الثالوث الأقدس
للقديس غريغوريوس النزينزي
1ـ إن الله غير مُدرَك بعقولنا البشرية :
+ لا يوجد الإنسان الذي اكتشف أو يستطيع أن يكتشف من هو الله في الطبيعة أو الكنه.
+ كان يمكن أن يحاط الله بالكلية لو كان في الإمكان حتى أن يدرك بالفكر لأن الإدراك هو صورة من صور الإحاطة.
+ كل ما يصل إلينا ما هو إلا فيض ضئيل من نور عظيم. حتى إن كان أحدٌ قد عرف الله أو نال شهادة الكتاب المقدس عن معرفته لله، فلنفهم : إن مثل هذا الشخص قد نال درجة من المعرفة تجعله يبدو أكثر استنارة عن الآخر الذى لم يحظَ بنفس القدر من التنوير.
2 ـ الصفات الأقنومية للأقانيم الثلاثة المتمايزة للثالوث الأقدس :
+ دعنا نلتزم بحدودنا ونتكلم عن “غير المولود” و”المولود” و”ذاك الذي ينبثق من الآب” كما قال الله الكلمة نفسه في أحد المواضع.
+ هذا هو ما نقصده من “الآب” و”الابن” و”الروح القدس”. الآب هو الوالد والباثق، بلا ألم طبعاً وبلا إشارة للزمن، وليس بطريقة حِسّية. والابن هو المولود، والروح القدس هو المنبثق.
3 ـ أزلية الابن والروح القدس :
+ “متى جاء هذان إلى الوجود؟” “إنهما فوق كل “متى” بل إذا تكلمت بأكثر اجتراء لأقول ومتى نجد الآب. متى جاء الآب إلى الوجود؟ لم يكن أبداً وقت لم يكن فيه الآب. ونفس الشيء صحيح بالنسبة للابن وللروح القدس. ولتسألني مرة تلو المرة، أجيبك. متى ولد الابن؟ حينما لم يولد الآب، متى انبثق الروح القدس؟ حينما لم ينبثق الابن بل ولد -خارج دائرة الزمن وفوق قبضة (استيعاب) المنطق. هذا وبالرغم من أننا لا نستطيع أن نقدم ما هو الذي فوق الزمن إذا كنا نود أن نتحاشى التعبيرات التي تتضمن فكرة الزمن. لأن تعبيرات مثل “متى” و”قبل” و”بعد” و”من البدء” ليست خالية من معنى الزمن مهما على أي حال طوعناها إلا طبعاً إذا اعتبرنا الدهر أنه تلك الفترة التي تتزامن مع الأشياء الأزلية ولا تُقَسَّم أو تقاس بأي حركة ولا بدوران الشمس كما يقاس الزمن. لماذا إذاً ليسا بالمثل غير منبوعين ماداما أيضاً أزليين؟ لأنهما منه وإن كانا ليسا لاحقين له. لأن غير المنبوع أزلي ولكن الأزلي ليس بالضرورة غير منبوع مادام يُنسب إلى الآب كأصل له. لذلك فبالنسبة للسبب هما ليسا غير منبوعين مادمنا ننسب إلى الآب أنه مصدرهما. ومن الواضح أن السبب ليس بالضرورة سابق لآثاره فالشمس ليست سابقة لضوئها. إلا أنهما بمعنى ما بلا مبتدأ من ناحية الزمن (أى لا بداية زمنية لوجودهما)، حتى وإن كنت تُرعِبْ بسطاء العقول بمراوغاتك لأن مصادر الزمن لا يمكن أن تكون موضوعاً للزمن.
+ لقد دُعى “الكلمة” لأنه يُنسَب إلى الآب كما تنسب الكلمة إلى العقل.
4 ـ استعمال النماذج والأمثلة لشرح الثالوث الأقدس :
+ لقد تدارست هذا الأمر فى عقلي الخاص بتدقيق وقلبت الأمر من كل الجهات ومن جميع وجهات النظر لأجد بعض النماذج الموضِّحة لهذا الأمر الهام. ولكنني لم أجد شيئاً على هذه الأرض يصلح للمقارنة بطبيعة اللاهوت. لأنه حتى إن وجدت بعض التشابه الطفيف فإن الأكثر يهرب مني ويتركني فى الأسافل مع نموذجي. لقد تصورت عيناً، وينبوعاً، ونهراً، وهكذا فعل غيري من قبل، لأرى هل يتماثل الأول مع الآب والثاني مع الابن والثالث مع الروح القدس لأن في هذه لا فرق هناك زمنياً ولا ينفصلون عن بعضهم البعض وإن كانوا يتمايزون في ثلاثة شخوص. ولكني خفت أولاً أن أجعل فى اللاهوت سرياناً لا يمكن أن يتوقف. وفى المقام الثاني فإن بهذا النموذج نُدخِل وحدة رقمية لأن كلاً من العين والنبع والنهر هم عددياً واحد وإن اختلفت الأشكال. وفكرت ثانياً في الشمس والشعاع والضوء ولكن هنا أيضاً خفت أن يدخل في روع الناس فكرة التركيب وينسبوها إلى الغير مُركَّب. ومن ناحية أخرى لئلا ننسب الجوهر للآب وننكره على الشخصين الآخرين ونجعلهما مجرد قوتين إلهيين وليسا شخصين. لأنه ليس الشعاع ولا الضوء شمساً ولكنهما مجرد فيضاً من الشمس وصفات لجوهرها. وأخيراً وحسب هذا النموذج ننسب لله الوجود وعدم الوجود فى آن واحد وهذا أكثر رعباً.
