يقول يوستينوس: "في اليوم المدعو بيوم الشمس نجتمع في مكان واحد, ويقرأون من أقوال الرسل ومن كتابات الأنبياء.. ولما ينتهي القارئ يعطي الرئيس الإرشادات بواسطة الكلمة.
إن حضور المسيح في الافخارستيا حضور فاعل، كما أنّ الإنجيل هو "الخبز النازل من السماء"، فانه كما قال يسوع: "من يأكل جسدي ويشرب دمي له حياة أبدية" (يو6: 23)، وقال أيضاً" : من يسمع كلامي .. له حياة أبدية" (يو5 :24.)
الله يهب ذاته لنا "فهو قد أحبنا أولاً".. ويسوع يفتح ذهن الأغبياء, وآذان الصم, وأفواه البكم, وعيون المكفوفين, ويشفي المقعدين, إنه الكلمة التي يتأملّها المؤمن بفرح ودهشة وإعجاب بكل ما قاله يسوع وعمله, ويطلب من الرب أن "أشرق في قلوبنا نور معرفتك".
الكلمة تخلق الليتورجيا في الكنيسة. إنها حياة الحي القائم من بين الأموات تنصب في الكنيسة بفعل الروح الذي يحركها ليبدأ العبور إلى ما بعد التاريخ. فبعد تجسد الكلمة في التاريخ تحملنا الليتورجيا إلى سرّ الفداء في يسوع المسيح الممجد, إلى استقبال الرب الآتي،ملك الكل, مصلوباً في الخبز والخمر, مزفوفا من المراتب الملائكية بحال غير منظور. فحضوره هو حضور الإله الغير الموصوف الذي لا يحده العقل, غير المنظور والدائم الوجود.
إن حضور المسيح في الافخارستيا هو حضور حقيقي.. فهي تتطلب الذكرى لكل تاريخ الخلاص وفي وسطه الصليب المحيي, الصليب الفصحي، والقيامة المجيدة. إنّ هذه الأحداث المطبوعة في "ذاكرة" الله, تؤوِّنها ذاكرة الكنيسة لتجعلها حاضرة وفاعلة. وما الاحتفال بها في القداس الإلهي، كوحدة متكاملة في كافة أقسامه، سوى استدعاء للروح القدس (Epiclèse)، يزداد كثافة وعمقاً في صلاة التقدمة. إن كلمات التأسيس بحدّ ذاتها لا تحوي على قوة سحريّة, فليس من لحظة محدّدة لـ"استحالة" الخبز والخمر إلى جسد ودم المسيح بل الزمن الافخارستيّ كلّه زمن عمل الروح, وليس الكاهن هو الذي يستحضر المسيح الممجد, وإنما حضوره هو سرّ من أسرار النعمة الإلهية "فهو المقرَّب والمقرِّب".
إن كلمة الله التي خلقت الكائنات وثبتت معناها العميق هي نفسها التي تعطي الخبز والخمر المقربين على مائدة الرب كيانهما ومعناهما الجديد. وحضور المسيح في الافخارستيا ليس فقط عمل إيمان الإنسان, بل إنه يسبق الإنسان ويسبق إيمانه. إنها المعجزة الدائمة في الافخارستيا والتي تفوق كل إدراك بشري, وهي صورة لتجلي المخلص على جبل ثابور, فليس المسيح هو الذي يتغير, بل أعين الرسل التي تنفتح زهاء لحظة لترى بهاء الرب. ونطلب من الرب "افتح حدقتي ذهننا لفهم تعاليم إنجيلك..( افشين ما قبل الانجيل)".
يقول يوحنا الدمشقي: "فكل ما صنعه الله إنما صنعه بفعل الروح القدس, من الخلق إلى تجسد الكلمة, إلى قيامة المسيح. ولكن الله، الذي يعرف الضعف البشري ويعرف أن طبيعتنا تنفر غالبا مما ليست معتادة عليه وتستصعبه, قد تنازل لها كما هو من شأن مراحمه وأعطاها ما يعلو على الطبيعة بما اعتادت الطبيعة..".
يقول مكسيموس المعترف: "إن الافخارستيا تحوّل المؤمنين إلى ذاتها، فهي اتحاد البشر بالمسيح لتقديس نفوسهم وأجسادهم, وهذا الاتحاد لا يتم إلا بالروح".
"بما أن الخبز واحد, فنحن الكثيرين جسد واحد لأننا نشترك في الخبز الواحد" (1كورنثوس10 :17). فالافخارستيا هي عمل الكنيسة بمجملها أي شعب الله, وبواسطة الخبز والخمر في الافخارستيا نصبح جسد المسيح. إن الاشتراك يكون "الشركة" التي هي اتحاد حقيقي في جسد المسيح ودمه. وكما أن واقعية الخبز ترينا واقعية جسد المسيح التام والكامل, فوحدة الخبز تظهر وحدة الجسد. إن التلاميذ الذين التأموا في العنصرة, التأموا في الافخارستيا التي بواسطتها يصبحون" في المسيح" أي يصبحون في جسده وهو بدوره يكون فيهم, وبه أيضا يسكنون في الآب، الذي يصلّي يسوع له من أجلهم: "لكي يكونوا بأجمعهم واحداً, فكما أنك أنت أيها الآب فيّ وأنا في, فليكونوا هم أيضا فينا" ( يوحنا17 :21.)
لذلك الكنيسة الواحدة الجامعة المقدسة الرسولية تظهر في ملئها في الجماعة الافخارستية التي يرأسها الأسقف الذي يفوض كهنته مهمة تمثيله في مختلف الرعايا, والذي لكونه صورة المسيح, يجعل شعب الكنيسة المحلية يأتلف في جسد افخارستي. فالكنيسة إذا هي في الأسقف ولكن الأسقف من جهته هو في الكنيسة كخادم لشركتها .
فالكنيسة هي نقطة التلاقي بين الخط العامودي الذي هو البعد الإلهي, والخط الأفقي الذي هو البعد الإنساني". وما الافخارستيا سوى السرّ الذي يجعل الكنيسة متصلة مع نهاية الزمن، بحيث أن يوم الاحتفال بها يحمل الاسم عينه الذي يطلق على المجيء الثاني: "يوم الرب.