المقدّمة
سمَّت الكنيسة غريغوريوس اللاهوتي بغريغوريوس اللاهوتي الجديد، وسمَّت سمعان اللاهوتي بسمعان اللاهوتي الجديدلأنهما تكلَّما في اللاهوت بصورةٍ جيدة.كانا شاعرانِ بارعانفجعلا النُطقَ باللاهوت شِعراً وتسبيحاً وتمجيداً للإله.
رومانوس المرنّم الحمصي كان أكبر شاعر مسيحي في اللغة اليونانية. شِعرهُ أناشيدَ لاهوتية عقائدية، تسبيحٌ وحمدٌ وشكرٌ لله. يوحنا الدمشقي وصديقه قوزما حوّلا العقائدَ إلى أناشيد دينيةوأفرام السرياني كان شاعر التوبة الكبير. حتى باسيليوس الكبير نفسه في كتابَيه “الأيام الستة” و”في الروح القدُس” سبّحَومجّدَ الله مُدهشاًبأعمالهِ.
عاش الآباء القديسون اللاهوت، ونظَموهُ شِعراًيُسبّح ويحمدُ الله ويمجّدهُ. هكذا يكون التكلُم باللاهوت. اللاهوت لا يُكتَب كما تُكتَب كتُب الفيزياء والكيمياء والطب والرياضيات وكل العلوم. اللاهوت ليس صِنعة العقل والفكر فقط. اللاهوت حياةٌ يعيشُها الإنسان بكل كيانهِ، أي بفكرهِ وقلبهِ وإرادتهِ ومشاعرهِ ومظاهرهِ وأفعالهِ وحركاتهِ وسكناتهِ. ثنايا كل كيانِه تندمج باللاهوتفيُصبح اللاهوت هو الإنسان والإنسان هو اللاهوت. المسيحي الحقيقي هو لاهوتيٌّ لأنهُ يعيش اللاهوت في فكرهِ وحياتهِ وصلاتهِ وحركاتهِ وأفعالهِ. صار اللاهوت يخرج منهُ ويرشحُ من كل كيانه.
سِرتُ في هذا الكتاب على هذا النَهج بنسبةٍ كبيرة فتخلَّلهُ التسبيحَ والحمدَ والشكرَ والإعجابَ بالله.
نحن اليوموبعد قرونٍ من الفراغ، نحتاجُ إلى التجديد في الكرسي الأنطاكي. ما كلُّ مَن تناولَ القلم صار لاهوتيّاً.مَن تناولَ القلم ليكتبَ في اللاهوت، عليه أن يتناولهُ بمخافةِ الله وبرهبة،وعليهالخضوع للنظام العام في الكنيسة أي الخضوع للتقليد. مَن تناولَ القلم،عليه أن يكونَ راسخاً في تقليد الكنيسة،فتقليدُ الكنيسة هو الذي يحفظ الإنسان من الزلَل. التضلُّع من آباء الكنيسة والمجامع المسكونية المقدّسة يتطلّب جهوداً جبّارة كبيرة ونُضجاً، والنضوج لا يتولَّد خلال سنوات إنما يتطلّب العمر. يفنى العمر ولا نحصل على نضوجٍ سليمٍ مئة في المئة، نبقى دائماً على شفير الهاوية.
التكلُّم باللاهوت يتطلّب الإمتلاء من الروح القدُس لا المعرفة النظرية الصِرفة. آرناك، بولتمان والعُلماء الألمان هم عُلماء مدقّقون ولكنهم كفَروا بالإيمان المسيحي فتكلّموا كلاماً لا معنى لهُ. السخافات في كتاباتهم عديدة وطرُقهم في الدراسة والتأليف سخيفة.
