في الرابع عشر من شباط من كل عام تحتفل الكنيسة الانطاكية الارثوذكسية بناسكها البار مارون الانطاكي أحد آباء برية قورش.
مارون هو من الاوائل الذين اختاروا هذا النمط من العيش في العراء في هيكل وثني مهجور حوّله الى كنيسة مسيحية. خصه ثيودوروثيوس بالفصل الرابع من كتابه (التاريخ المصطفى من الله (المعروف خطأ لدى البعض بـ”تاريخ أصفياء الله”) فقال انه “كان زينة” في خورس من القديسين الالهيين، فشفى بصلاته عددا كبيرا من المصابين بمختلف الامراض، وذكر في الفصل الحادي والعشرين احد تلامذة مارون وهو يعقوب القورشي، فقد ذهب الى أبعد مما ذهب اليه معلمه فعاش بلا خيمة ولا صومعة ولا كوخ ولا سياج فكان سقفه فيه السماء وحدها وكان يتحمل تقلبات الجو على أنواعها.
كان مارون من نساك انطاكيين الاوائل الذين بدأوا في النسك والرهبنة اذ تبلورت هذه الحياة مع الزمن في اسلوبين عامين: حياة الشركة حيث يعيش الراهب ضمن مجموعة من الشركة يجمعهم نظام شركة تحت قيادة أب روحي. وحياة التوحد والتنسك، اذ يعيش فيها المتوحد منقطعا عن بقية العالم في أغلب أوقاته، فالنسك في انطاكية قديم قبل رهبنة انطونيوس الكبير. ويؤكد المستشرق Voobus وجود جماعات منتظمة رهبانية انطاكية قبل النسك في مصر، ويذكر المؤرخ سوزمو انه وجد في النصف الاول من القرن الرابع اكثر من ثلاثين راهبا نسكوا في سوريا الشمالية والوسطى. ومن الآثار الباقية من الرهبنة الانطاكية القديمة في لبنان مدافن عجلون بين صور وصيدا وهي مغاور مختلفة الحجم أصبحت مناسك للرهبان في اوائل عهد الرهبنة في الساحل اللبناني وهناك آثار أخرى قديمة في وادي قنوبين ومزرعة مندرة (أصل كلمة “مندرة” الكلمة اليونانية “mandra التي تعني رعية او ديرا) قرب تعنايل في البقاع. وايضا توجد بعض المغاور مختلفة الحجم في منطقة البترون.
امتاز النسك في انطاكية بالصرامة منذ نشأته. لدى اجتياز الحاجة اثيؤيا منطقة حران في طريقها الى زيارة الاماكن المقدسة عام 385 تحدثت عن التقائها بنساك مجتمعين للاحتفال بعيد الشهيد البيذيس، حيث بعد انقضاء اللقاء، غادر كل منهم الى قفره ومنسكه، ثم التقت ايضا في تجوالها بالعديد من الرهبان في قلاليهم. ان تنظيم الرهبنة بهذا الشكل وفي هذا الوقت المبكر، يدل على وجود أصول أعمق وأقدم للرهبنة في انطاكية.
يخبرنا القديس يوحنا الذهبي الفم، الذي عاش أربع سنوات في انطاكية وسنتين متوحدا في البراري حولها، عن الكثير من أحوال الرهبان.
خلف لنا ايضا ثيوذوريتوس القورشي، شهادات جزيلة القيمة عن أحوال الرهبان والمتوحدين، خصوصا في كتابه المشهور “التاريخ المصطفى من الله” في عرضه لحياة الكثيرين من النساك، يقول انه في البداية لم تكن أنظمة النسك والرهبنة محددة ومنظمة، بل سادت انظمة مختلفة غير مكتوبة، لكنها معاشة بالخبرة ونابعة منها، ثم يقول “حال الرهبان أخذت تتطور، حيث أخذوا يبنون قلالي افضل، وصار هناك أجنحة جديدة في الاديرة الكبيرة، خاصة للاستقبال او للعناية بالغرباء والمرضى…
اما بالنسبة للنظام الداخلي، فأصبح هناك رئيس الدير ومدبرون لشؤونه المعيشية، وكانت العادة ان يعين الرئيس قبل رقاده خليفة له على رأس الشركة. مما يرويه ثيوذوريتوس ندرك ان الانطاكيين ابتكروا طرائق جديدة في النسك، فنصادف الرهبان “الصامتين” و”الهادئين” و”الذين لا سقف لهم”، ان اكبسيماس حجر على نفسه في قلاية صغيرة مدة ستين سنة، لا يكلم احدا، قضاها في التأمل والصلاة، وكان يد يده من ثقب ليتناول بعض الطعام من تلميذه، ويخرج ليلا، مرة في الاسبوع ليأخذ الماء من نبع قريب، وهو مثقل بحديد كثير.
وثم ان النساء ايضا لم يكنّ غرباء عن هذه الاساليب الشاقة في النسك، كالمتوحدتين مارانا وكيرا. ويشهد ثيوذوريتوس، وهو الشاهد العيان، نوعا اخر من النساك كانوا “لا ينامون” فزعيمهم الكسندروس بدأ حياته الرهبانية حوالي العام (340)، وبعد ان عاش سنوات في دير نسك وحيدا لمدة سبع سنوات اخرى، ثم اسس ديرا على شاطىء الفرات، لم تكن تتوقف الصلوات في هذا الدير ليل نهار، كتعليم الرسول القائل “صلوا بلا انقطاع” (1 تس 5/17)، منظما الرهبان في اربع طغمات حسب جنسهم: يونانيين، لاتين، سوريين، اقباطا وكل جماعة فيها جوقتان، كانت الجوقات الثمانية تتناوب في التسبيح بلا انقطاع، هذا انتقل في ما بعد الى القسطنطينية من انطاكية ، ليؤسس ديرا مشابها هناك.
اراد القديس مارون ان يكون شهيدا وقت السلم بعد ما انقضى عهد الاستشهاد على اثر اعلان الامبراطور قسطنطين 313، فانزل هو نفسه بجسده ما كان ينزله الوثنيون في المسيحيين، واراد ان يتألم كما تألم سيده يسوع المسيح. لذا تكرمه الكنيسة الارثوذكسية تكريما فائقا وتمدحه في صلواتها.