤوا أو يعطوا انتباها أو اهتماما للكنيسة وتعاليمها؟ قد تكون الحالة في بلادنا المشرقية أفضل، نوعا ما، مما هي عليه في الغرب. فما زال الصوم نقطة محورية لعيش روحي عميق، يدفعني للتجرد من أشياء أحبها وأفضل الحصول عليها إكراما لآلام السيد المسيح التي أتحضر لعيش معانيها والقيامة من خلالها. أحرم ذاتي من هذه الأشياء لأتذوق معنى الألم الجسدي الحقيقي والذي، في الوقت عينه، يولّد لذة روحية تشعرني برغبة روحية مميزة تحرمني منها الملذات الأرضية عندما أغوص وأتمسك بها وحدها. وهنا أطرح السؤال: أيكون جسدي عائقا أم مسهِّلاً لعيش الصوم؟ أهو أداة عرضة للتحقير لكي أفهم اللذة الروحية أم وسيلة إكرام بها أتمتع بالملذات السماوية على هذه الأرض؟
من هنا قد يكون مفيدا وضروريا أن نسلّط الضوء على بعض مفاهيم “الجسد” في تراثنا السرياني، وتحديداً في بعض كتابات مار أفرام السرياني و يوحنا المتوحد عن الصوم، قبل النظر والتبصر في مفاعيل الصوم ومدى أهميته في حياتنا المسيحية عامةً، والرهبانية بالأخص.
1- مفاهيم الجسد في التراث السرياني أبدأ مع مار أفرام، ملفان البيعة وكنارة الروح القدس، الذي يعطي أهمية بالغة للجسد في تعاليمه وأناشيده من خلال عبارات وصوَرٍ لاهوتية عميقة، فريدة من نوعها:
1.1 الجسد “حُلة المجد“
إن عبارة “حلة المجد” تشكّل العامود الأساس في تعليم أفرام، إذ يأتي على ذكرها مرارا في أناشيده، خاصة في أناشيد الميلاد، إذ يقول في النشيد 23: “قام بكل ذلك الحنّان: تعرى من المجد ولبس الجسد لأنه كوّن وسيلة ليرجع آدم إلى حالته الأولى التي أضاعها وتعرّى منها“ ما هي هذه الحلة الممجدة، أهي حلة خارجية يكسو بها آدم عاره؟ أم هي مجرّد رمزية؟ إن سقوط آدم ورفضه للملكوت، دفع بالأبن إلى التخلي عن ذاته، عن حلة مجده، ليلبس الجسد، أي عارنا. ولكي نفهم هذا الفعل الإلهي لا بد من أن نتوسع قليلا في تحليلنا لمفهوم الجسد عند أفرام.
2.1 الجسد بحسب مار افرام
بالنسبة لأفرام، الإنسان هو إتحاد الروح بالجسد، مبدأ واحد، هيكليةٌ أساس للطبيعة البشرية، لا يمكن الفصل بين الواحد عن الآخر. الروح هي عروس الجسد والجسد هو الخِدر الزوجي للروح، يعني أنّهما آداة واحدة تجعل الإنسان مترابطاً مع الآخر وبعلاقة معه. الفرق يظهر في دور كل واحد منهما. يقول أفرام في هذا المجال: ” يؤدي الجسد لك الشكر، يا سيد، لأنك خلقته مسكنا لك؛ والروح تعبدك، لأنك خطبتها عند مجيئك“.
الجسد، بالنسبة لأفرام، هو الإنسان بكامله، إذ لا فصل بين الجسد والروح: هما في إتحاد كامل ووثيق. هذا ما يعبّر عنه أفرام عندما يتحدث عن الإفخارستيا: “إن الخبز الروحي يُحلِّق ويطير، كذلك الشعوب يطيرون مرتفعين إلى الفردوس، حيثما يوجد جسد آدم الثاني”؛ ويعني بذلك أن كل من يأكل جسد الرب، يلتقي به حيثما وجد. إن هذا الجسد يضعف ويذبل عندما يحاول أن يجعل من ذاته نقطة انطلاق وركيزة لوجوده وجوهره، ليصبح بذاته مصدر كل شيء؛ بيد أن هذا دليلٌ على فشله وضعفه. بحسب أفرام، لا يمكننا أن نهمل الجسد، لأن الله بذاته حلّ فيه: إنه المسكن الذي يحل الإنسان فيه ويميزه عن سائر المخلوقات. إنه مكان لقائي بالآخر، إنه تعبير عن حضوري للآخر والآخر لي، حقيقة تواصل، مرآة الآخر فيّ.
