الكنيسة تحبك (2)
القديس يوحنا الذهبي الفم
عظتان عن أتروبيوس
العظة الأولى
هل أباطيل العالم تحبك؟ أباطيل زائلة!!
” باطل الأباطيل الكل باطل” (جا 1 : 2).
يليق بنا دوماً أن ننطق بهذه العبارة، وبالأخص فيما يخص الحياة الزمنية.
أين هي الأمور الباهرة التي كانت تحيط بك كالوالي؟! أين ذهبت المشاغل المتألقة؟! أين هي الرقصات وأصوات أقدام الراقصين والموائد والولائم؟! أين أكاليل الزهور وستائر المسارح؟! أين كلمات المديح التي كانت تقدم لك في المدينة، والهتافات التي تًسمع في ملاعب الخيل وتملق الممثلين لك ؟!
هذا كله قد ذهب… الكل قد ذهب. لقد هبت الرياح على الشجرة فسقط ورقها، وصارت عارية تماماً. واهتزت من جذرها ذاته. إذ هكذا كانت قوة العواصف، حتى صدم كل صغير وكبير فيها، وهدد باقتلاعها من جذرها!!
أين ذهب الآن اصدقاؤك المراءون؟! أين موائد الشرب وولائم العشاء التي كُنت تَقيمها؟! أين حشود المتطفلين والخمور التي تقدمها طوال اليوم، والأطعمة المتنوعة؟! أين ذهب أولئك الذين يخضعون لسطوتك الذين ما كانوا يصنعون شيئاً او ينطقون إلاًّ لينالوا رضاك؟!
لقد صار جميعهم أشبه بخيالات الليل، وأحلام تبددت ببزوغ النهار. لقد كانوا أزهاراً ربيعية زيلت بانتهاء الربيع. كانوا ظلاً وقد عبر. كانوا دخاناً وتبدد. كانوا فقاعات وانفجرت. كانوا نسيج عنكبوت وتهرأ إرباً.
فلنًغن دوماً بتلك الأغنية الروحية ” باطل الأباطيل الكل باطل “. ولنكتبها على حوائطها وثيابنا، في السوق والبيت والشوارع، على الأبواب والمداخل، وفوق هذا أباطيل غاشة:
هذه الأشياء بقدر ما هي خادعة وغاشة الاًّ أنها تبدو لكثيرين أنها حقائق. لذلك يلزم لكل إنسان يومياً، في العشاء والإفطار، وفي كل مجتمع أن يقول لصاحبه ويستمع من قريبه هذا القول المتكرر ” باطل الأباطيل الكل باطل “.
أما كنت أخبرك دوماً أن الثروة ليست إلاًّ عابر طريق؟ لكنك لم تكن تريد الاستماع إليّ. أما كنت أقول لك أن الثروة هي خادم ناكر للجميل؟ لكنك لم تريد أن تصغي إليّ. تأمل كيف تؤكد الخبرة اليومية أن الثروة ليست إلاًّ عابر طريق وخادم ناكر للمعروف، بل ومجرم. إذ تجعلك في حالة خوف ورعب.
الكنيسة تحبك…!!
بين حب الكنيسة وتملق الأشرار:
عندما كنت تنتهرني لكي لا أقول الحق، أما كنت أقول لك: “إنني أحبك أكثر من أولئك الذين يتملقونك. إنني في انتهاري لك أهتم بك أكثر من كل الذين يقدمون لك الاحترام؟”، ألم أكن أقول لك أيضاً: “أن جراحات الأحباء أمينة عن قبلات الأعداء الغاشة” (أم 27 : 6). لو أنك أذعنت لجراحاتي ما كان يمكن لقبلاتهم أن تؤدي بك إلى الهلاك لأن جراحاتي تعمل على شفائك، أما قبلاتهم فتدفع بك إلى مرض يستعصي شفاءه.
أين ذهب حاملوا الكؤوس لك، أين هم أولئك الذين كانوا يهيئون الطريق قدامك في السوق ويصوتون بالهتافات غير المحصية في آذان الكل؟!… لقد هربوا نبذوا صداقتك، ووجدوا سلامهم في حلول الكارثة بك.
أما أنا فما أصنع ما صنعوه، بلى إنني لن أتركك في كارثتك لن أتركك الآن، وأنت ساقط أحميك وأتحنن عليك.
