ذكرى يوم الخمسين ( العنصرة ) لها أهميتها الأساسية في الكنيسة المسيحية وفي العهد الجديد لان فيها تمت ولادة اول جماعة مسيحية كارزة وشاهدة بالكلمة الخلاص بواسطة الايمان بالمسيح الحي المقام من الأموات والذي صعد إلى السماء وجلس عن يمين الآب.
يوم الخمسين هو الاسم الذي يطلقه العهد القديم على عيد الأسابيع عندما كان يحتفل في اول الحصاد وكان يدوم يوم واحد تقدم أثنائه قرابين خاصة (خبزا مختمرا) فهي تقدمة شكر للرب على الخبز اليومي (خر23-16) ( لا23:15-21) (تث 16:9-12).
اقترن هذا العيد بحادثة تاريخية ففيه ذكرى إعطاء الناموس على جبل سيناء مم يلفت الانتباه ان هناك تقليد رابيني ( رابي يوحنا منتصف القرن 2ق.م ) يقول : إن الناموس أذيع من قبل الله بلغات الأمم السبعين في العالم لكي يكون لسبعين أمة مختلفة.
ارتبطت العنصرة عند المسيحيين بحادثة حلول الروح القدس على التلاميذ بعد عيد الفصح بخمسين يوما لذا يسمى باليونانية ( بنتيكوستي) ( pantekoste ) والعنصرة كلمة عبرانية معناها( اجتماع الجمع) او( الحشد) ولهذا فان المقصود من الكلمة ( الجمع) في ( اع2-1 ) هو المائة والعشرون شخصا وليس الاثنا عشر رسولا ويقول البعض ان اصلها سريانية مشتقة من الفعل ( عصار ) وان السريان يضيفون نونا بعد فاء فتصبح ( عنصار ) ومنها دخلت الكلمة إلى العربية ( عنصرة ) بمعنى الفيض أو الواهب وهو يشير الى موهبة الروح القدس التي أعطيت مجانا لتلاميذ السيد المسيح.
ماذا حدث في يوم الخمسين ؟
أن اول ما يستدعي انتباه القارئ في سفر أعمال هو سرعة التبدل المدهشة والتغير الهائل في سلوك التلاميذ بعد انسكاب الروح القدس عليهم هذا التبديل والتغير هو نفس ظواهر التبدل عند الرسول بولس عندما ظهر له السيد في طريقه إلى دمشق إذا لم يكن الأمر مجرد نور وصوت كما ظهر لرفاقه ولكنه كان السيد بنفسه الذي احدث التغير. يقول أعمال الرسل : ” وصار بغتة من السماء صوت كما من هبوب الريح عاصفة وملاء كل البيت حيث كانوا جالسين وظهرت لهم السنة منقسمة كأنها من نار واستقرت على كل واحد منهم .”( اع 2:2-3) في هذه الكلمات نجد رؤيا هي ألسنة كأنها من نار وسمعوا “ريحا عاصفة” هذه لم تكن أول رؤيا في الكتاب المقدس تحدث فإنها ترد في ( حز1-4) وهذه ما رأوه التلاميذ أيضا في جبل التجلي( مر9:2-3).
هناك تشابها بين هذه المظاهر وتلك التي صاحبت حضور الرب على جبل سيناء( خر 19: 18-19) ( خر54-17) والمظهر الذي يلفت أيضا في أعمال الرسل هو معجزة النطق بلغات مختلفة وهم أميون ( اع 2:1-6) وظهر اثر ذلك في خطاب بطرس الأول( اع2 :14-36) والثاني ( اع 3: 12-26). إذا هذا التغير جعل الرسل ينطلقون بقوة الشهادة بقيامة المسيح : ” ستنالون قوة بحلول الروح القدس عليكم فتكونون لي شهودا… إلى أقاصي الأرض.” ( اع 1-8).”