3.1 الجسد بحسب يوحنا المتوحّد
انتقل من أفرام إلى يوحنا المتوحّد والمعروف بالآفامي، من الآباء السريان في القرن الخامس. نظرته إلى الجسد تختلف تماما عن نظرة مار أفرام، فهي سلبية وبعيدة عن الفكر السرياني العام، فيقول في إحدى خطبه عن الصوم:”باطلة هي خدمة جسدنا المريض، فحاجاته لا تُحصى، ورذائله تتوالد من جيل إلى آخر، ورغائبه كذلك“. في قوله هذا، يُجسد يوحنا المتوحّد الفكر الفلسفي اليوناني الرافض كلّيا للجسد كما كان يُقال على لسان أفلاطون “الجسد مقبرة الروح” . لذا يشدد يوحنا على أن خدمة الجسد والروح معاً عمل غير معقول، فيقول: ” أترون كم أن خدمة الجسد ثقيلة؟ أفهمتم كم أن عمله غير مفيد؟ لذلك يستعصي علي خدمة الجسد… ابتَعِدْ عن خدمته وعن رغائبه، اقبَلْ نير الروح“. إننا أمام مشهد معاكس لمفهوم وإيمان مار أفرام وغالبية الآباء السريان عن “الجسد”؛ يرفض يوحنا بالمطلق فكرة الجسد أو بالحري خدمته. إنه ثقيل الحمل وشهواني، رفضه يدفعك لخدمة الروح دون الجسد؛ يدعو يوحنا سميعَه إلى التحرر من ملذاته ورغباته قدر المستطاع.
الصوم بحسب مار أفرام ويوحنا المتوحّد
عرضتُ ولو بشكلٍ موجز مِحورَين أساسيَّين عن الجسد، تمهيداً لفهم الصوم كفكرة عيش. لذا أعود لأبدأ مجدداً مع أفرام ومن ثم أتابع مع يوحنا مفهومَ وعيش الصوم (الغريب إنهما، رغم البعد الكلي في مفهوم الجسد، يلتقيان في طريقة تطبيق الصوم بحسب أغلبية نقاطه) إن آباء الكنيسة عامةً والشرقيين خاصة أكدوا على المفهوم الخلاصي لعيش الصوم، لذلك شجعوا المؤمنين على الإلتزام به وعيشه الكلي، وصوّروه وكأنه عملية تحضير للمشاركة في العرس الخلاصي والذي فيه يُحتفل بانتصار وغلبة المسيح على الموت والخطيئة.
بالنسبة لأفرام الصوم هو:
الهروب من المائدة الأرضية نحو المائدة السماوية.
صلاة وانتصار؛ صعود إلى الجبل المقدس بالتخلي عن الأمور الأرضية.
فرح وغفران؛ توق إلى الماء الحي وتلذذ بالأمور السماوية.
سلاح يطلق أسهمته ضد الشر، بها غلب المسيح الشيطان.
بالصوم تُغلب شهوات الجسد، عندها يجد الراحة والسلام.
يدعو أفرام كل مؤمن إلى حب الصوم، إلى تَبنّيه وعيشه لأنه يساعد على النقاوة. من خلاله، تصبح الأفكار بسيطة غير معقدة. الصوم يطال الجسد والروح معاً، يلمس كل طاقاتهما، يحييها وينعشها، يثمر ثمارا نقية، له حسنات على الجسد وعلى الروح، يكلّلهما، يجمّلهما كلٌ بجماله وبرونقه الخاص، فتصبح الروح مشرقة أمام الملائكة والجسد باهراً نقيّاً أمام الناس. الصوم هو المفتاح الذي يفتح كنوز الروح القدس؛ لأن من يصوم، تمجيداً لله، يمكنه أن يحصل على الإلهام الحقيقي، بل ويصل إلى الحقيقة الكاملة التي يبحث عنها والتي يحصل عليها من يصوم فقط، أي الذي يبتعد عن الشهوات الحسيّة والأرضية.هنا يلتقي يوحنا المتوحّد مع أفرام حول الصوم، فيقول أنه:
أداة لمحاربة كل شهوة رذيلة تعيق إرتفاع الروح نحو خالقها، فيحسن لمن يصوم أن يقتل الشهوة والتغلب عليها، لأنها تحمل سيئات عدة وتمنع الطبيعة البشرية من التنعّم بالحرية الإلهية.الدواء المناسب الذي يحمل الشفاء للجسد والنفس معاً، طعمه حلو؛ ولخفّة نيره، ينحلّ ثقل المرض. بالصوم تلتقي الروح بالجسد، فيخلق التناغم بينهما، والجسد يشفى ويشعر بالسلام، والروح تفرح، والأفكار تملؤها الآمال السماوية. يشدد المتوحّد على اللجوء إلى الصوم وعلى اتباع نهجه الذي يُوضح الخطأ ويُشير إليه حيثما وجد. الصوم ليس فقط الامتناع عن الأكل والشرب، إنّما هو الرجوع إليها؛ يذكّر بنتائج العبودية، ويدعو إلى مواجهتها بآمال جديدة سماوية، ويقول: “قليلون هم الذين يصومون، لأن الصوم يتطلب التزاماً وتضحية. الصوم يأتي بثمار السموات في حياة المؤمن.
