ماهية الدينونة
ماهية الدينونة
الدينونة في هذه الحياة
الدينونةهي انّ الانسان، في كل لحظة من لحظات حياته أوّلاً، ثم لدى موته أخيراً، يواجه الحقيقة التي تدعوه الى التزام الخير. ودينونته تبدأ على هذه الأرض في موقفه تجاه الحقيقة. ولكن ما هي الحقيقة؟
قد يبدو للبعض أنّ الحقيقة أمر مهبهم غامض، ولكنّ الايمان المسيحي يرى أنّ الحقيقة ليست لفظة مبهمة؛ انها الله نفسه، والله ليس كائناً مبهماً، فلقد ظهر في واقع الزمن والتاريخ في شخص يسوع المسيح الذي نؤمن به ابن الله وكلمة الله وصورة الله. بهذا تتميّز المسيحية عن سائر الديانات التي تؤمن أيضاً بالدينونة الأخيرة. ففي المسيحية، الحقيقة التي ستدين العالم في نهاية الأزمنة قد أتت في الزمن لتخلّص العالم، وقد أعطت ذاتها حتى الموت في سبيل هذا الخلاص. لذلك فانّ الدينونة، في نظر المسيحية، هي أولاً محبة وخلاص.
لذلك لا نستطيع الفصل بين مجيء يسوع الأوّل وموته وقيامته ومجيئه الثاني؛ انها مراحل متعددة من سر واحد هو سر محبة الله التي تنسكب على الانسان لتمنحه الحياة والفداء والخلاص. والدينونة ترافق كسل مراحل هذا السرّ. فمن يؤمن بأنّ يسوع هو المسيح كلمة الله، لا يُدان، ومن لا يؤمن فقد دِيْنَ.
لذلك أيضاً لا تقتصر الدينونة على نهاية العالم، ولا حتى على موت الانسان، لأنّ الموت الحقيقي ليس موت الجسد بل رفض الايمان بالمسيح. ومن يؤمن بيسوع لا يموت. قال يسوع: "أنا القيامة والحياة. من آمن بي، وان مات، فسيحيا؛ وكل من كان حياً وآمن بي فلن يموت أبداً" (يو 11: 25، 26). كلّ من يؤمن بيسوع في حياته لن يعرف الموت، لأنّ إيمانه بيسوع يمنحه الحياة، ولن يكون موته الا انتقالاً من الحياة الحاضرة الى الحياة الأبدية.
الدينونة بعد الموت
انّ الدينونة بعد الموت ستقتصر على "الذين عملوا السيّئات". امّا المؤمنون بالمسيح "فلن يخضعوا للدينونة"، حسب قول يسوع في انجيل يوحنا: "الحق الحق أقول لكم: إن من يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني له الحياة الأبدية، ولا يخضع لدينونة، لكنّه قد انتقل من الموت الى الحياة. الحق الحق أقول لكم: انها تأتي الساعة -وها هي ذي حاضرة- التي يسمع فيها الأموات صوت ابن الله، والذين يسمعون يحيون. فكما أن الآب له الحياة في ذاته، كذلك أعطى الابن أن تكون له الحياة في ذاته، وآتاه سلطاناً أن يدين لأنّه ابن البشر. فلا تدهشوا من هذا، لأنها تأتي الساعة التي يسمع فيها جميع من في القبور صوته، فيخرجون منها. فالذين عملوا الصالحات ينهضون للحياة، والذين عملوا السيّئات ينهضون للدينونة" (يو 5: 24- 29)
على أيّ شيء ستقوم دينونة الذين عملوا السيّئات؟ ان الانسان، لدى موته، يواجه الحقيقة مواجهة صريحة لا مواربة فيها. عندئذٍ تنزع عن عينيه الغشاوة التي كانت تفسد أمامه الرؤية، ويسقط من أمام وجهه القناع الذي كان مستتراً وراءه، فينكشف كما هو أمام الحقيقة. وتلك ستكون دينونته. هذا ما يصفه أحد اللاهوتيين المعاصرين بلغة وجودية، فيقول:
"ان مجرّد انتصار الخير على الشر يكوّن الحكم الساحق على الذين يمارسون الشر. انهم قد أخطأوا هدفهم، وحياتهم، التي فقدت معناها، قد آلت الى العدم. انّ عبث حياة قُضيت في الشر لهو أردأ عقاب. حياة كهذه تنتهي وفق ما جاء في المزمور: "كحلم عند الاستيقاظ، أيها السيّد، تحتقر خيالهم في المدينة" (مز 72: 20). ان إدراك الانسان ذاته قد سقط في أقصى العبث وغرق في العدم والتلاشي. ذاك هو مصير الذين يرفضون محبة الله ويرفضون دعوته الى الحياة".
ثم يضيف الكاتب: "ولكن ما العلاقة بين هذا كلّه ومجيء المسيح الذي يترقبّه المؤمنون؟ ربمّا تتضح لنا تلك العلاقة، اذا تأمّلنا قول بولس الرسول: لا تحكموا بشيء قبل الأوان، الى أن يأتي الرب. فإنه هو الذي سينير خفايا الظلام، ويوضح أفكار القلوب، وحينئذٍ يكون لكل واحد مدحه من الله (1 كور 4: 5). بقولنا انّ المسيح سيأتي ليدين الأحياء والأموات نؤكد يقيننا ان كل ما هو خفي سيظهر كل ما هو مكتوم سيعلن (متى 10: 26) بواسطة المسيح الذي هو نور الله وحقيقة الله".
إمكانية جهنم
في لحظة الحقيقة هذه، هل من مجال بعد للتوبة والاختيار؟ يرى بعض اللاهوتيين المعاصرين انّ الموقف الذي يقفه الانسان من الحقيقة في هذه الحياة موقف معرّض للخطأ. والحرّية التي بها يختار الشرَّ حرّية ناقصة مجزّأة مشوّهة. "الموت وحده يتيح للانسان امكان أوّل عمل له يقوم به بملء حرّيته واختياره. فهو اذاً الوقت المناسب الذي يستطيع فيه الانسان ملاقاة الله وتقرير مصيره الأبدي". انّ الانسان، بموجب تلك النظرية، لا يمكنه، في أثناء حياته على الأرض، أن يرى الحقيقة رؤية واضحة. لذلك فانّ اختياره الشرّ اختيار غير حرّ وغير واعٍ، ولا يمكنه من ثمّ تقرير مصيره الأبدي استناداً الى هذا الاختيار.
تعليقاً على هذا الافتراض اللاهوتي، نكتفي بالعودة الى قول بولس الرسول الذي ذكرناه سابقاً: "لا تحكموا بشيء قبل الأوان…" (1 كور 4: 5). فلنترك لله أن يحكم على سلوك الانسان وعلى مدى حريته. ان امكان رفض الله رفضاً مطلقاً، ومن ثمّ امكان اختيار طريق الهلاك والعدم في ما يدعوه التقليد "جهنّم"، يجب أن يبقى امكاناً مفتوحاً أمام الانسان ، وذلك لضمان اختياره الله اختيارا حرّاً. ولكنّه يبقى امكاناً نظرياً. أمّا الخلاص بالمسيح، الخلاص الشخصي للانسان، والخلاص للبشرية بمجملها، فهو يقين ثابت. وهذا هو موضوع إيماننا بالمجيء الثاني. انّ تاريخ البشرية والعالم صائر الى الحياة مع الله.