الكتاب المقدس إسمهُ الكتاب المقدس. بولس وبطرس قالا إن الكتاب موحى بهِ من الله. فإذاً هو كتابُ الوَحي الإلهيولا يجوزُ أَن نُعاملهُ معاملةَ الكتب الأخرى. ندرسُ الكتاب المقدس ونحنُ مؤمنون بأنهُ هو كتابُ وحيٍ، ونفسّرهُ على أساس أنهُ وحيٌ. نطالعُ كتابات الآباء القديسين بإيمانٍ لأنهم رجال الله الممتلئونَ من الروح القدُس. نحن نكتب اللاهوت بإيمانٍ كبير، نكتبُ اللاهوت ونحن ممتلئونَ من الإيمان التقليدي الآبائي الذي توارثناهُ منذ عهد الرسل حتى الآن بأمانةٍ تامة.
المجامع المسكونيةهي أعمدة الكنيسة السبع. غريغوريوس بالاماس هو الممثّل الأكبر للتراث الآبائي بعد يوحنا الدمشقي. وسمعان اللاهوتي الجديد المتوفي في العام ١٠٢٢ أعجوبة من أعاجيب الله على الأرض.إستنارَ ولمعَ وتجلّى كما تجلّى المسيح على جبل التجلّي. الروح القدُس موجودٌ في تراثِ الكنيسة والكنيسة تتمثّل بالقديسين.
نطلبُ في الكَتَبة الدينييّن شيئاً من القداسة والإيمان. ليس المهم أن نكتبَ بل أن نستلهمَ الروحَ القدُس في كتاباتنا. علينا أن نُرَسَّخ أوَّلاً في تراثِ الكنيسة، أن نعرف المجامع المسكونية، أن نعرف آباء الكنيسة القُدامى، أن نطَّلع على لاهوتِ بالاماس، أن نُدقّق في يوحنا الدمشقي وأن نلتهمهُ التهاماً، وأن نُطالع الكتب الطقسية. في المعزّي مثلاً والتريودي والبندكستاري مفاهيمَ لاهوتية رائعة، فالأناشيد ممتلئة من المفاهيم الدينية واللاهوتية. في الميناون أيضاً، في الأعياد السيّديّة لاهوتٌ كبير في تراتيل الميلاد والظهور الإلهي والقيامة ورفع الصليب ودخول السيّد إلى الهيكل وسوى ذلك. كلُّها روائع من روائع الدمشقي ورفيقه كوزما.
هذا الكتاب في النهاية مشبَعٌ من روح الآباء القديسين والمجامع المسكونية. لا أفتخر إلا بكَوني أصغر التلاميذ، الوفي الأمين لتراثهم، الوفي الأمين للتراث الأرثوذكسي التاريخي، الوفي الأمين لباسيليوس وغريغوريوس ويوحنا فم الذهب وسواهم، على مذهب آباء جبل آثوس. أنا إبن هذا التراث ولي الفخر الكبير بأن أكونَ قد ارتويت على أقدام هؤلاء الآباء القديسين واستلهمتُ من كتاباتهم.
أسأل الله أن يُنعِمَ أصحاب الأقلام في الكرسي الأنطاكي باللجوء إلى الآباء القديسين والمجامع المسكونية وكل التراث الأرثوذكسي في كل ما يكتبون، وأنصحُهم أن يتضلَّعوا بالتمام من هذا التراث.وبدون التضلُّع من هذا التراث، أخطاءٌ فاحشة تُرتكَب. لا يجوز أن يمسكَ كل ناشىءٍ القلم ليكتبَ اللاهوت وهو غير متضلِّعٍ.يبقى التضلُّع هو الأساس.
وفّقَنا الله منذ خمسةٍ وثلاثين سنة إلى البدء بنهضةٍ لاهوتية أدبية. هذه النهضة تحتاجُ إلى التعميق والتوسُع وتحتاجُ أيضاً إلى اهتمام الشعب برمّتهِ. شعبٌ غيرُ مثقّفٍ دينيّاً هو شعبٌ سطحيٌّ دينيّاً وفكريّاً وثقافيّاً. المسيحية فكريّاً، هي فكر الله. المسيحية هذَّبت أفلاطون وأرسطو وسقراط والفلسفة اليونانية وجرّدَتها تجريدًا كاملاً، بل سلَخت جلدَها سلخاً تامّاً.