الكنيسة التي كنت تعاملها كعدو تفتح لك حضنها وتستقبلك بينما المسارح التي كنت تتودد إليها والتي بسببها كنت تنازعني تخونك وتهلكك.
والآن فإن الملاعب التي سببت لك غنى عظيماً تستل السيف ضدك، أما الكنيسة التي كنت دائماً تغضب عليها، فإنها تسرع في كل اتجاه في إنقاذك من داخل الشبكة.
وإنني لا أنطق بهذا لكي أقلق نفسك وأنت مطروح على الأرض، إنما أرغب في أولئك الذين لا زالوا قائمين أن يكونوا أكثر أماناً، لا عن طريق تهييج قروح إنسان مجروح، إنما بالحري لكي أحفظ الذين لم يجرحوا في صحة كاملة، لا بإغراق إنسان تصدمه الأمواج بل بتعليم أولئك الذين يبحرون في جو هادئ حتى لا يهلكوا. وكيف يتم هذا؟ بتألمهم في التغير الذي يصيب الشئون البشرية. لأنه ذاك (أتروبيوس) الذي وقف مرتعباً من التغير الذي حدث له، لم يكن له خبرة قبل ذلك ولم يفلح لا عن طريق ضميره كما لم يأخذ بمشورات الآخرين. وأنتم يا من تفتخرون بغناكم أما تستفيدون بما حدث (لأتروبيوس)، إذ لا شيء أوهن من الشئون البشرية.
إنني أعجز عن أن أعبر بدقة عن مدى تفاهة الشئون البشرية (سرعة تغيرها). فإن دعوناها دخاناً أو عشباً أو حلماً أو أزهاراً ربيعية، أو أي لقباً آخر، فإنه هكذا هي أمور هالكة بل وأقل من العدم. بل وبالإضافة إلى كونها عدم فإن لها عنصر خطير جداً تؤكده. لأنه أي إنسان كان أكثر عظمة من هذا الرجل (أتروبيوس)؟ ألم يفوق العالم كله في الغنى؟! ألم يتسلق إلى برج الرفعة ذاته؟! ألم يكن الكل يخافه ويرتعب منه؟! آه ولكنه مع ذلك ألم يصير أكثر بؤساً من السجين، ويرثي به أكثر من العبد الدنيء، وأكثر إعساراً من الفقير المتضور جوعاً؟! إذ يرى كل يوم منظر السيوف الحادة ومنظر إجرام القاتلين والمعذبين يقودونه نحو موته. وهو مع هذا لا يعرف إن كان قد سبق وفرح ولو مرة واحدة في الماضي، وبل ولا يشعر حتى بأشعة الشمس. إنما في وسط النهار يكون نظره معتماً كما لو أن ظلاماً دامساً قد أكتفه. وإنني سأحاول قدر المستطاع، رغم عجز اللغة البشرية أن أعبر عن الآلام التي يخضع لها طبيعياً إذ يتوقع الموت كل ساعة.
ولماذا أعبر عن ذلك بكلمات من عندي، إن كان هو بنفسه قد وسم لنا صورة منظورة، إذ بالأمس لما جاءوا إليه يطاردونه بالقوة هرب ليلتجئ في مكان مقدس. وكان وجهه لا يختلف عن هيئة إنسان ميت. وصرير أسنانه وارتجاف كل بدنه ورعدته، واضطراب صوته وتلعثم لسانه، بل وكل مظهره العام يكشف عن روح مضطربة
أيتها الكنيسة… حبي الجميع!!
حبوا أعداءكم:
إنني أنطق بهذه الأمور، لا لتوبيخه (أتروبيوس)، أو لكي نشمت بمصيبته إنما لأجل بلطيف أذهانكم من جهته… فإنني استعرض آلامه رغبة في تليين قسوة قلبكم بحديثي.
أخبرني أيها الأخ الحبيب، لماذا تخاصمني؟ قد تقول لأن ذاك الذي كان يشن حرباً ضد الكنيسة أوجدت له ملجأ في داخلها. ومع ذلك يلزمنا بالتأكيد في الدرجات العليا أن نمجد الله الذي سمح له أن يوضع في هذا الضيق العظيم حتى يختبر قوة الكنيسة وعطفها. قوة الكنيسة حيث يعاني هذا التغير العظيم (الضيقة) نتيجة هجومه عليها. وعطفها حيث يرى أن التي كان يحاربها هي الآن تحميه، وتقبله تحت جناحيها وتحفظه في أمان تام غير مستاءة من الأضرار السابقة التي وجهها ضدها بل تحبه بالأكثر فاتحة أحضانها له.