وكان الرسل بقوة عظيمة يؤدون الشهادة بقيامة الرب يسوع وكانت عليهم جميعا نعمة عظيمة.”(اع4-33).فقال بطرس وهو ممتلئ من الروح القدس (اع 4-8) وكان استفانوس ممتلئا من الروح القدس وعيناه شاخصتين إلى السماء فرأى مجد الله ويسوع قائما عن يمين الآب ( اع 7-55) فان الروح الذي أقام يسوع المسيح من بين الأموات اخذ ينير عقول التلاميذ ليفهموا أسباب هذه القيامة وبدا يعرفهم ” جميع الحق “(يو16-13) الذي هو نفسه روح الحق والحق هو الذي تمت فيه المصالحة لحساب البشر عندما ارتفع المسيح وجلس عن يمين العظمة في السموات بجسه.هكذا أدرك التلاميذ أن القيامة التي صارت فيهم أعطتهم مع المسيح وفي المسيح سر المصالحة مع الآب.
وفي هذا اليوم الخمسين انقشع كل الشكوك والجهل والخوف لان الروح القدس الذي حل فيهم هو روح المسيح الفادي الذي حمل معه إليهم المسيح مولودا ومصلوبا وقائما وصاعدا إلى الآب فأدركوا معنى الصلب والقيامة فالمسيح الذي غاب عنهم بالصعود وهم في حيرة مم سيعملون ويقولون عاد إليهم في يوم الخمسين بكل قوة وعمل الفداء الذي صنعه ليسلمه إليهم بالروح القدس لان الروح القدس أكملت عملية الفداء والقيامة اليوم والمسيح قائم موجود بكل قواه الخلاصية في كل التلميذ( المؤمن والشاهد بالسيد القائم) .في استعلان الفداء استعلنت حدود علاقة الآب بالابن من اجل البشر وهكذا لولا الفداء وحلول الروح القدس ما استطعنا ان ندرك الثالوث فالفداء أعطانا حق حلول الروح القدس يوم الخمسين وفي الفداء أيضا كشف لنا الروح القدس عمل الآب والابن وهكذا اصبح يوم الخمسين يوم استعلان سر الفداء وبالتالي استعلان سر الثالوث الفاعل في الفداء انكشاف مسرة الآب والابن والروح القدس لخلاص الإنسان .
إذا الوحدة المتكاملة بين عمل الاقانيم لخلاص الإنسان متأصلة ومتجذرة وملتزمة بصورة أساسية بوحدانية الله فلا يوجد عمل لاقنوم يختص بنفسه فقط خارج او بدون عمل اقنوم اخر والآن استطعنا نفهم ان الاقانيم الثلاثة اله واحد أيضا لا يوجد عمل الاقانيم خارج هدف الاتحاد بالله والا خرج الخلاص عن مفهومه ” أنا فيهم وأنت في ليكونوا مكملين الى واحد “( يو 17-23) فلا بد من الى ان الاتحاد والشركة في الطبيعة الإلهية لا تعني إلغاء طبيعة الإنسان او رفعه الى الألوهية انما الاتحاد هو لاكتساب المواهب والفضائل وإلغاء الخطايا والضعف وليس لامتلاك طبيعة الله ،
الله سيظل أخر للإنسان بالرغم من ملء الإنسان الى قامة المسيح صحيح اننا نظهر معه في المجد ولكن كمستضيئين وليس كأصحاب النور.
العنصرة والكنيسة :
ولدت الكنيسة من الروح القدس في يوم الخمسين لما كان الجميع معا بنفس واحدة وبدءا من هذا النهار عرفت الكنيسة رسالتها على أنها جماعة مبشرة وشاهدة لقد أعلن السيد : “ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم وتكونون لي شهودا في اورشليم وفي كل اليهودية والسامرة والى أقصى الأرض.” ( اع1-8) وعت الكنيسة منذ عصر الرسل دور الروح القدس الأساسي في نشأتها ومن المحافظة على وحدتها كجسد للمسيح.” وأم الكنائس … فكان لها سلام وكانت تبنى وتسير في خوف الرب وبتعزية الروح القدس كانت تتكاثر .” ( اع 9-31) لان التلاميذ اؤتمنوا على إدارة وتدبير شؤون الكنيسة ، كانوا يمتلئون كل يوم من الروح القدس. ( اع 13-51) هذه الغاية الأساسية التي من اجلها أرسل الرب الروح القدس من عند الآب في يوم الخمسين المسيح تشدد جدا مع التلاميذ في عدم العمل بدون حلول الروح القدس بل حدد إقامتهم وجمد حركتهم حتى ينالوا هذه القوة من الأعالي وبهذا ارتبطت الكنيسة في عملها ونموها وتعليمها وشهادتها بالروح القدس فبقدر انسكاب هذه القوة من الأعالي بقدر ما يكون نموها وحركتها ونشاطاتها في الداخل وامتدادها في الخارج وقد حدد الرسول بولس مدى ارتباط القوي بين الحصول على” قوة الروح القدس ” وبين حلول المسيح في قلوب المؤمنين للحصول على ملء الله للأفراد أو للجماعة ” كنيسة”
في خدمة عيد العنصرة توجد تراتيل وصلوات كثيرة مكرسة لتمجيد الثالوث القدوس ولهذا نعيّد الخمسين ليس فقط عيد لحلول الروح القدس على التلاميذ وليس فقط عيد لتأسيس كنيسة المسيح بل هو عيد للثالوث القدوس يقول القديس يوحنا الذهبي الفم : ” إذا لم يكن الروح القدس حاضرا معنا فلن تكون هناك كنيسة.”