الروحانية الأرثوذكسية روحانية إلهية سماوية وليست أرضية. ليست نظريّات وتحليلات عقلية على طريقة أفلاطون وأفلوطين. المتصوّفون الأرثوذكسيون لا يحلّلون كما يحلّل أتباع أفلاطون وأفلوطين. التصوّف الأرثوذكسي ذو نظرة سماوية إلهية خاصة تميّزهُ كليّاً من التحليلات العقلية. ليس بالتصوّف الأرثوذكسي عقلانية بل روحانية. هذا أمرٌ دقيقٌ جداً يحتاجُ إلى إمعان النظر الكبير للتفريق بين الروحانية الأرثوذكسية والصوفية الأرثوذكسية وسواها.
إمعانُ النظر يجعل المرءُ يفرِّق سريعاً بين هذا وذاك، ومتى ابتدأَ بالتحليل العقلي والمفاهيم العقلية كان أفلاطون وأفلوطين حاضرين، ومتى بدأت الصلوات والإبتهالات والتخشُعات والإرتفاعات الى الله كانت الصوفية الأرثوذكسيَّة. الصلاة في الروحانية الأرثوذكسية هي الألف والياء. يخرجُ الإنسان من هذا العالم في الصلاة ليرتمي في أحضان الله ويمتلىء من الروح القدُس، أي أنه يعيش في الروح القدُس. الروحانية الأرثوذكسية غير مرتبطة بالفلسفةوالفيلوكاليا الأرثوذكسيَّة بعيدةٌ كل البُعد عن التحليل العقلي، الفيلوكاليا كتابٌ كلُّه حياة في الله.
الحياة في الله هي العمقُ الأُرثوذكسي الكبير. ما كَتبتُ اللاهوت وما كتبتُ في الدينيّات لأتفلسف، كتبتُ ليمتلئَ الناس من الإيمان ولأهدي الهرطقات إلى الإيمان الأرثوذكسي الصحيح. في كتاباتي دفاعاتٌ عن الإيمان الأرثوذكسي وليسَ المقصودُ منها التهجّم أبداً. الهِدايةُ عندي هي الأهم لأني أريد كما قال بولس الرسول أن يَخلُصَ الناس. أريدُ أن يَخلُصَ الناس وأن يُقبِلوا إلى معرفةِ الحق.
تسبيح الله وتمجيدهُ في كتاباتي وفي حياتي هو الأمرُ الرئيسي. أنا لم أصِل ولن أصِل. سأبقى إنساناً قابعاً في قعر الجحيم حتى ينتشلَني منها الرب يسوع. لا أرجو خيراً من نفسي فإني أعرفُ ذاتي أني إبن الجحيم، ولكن دمُ يسوع المسيح قادرٌ على تطهيري من كل رجاسةٍ. فإليهِ وحدَهُ أتوجهُ لكي ينتشلَني من قعر الجحيم، من هوَّة الهلاك، لكي يغسِلَني بدمهِ الكريم الطاهر ويؤهِلني لملكوتِهِ السماوي الذي أرجوهُ بحرارةٍ فائقة. أسألهُ أن يجعلَ هذه الحرارة ناراً حاميةً لكي أصِلَ إليهِ تائباً خاشعاً نادماً ساجداً راكعاً مسبِّحاً وممجّداً، لأنالَ منهُ بعد مغادرة هذا العالم النورَ الإلهي الفائقَ الوصف.
فيا أيها الآب القدوس والإبن القدوس والروح القدُس القدوس، طهّرني من كل رجاسةٍ وأنعِمْ على المطالعين بأن يصيروا أبناءَ النعمة وأن يهتدوا جميعاً إلى معرفةِ الحق، ويعبُدوا الله بمخافةٍ كل أيام حياتهم مسبّحين لك وممجّدين لينالوا منكَ المجدَ الأبدي بشفاعة سيدتِنا والدة الإله وجميع القديسين، آمين.