في هذا يكون للكنيسة مجد أعظم بكثير من أي نوع من أنواع النصرة. إنه نصر لامع يخجل الأمم واليهود، إذ في هذا يظهر أروع عمل من أعمال الكنيسة. إنها بذلك تكون قد أسرت عدوها (بالحب) وقتلته (أبادت عداوته).
فبينما الكل يحتقره في دماره، إذ بالكنيسة وحدها كأم حنون تخبئه تحت ساعتها [7 ]، مهدئة غضب الملك وهياج الشعب وكراهيتهم التي تغلي ضده. هذا هو زينة المذبح (أن تحب الكنيسة من يعاديها ويقاومها). نقول إنه نوع جديد من الزينة(الحلي)، عندما يسمح للخاطئ المتهم والذي يبغضها، اللص أن يتمسك بالمذبح.
بلى، لا تقل هذا، بلى وأكثر من هذا أن الزانية أمسكت بقدمي يسوع، تلك التي وصمت بأنجس خطية وأكثرها كرهاً. ومع ذلك فإن يسوع لم ينتهر عملها. بل بالحري أعجب منه ومدحه لأن المرأة الشريرة لم تؤذ نقاوته بلمسها ذاك البار الذي بلا خطية.
لا تتذمر إذن أيها الإنسان. فإننا خدام للمصلوب القائل “اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ما يفعلون” (لو 23 :34).
بركات محبة الأعداء.
لكنك قد تقول: ألم ينزع: أتروبيوس حقه في الالتجاء هنا بواسطة قوانينه وشرائعه المختلفة؟!
نعم. لكنه يتعلم بالخبرة ما قد صنعه، وسيكون هو بأفعاله أول من يكسر قوانينه (ضد الكنيسة)، ويصير مشهدا للعالم كله، وبالرغم من صمته فإنه ينطق بصوت عالٍ محذراً الجميع قائلاً : ” لا تفعلوا ما قد فعلته أنا، حتى لا تعانوا مما أعانيه”.
إنه في نكبته يصير معلماً، وينال المذبح مجداً عظيماً، موحياً برهبة عظيمة في ذلك الأمر: إذ قد امسك الأسد(أتروبيوس) أسيراً (بخضوعه للكنيسة). لأنه هل تتجلى المملكة بالأكثر عندما يجلس ملكها على عرش ويرتدي الأرجوان ويلبس الإكليل، أم بخضوع الملوك المتبربرين تحت أقدامه، مقيدة أيديهم خلف ظهورهم، منكسين رؤوسهم؟!
وإذ ليس لي براهين مقنعة أقدمها (عن نفع محبة الكنيسة لمضايقيها)، فإنكم أنتم بأنفسكم لشهود عن حمية الشعب وتجمهرهم إذ مشهد اليوم بالحق واضح أمامنا، وعظيم هو هذا الاجتماع إذ أراه كما لو كنا في عيد الفصح.
هكذا فإن هذا الإنسان يعظ دون أن ينطق بكلمة، ويتكلم بأعماله بصوتِ أعلى من صوت بوق.
اليوم يحتشدون جميعاً هنا، من خادمات هاربات، وربات بيوت ورجال سوق… وترون أن الطبيعة البشرية مدانة (أن الكل مخطئ). ويتأكد لكم عدم ثبات أحوال العالم، ووجه الزانية (المظاهر الخادعة) الذي كان منذ أيام قلائل متلألئ، يظهر لكم أنه أقبح من وجه أي عجوز وجهها مجعد. أقول لكم أن هذا الوجه ترونه وقد أزيلت عنه الألوان والأصباغ التي هي من وضع العدو كما بإسفنجه (تطلى بها ألوان الوجه).