ومن هنا يتضح ان عيد الخمسين ( العنصرة ) هو العيد الذي فيه تظهر عناية الروح القدس في الكنيسة هذا العيد الذي أرانا الله فيه سر الثالوث القدس الواحد في الجوهر والغير المنفصل .
إذا الترتيل والصلوات التي تبتدئ بها خدمة عيد العنصرة مكرسة لإيضاح النواحي المختلفة لعناية الروح القدس بالكنيسة فهي تروى من مواهب الروح الخارجية كموهبة النطق بلغات جديدة والمواهب الداخلية التي يسكبها الروح القدس على المؤمنين ومن الصلوات التي تمجد الاقانيم الثلاثة: “قد نظرنا النور الحقيقي أخذنا الروح القدس السماوي ووجدنا الايمان الحق فلنسجد للثالوث الغير المنقسم لانه خلصنا.”
نرى في هذه الترتيلة ان إيجاد الايمان الحق هو شرط للحصول على مواهب الروح القدس وفي الوقت نفسه هو نتيجة لقبول الإنسان نعمة الروح القدس “أخذنا الروح السماوي ووجدنا الايمان الحق” فقبول سر المعمودية والميرون الذين بواسطتهما يبدأ الإنسان حياة مسيحية صالحة وتكون له القدرة على تفهم الروحيات.كل شيء في الكنيسة يعيش ويتنفس بالثالوث وكل شيء يدور حوله : العقائد والأسرار والخدم الإلهية والصلوات لهذا تسمي الكنيسة الثالوث بالمحيي لأنها تعتبره بدء حياتها.فالمسيحي الحقيقي لا يباشر عملا ولا يعمل شيئا إلا باسم الآب والابن والروح القدس.خدمة القداس الالهي تبتدئ :” مباركة هي مملكة الآب والابن والروح القدس…”وفي أخر القداس الإلهي نرتل قد نظرنا النور الحقيقي وأخذنا الروح السماوي ووجدنا الايمان الحق فلنسجد للثالوث….
لذا نحن نتوجه إلى الثالوث في أيام التوبة والبكاء في أيام الصوم الكبير اذ ان التراتيل الكنسية مكرسة لتمجيد الثالوث حيث تأخذ حيزا كبيرا في صلوات الصوم الكبير( التريودي) .ان عقيدة الثالوث لها أهمية خاصة بين جميع العقائد المسيحية وتعاليم الكنيسة المقدسة.
فبالإضافة إلى التعليم عن طبيعتي المسيح تشكل هذه العقيدة أساسا لتعاليم الكنيسة لهذا كافح الآباء ومعلمو الكنيسة اثناسيوس الكبير وباسيليوس الكبير وغريغوريوس اللاهوتي ويوحنا الدمشقي ويوحنا الذهبي الفم وغيرهم في تثبيت الايمان الحقيقي القويم فيما يتعلق بالثالوث القدوس لهذا لا عجب ان وجدنا في صلواتنا لعيد العنصرة صلوات وتراتيل تبين بكلمات موجزة خلاصة عقيدة الكنيسة الأرثوذكسية بالثالوث القدوس.