2- مفاعيل الصوم في أيامنا
في نهاية نشيده الثاني عن الصوم، يتوجه يوحنا المتوحّد إلى الذين يقولون: “ما فائدة الصوم، إذ أنّ الله لا يطلب الصوم بل نقاوة القلب؟”، وجيبهم على النحو التالي:”أما أنت، يا عزيزي، تعتبر الصوم وكأنه شيء سطحي لا يؤدّي إلى نقاوة القلب؛ ولذا أنت لا تطيع الكتب المقدسة ولا حتى الذين فاخروا بجمالات الصوم، لا تحترم ولا تطيع وصايا الله. في الكتاب المقدس تجد بهاء الصوم الذي يشرق أينما كان؛ وإذا سالتَ الصائمين ما فائدة الصوم؟، يجيبونك: إنه يساعدنا على ضبط شهواتنا وغلبة رغائبنا الجسدية ويجعلنا أنقياء الفكر، والأهم أنه من خلاله نصبح قريبين من صوم مخلصنا الذي صام من أجلنا“.
إن هذا النص الذي يعود إلى 1500 سنة إلى الوراء، يُجيب على السؤال عينه المطروح اليوم حول الصوم، عن فائدته ومنفعته. إن الذين لا يعيشونه لا يستطيعون فهمه ولا استيعابه، ففي ممارسته يمكن استخلاص فوائده، من هنا أستطيع أن أقول شخصيا، وعن خبرة، في الصوم:
هو الطريقة التي من خلالها يُعبّر المؤمن عن إيمانه بالله بواسطة جسده، هو عكس ما يُعاش من خلال وسائل تسعى لتنقية الفكر والحس البسيكولوجي التي تتفشى بكثرة في هذه الأيام. ((ex: Yoga إنه عمل إيماني سريّ، يُقام به على الصعيد الشخصي بخشوع وتواضع بهدف واضح، وهو الحصول على العدالة إلاهية والمشاركة وحب الله والآخر؛ لذلك فالصوم يكون مؤلِماً لِمن لا يعرف حسناته وغير مفيد له.
إن الصوم يبلغ فينا مستوى روحي عالٍ مترفّع لأنه مرتكز على الصلاة وعمل الخير، كما يقول عنه المسيح؛ إنه جزء لا يتجزّأ من إتباع المسيح والمسيرة معه؛ هو إداء الطاعة للمسيح عندما طلب من تلاميذه ومنا الصوم والصلاة؛ هو تعليم المؤمن على حمل كلِّيته وتقديمها كاملة ساجدة أمام الرب؛ هو التسليم الذاتي الناضج والمسؤول، الواعي للخالق.
الصوم هو كـ”ميزان الحرارة”، هي المدة التي وضعتها الكنيسة، بحسب تعليم المسيح، كي أقوّمَ ذاتي، لأقوّم مدى حضوري وجهوزيّتي وتجاوبي مع مشيئة الله في القيام بالواجب المسيحي وبحسب مشيئته. قد نقول: عِوضا عن الصوم نقوم بأعمال خيرية، بيد أن الأعمال الخيرية، كالصدقة وما شابه ذلك، هي معنا دائماً، مطلوبة منّا في كل حين، أمّا الصوم فهو الفترة المحددة زمنيا والتي فيها نقيس ذواتنا لنرى كمّ نحن مستعدون للقيام بهذه الأمور.
الصوم هو الرجوع للذات لرؤيةٍ أفضل ولعملِ خير أشمل وأكمل؛ إنه المصباح الذي يضيء ذاتي الداخلية لكشف هفوات ناتجة ووليدة أفعال سيئة، فيسعى جاهدا لإبطالها ولتحسين حالتي الداخلية. هو حقل الرماية والتمارين العسكرية للإنطلاق لمحاربة الشر ومواجهة تجاربه. من لا يجرّب الصوم ويعيشه، ليس بمقدوره أن يفهم ماهيّته وفوائده؛ فهو كمن لا يجرب طعاما ما، ويقول: لا أحبذ أكلَه قبل إستذواق طعمه والتلذذ بفوائده.