5 ـ الأقانيم الثلاثة لهم ذات الجوهر الواحد :
+ إن أحادية الأصل هي ما نحفظه بتكريم. إنها مع ذلك أحادية الأصل (من جهة الثالوث بالنسبة للخليقة) غير المقصورة على أقنوم واحد بعينه. بل إنها ناشئة من تساوي الطبائع ووحدة الفكر وتطابق المشيئة والتئام المكونات نحو الوحدة -وهي ما تعجز الطبائع المخلوقة أن تصله. حتى أنه رغم التعددية فليس هناك أبداً انقسام في الجوهر.
+ فى رأيي إنه يدعى “ابن” لأنه يطابق الآب في الجوهر وليس لهذا السبب فحسب بل وأيضاً لأنه منه وكان يسمى الابن الوحيد ليس لأنه كان الابن الوحيد للآب. بل لأن بنوته كانت خاصة بشخصه ولا يقاسمه فيها أي جسد. وكان يسمى الكلمة لأنه يُنسَب إلى الآب كما تنسب الكلمة إلى العقل ليس فقط للإخبار عن ولادته التي بغير ألم بل أيضاً من أجل الوحدة ومن أجل وظيفته الإخبارية (الإعلانية).
+ والصورة هي من نفس جوهره
6 ـ المساواة بين الأقانيم الثلاثة :
+ ماذا يقولون إذن؟ هل يوجد نقص ما في الروح يمنعه أن يكون ابناً؟ لأنه إن لم يكن هناك نقص ما لكان ابناً؟ نحن نؤكد أن ليس ثمة نقص لأن في الله لا يوجد أي نقص. ولكن اختلاف التعبير، إذا استطعت أن أعبر عن نفسي هكذا، أو بالأحرى تبادل العلاقات بينهم أدى إلى اختلاف أسمائهم. وبالتأكيد ليس نقص ما هو ما يمنع الابن أن يكون الآب (لأن البنوة ليست نقصاً) ومع ذلك ليس هو الآب. وحسب هذا الخط من الجدال فلابد أن يكون هناك نقص ما في الآب لأنه ليس الابن لأن الآب ليس الابن، ومع هذا فليس ذلك لأجل نقص ما أو خضوع في الكينونة، بل لأجل هذه الحقيقة بعينها عن كونه: غير مولود أو مولود أو منبثق هو الذي أعطى الاسم الآب للأول والابن للثاني والروح القدس للثالث الذي نحن نتكلم بصدده فالتمايز بين الثلاثة شخوص محفوظ في الطبيعة الواحدة ومجد اللاهوت. ليس الابن “الآب” لأن الآب واحد مع أن له ما للآب، وليس الروح القدس ابناً لأن الابن واحد مع أن الروح من الله؛ وله ما للابن. الثلاثة في الله الواحد والله الواحد ثلاثة في الخصائص . حتى لا تكون الوحدة سابيلية ولا التثليث له الوجه القبيح (الذى للأريوسيين والأنوميين).