1. درس للأغنياء المُتكلين عن غناهم:
هكذا هي قوة هذه الكارثة، أظهرت أن إنساناً عظيماً ومشهوراً كان أكثر الناس تفاهة. لذلك إن دخل غني في هذا الاجتماع ينتفع كثيراً من هذا المنظر، إذ يرى (أتروبيوس) الإنسان الذي كان يهز العالم قد انسحب من علو تشامخ سلطته، راكضاً على ركبتيه في خوف، أكثر رعباً من الأرنب البري أو الضفدعة، مسمراً على عمود هناك بلا ربط، لأن خوفه يقوم بما تقوم به القيود، فيرتعب الغني وينكسر تعاليه ويتنازل عن كبريائه طالباً الحكمة الخاصة بالأعمال البشرية، مستخلصاً تعليماً من مثل عملي، عن درس يعلمنا إياه الكتاب المقدس موصياً ” كل جسد عشب، وكل جماله كزهر الحقل. يبس العشب ذبل الزهر ” (إش 40 : 6). أو ” فإنهم مثل الحشيش سريعاً يقطعون، ومثل العشب الأخضر يذبلون” (مز 37 : 2). أو ” أيامي قد فنيت في دخان ” (مز 102 : 4). وكل العبارات التي من هذا النوع.
2. درس للفقراء:
مرة أخرى فإن الفقير عندما يدخل هذا الاجتماع ويتأمل هذا المنظر لا ينظر إلى نفسه بدناءة، ولا يسب نفسه بسبب فقره… انظروا إذن كيف أن الغني والفقير، العالي والصغير المركز، العبد والحر، الكل ينتفع ليس بقليل من التجاء هذا الرجل إلى هنا؟! تأملوا، كيف يخرج كل واحد من هنا معه دواء، إذ يشفي بمجرد تطلعه لهذا المنظر؟!
حسناً !! هل هدأت من غضبكم وأزلت حنقكم؟! هل أزلت قساوتكم؟1 هل جذبتكم نحو الترفق؟! إنني أظن إنني فعلت هذا، وها هي هيئتكم وغزارة دموعكم التي تسكبونها تشهد بذلك.
3. ليكن لكم ثمرة الرحمة:
إذ قد تحولت صخرتكم الصمّاء إلى تربة عميقة مخصبة، فلنسرع إذن بحمل ثمر الرحمة، ونظهر محصولاً وفيراً من العطف، باستعطافنا الإمبراطور من أجل أتروبيوس، أو بالإحري بإعلان مراحم الله حتى نسكن غضب الإمبراطور، ونجعل قلبه مترفقاً… فإن الإمبراطور لما عرف بأنه أسرع إلى هذا المأوى، فبالرغم من وجود الجنود الثائرين بسبب أفعاله الشريرة وطلبهم أن يُسلم للإعدام، فإن الإمبراطور تكلم كثيراً مهدئاً غضبهم، طالباً منهم أن يأخذوا في اعتبارهم لا أخطاءه فحسب بل وكل عمل صالح صنعه، معلناً أنه يشعر بالامتنان من أجل أعماله الحسنة، وأنه مستعد أن يسامحه عن الأولى كمخلوق زميل له. وعندما أثاروه مرة أخرى للانتقام بسبب سبه له، صارخين وواثبين ملوحين برِّماحهم، مسح الإمبراطور عواطف الدموع من عينيه الوديعتين مذكراً إياهم بالمائدة المقدسة التي هرب إليها الرجل محتمياً، وأخيراً نجح في إخماد غضبهم.
4. اغفروا يُغفر لكم:
علاوة على هذا، اسمحوا لي أن أضيف بعض البراهين بخصوصنا نحن، فإنه أي عذر نقدمه إن كان الإمبراطور لا يحمل أي غيظ عندما يُشتم، بينما أنتم الذين لم يصبكم شيئاً تحنقون؟!
وكيف بعدما ينتهي الاجتماع تقتربون إلى الأسرار المقدسة، وتكررون تلك الصلاة… قائلين “اغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضا للمذنبين إلينا” (مت 6 : 12) … إنه ليس وقت الدينونة بل للرحمةً. ليس لنا أن نطلب الحساب بل نظهر الحب. ليس لنا أن نستقصي الدعاوى بل نتنازل عنها. ليس وقت للحكم والانتقام بل للرحمة وعمل الصلاح.
إذن، لا يثر أحد ولا يغتاظ، بل لنطلب مراحم الله أن تمهله عن الموت، وان تنقذه من الهلاك المحدق به، حتى يتوب عن خطاياه، وأن نتحد مقتربين من الإمبراطور الرحوم متوسلين إليه من أجل المذبح، مقدماً حياة هذا الرجل كتقدمة للمائدة المقدسة…