7 ـ الاشتراك في نفس الصفات التي للجوهر :
+ فإننا تعلمنا أن نؤمن ونُعلِّم عن ألوهية الابن من الكلمات السابقة العظيمة التي نطقوا بها وأى كلمات هذه؟ إن الله الكلمة كان في البدء ومع البدء وكان هو البدء “في البدء كان الكلمة، وكان الكلمة عند الله، وكان الكلمة الله” (يو1:1) و”معك كان البدء” “وهو الذي دعاها البداءة من أجيال” (أش41: 4). لهذا فإن الابن هو الابن الوحيد “الابن الوحيد الكائن في حضن الآب هو خبَّر” (يو1: 18). الطريق والحق والحياة والنور “أنا هو الطريق والحق والحياة” “أنا هو نور العالم” الحكمة والقوة “المسيح حكمة الله وقوة الله” الفيض والرسم والختم “الذي هو بهاء مجده ورسم جوهره” * و”صورة صلاحه” و”الذي ختمه الله الآب”. الرب والملك والقادر على كل شيء “أنزل الرب ناراً من السماء” و”صولجان حقه هو صولجان ملكه” و”الكائن الذى كان والآتى أيضاً والقادر على كل شيء”. كلها قد قيلت بوضوح عن الابن مع كل القطع الأخرى التى بنفس القوة قيلت. لم يُضَفْ أى منها فيما بعد إلى الابن أو الروح القدس ولا كان أى منها فكراً لاحقاً ولا عن الآب نفسه. لأن كمالهم لم يتأثر بالإضافات. لم يوجد وقت أبداً لم يكن فيه بدون الكلمة أو متى لم يكن الآب أو متى لم يكن الحق أو غير حكيم أو غير قوي أو خالٍ من الحياة أو السؤدد أو الصلاح .
+ إن الابن هو نموذح توضيحي مُركّز وتقديمه مُيَسّر لطبيعة الآب. لأن كل ما هو مولود هو كلمة صامتة لذلك الذي ولده.. “هو.. يدعى.. صورته لأنه من نفس جوهره ولأن الابن هو من الآب وليس الآب من الابن. لأن هذه هي طبيعة الصورة أن تكون نسخة من الأصل الذي تحمل اسمه وفي حالتنا هذه ما هو أكثر. لأن كل صورة هى إيماءة أقل تمثيلاً من التي أومئت بها ولكن فى حالتنا هذه هي نسخة حيَّة من (كائن) حي بل وأكثر شبهاً من شيث إلى آدم أو أي ابن إلى أبيه، لأن هكذا هي طبيعة الوجود لأنه ليس من الصواب أن نقول أنه يتشابه في جزئية ولا يتشابه في جزئية أخرى، ولكن هنا التماثل كامل ويجدر أن يقال عنه أنه تطابق بدلاً من تشابه. وبالأكثر من ذلك فهو يُدعَى النور حيث ينير النفوس ويطهرها بالكلمة والحياة لأنه إذا كان الجهل والخطية هي الظلام، والمعرفة والحياة حسب الله هو النور.ويسمى الحياة لأنه هو النور وهو المنشئ والقوة الخالقة لكل نفس عاقلة. لأن فيه نوجد ونحيا ونتحرك، حسب القوة المزدوجة التي للنسمة التي نُفِخَت فينا. لأننا جميعاً قد ألهمنا بالنفخة وكثير منا كانوا قادرين على ذلك وللآب نفتح أفواه عقولنا مع الله الروح القدس.
8 ـ الروح القدس ينبثق من الآب :
+ هذه هي الأسماء العامة للاهوت ولكن الاسم المناسب لغير المنبوع هو الآب وللمولود بلا بداية هو الابن وللمنبثق غير المولود الروح القدس.
9 ـ أحادية الأصل الأبوي في الثالوث الأقدس :
+ لماذا إذاً ليسا بالمثل غير منبوعين ماداما أيضاً أزليين؟ لأنهما منه وإن كانا ليسا لاحقين له. لأن غير المنبوع أزلي ولكن الأزلي ليس بالضرورة غير منبوع مادمنا نشير إلى الآب كأصل لهما. لذلك فبالنسبة للسبب هما ليسا غير منبوعين. ولكن من البيِّن أن السبب ليس بالضرورة سابق لنتيجته كالشمس مثلاً ليست سابقة لنورها.
+ الآب هو الوالد والباثق
10 ـ العطايا الإلهية هي من الآب من خلال الابن في الروح القدس :
+ إنه هو (الروح القدس) العطية، والهبة، والإلهام، والوعد، والشفيع لنا، وبدون الدخول في تفاصيل أكثر، فإن أي عبارات أخرى من هذا النوع، تُنسَب إلى السبب الأول (الآب) حتى يظهر (يتضح) ممن هو (الروح القدس)، وحتى لا يعترف الناس بثلاثة مصادر ( ثلاث آلهة مستقلة) على الطريقة الوثنية. لأن الخلط بين الأقانيم مع السابيليين (أتباع سابيليوس) يتساوى فى عدم التقوى مع تقسيم الطبائع مع الأريوسيين.
+ “لأن فيه نحيا ونتحرك ونوجد” حسب القوة المزدوجة في النفخة فينا، لأننا جميعاً نُلهَم بالنفخة، وكثيرون منا قادرون على ذلك وإلى الآن نفتح أفواه عقولنا لله والروح القدس .